ومن هنا “تقرر أن الإلقاء الإلهي بموجب الراحمية الإلهية، فقد ظهر أن الحق سبحانه يتجلى على من يُسمعهم ويُبصِّرهم، وهو يلقي بأوامره إليهم، باسم عظيم من أسمائه الحسنى وهو الشهيد؛ إذ يُحضر سبحانه لقلوبهم ما يُلقي به إليهم. وعندئذ يلزم أن يتضمن اسم الشهيد اسمَ السميع واسمَ البصير، بحيث تكون الشاهدية صفة ملكوتية رحموتية جامعة لـ”السامعية” و”الباصرية” كما تنص على ذلك نصًّا صريحًا الآية الكريمة: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(طه:46).و”إذا كانت الشاهدية خاصية يتجلى فيها القرب الإلهي، فليس هذا القرب عبارة عن “قرب رحمة” كما هو الشأن بالنسبة للآمرية فحسب، إذ هو عبارة عن “رحمة قرب”؛ فالشاهدية تدل على أن الشاهد الأعلى قريب، والقرب أصله رحمة، ويتخذ هذا القرب شكل “حضور ملكوتي”. يتبين أن “قرب الرحمة” يزدوج بـ”رحمة القرب” في الشاهدية الإلهية، حتى إن أحدهما لا يُعرف إلا بالآخر؛ فلا تتعرف الرحمة إلى حقيقتها في شيء تعرُّفها إليها في القرب، فماهية الرحمة هي القرب، كما أن القرب لا يتعرف إلى حقيقته في شيء تعرُّفه إليها في الرحمة، فماهية القرب هي الرحمة”.ويظهر أن الفقه الائتماري وقع في آفتين اثنتين، وهما الإلقاء البعيد والإيجاب البعيد، ورَّثتا المسلم تصورًا جلاليًّا للألوهية، مما أثر على عقله وسلوكه بالضيق والتشدد. وقد تدخل الفقه الائتماني لمعالجة هذا التصور، حيث استبدل الإلقاء البعيد بالإلقاء القريب الذي يجمع بين السمع والبصر، كما استبدل الإيجاب البعيد بالإيجاب القريب الذي يعيد الاعتبار لمبدأ الاختيار. هو الرحمة الإلهية التي تتجلى في كون الله سبحانه سميعًا بصيرًا وفي كونه سبحانه شهيدًا. وهكذا فإن الشاهدية تجمع بين الآمرية والراحمية، ومن ثم تُخرج الآمرية من التصور الجلالي القائم على الضيق والتشدد، إلى تصور جمالي قائم على السعة واللين، ومن ثم يجعل الأوامر الإلهية تتأسس على الرحمة وليس على القهر.ومن ثم فإن علاقة الإله بالإنسان -أو علاقة الآمر بالمأمور- في التصور الائتماني تُبنى على الراحمية الإلهية، وهذا يجعل الآمرية الإلهية تابعة للشاهدية الإلهية، فبحكم هذه الراحمية الإلهية لا تقوم الآمرية على مجرد الإلقاء بالأوامر ومجرد الإيجاب بإيقاعها، بل تقوم على الإلقاء المقترن بالإبصار وعلى الإيجاب المقترن بالاختيار، وذلك لأن الشاهدية الإلهية تجمع بين السامعية والباصرية، فتكون علاقة الإله بالإنسان -أو علاقة الشاهد الأعلى بالمأمور- هي علاقة إسماع وإبصار، أن المنظور الائتماني ينبني تصوره للآمرية الإلهية على أساس الرحمة والاختيار لا على أساس القهر والإجبار، أي أنها تقترن بسياق الرحمة فضلاً عن اقترانها بسياق الأسماء الحسنى، كما يتخذ منها دليلاً يدل على وجود الله سبحانه. ومن ثم فإن معرفة الألوهية تتحقق عن طريق التصور الجمالي لصفة الآمرية التي تتقدم على صفة الخالقية، ومن باب أوْلى على صفة الرازقية. وهكذا يكون التصور الائتماني أبدع دليلاً آخر يتقدم على دليلي الوجود والرزق وهو دليل الآمرية، لكنه لا يفصلها عن الشاهدية الإلهية كما ساد بذلك الاعتقاد في الفقه الائتماري في المجال التداولي الإسلامي، وكما تقرر عند أهل الحداثة من الدهرانيين في المجال التداولي الغربي، وإنما يجعلها تابعة للشاهدية التي هي صفة الحق سبحانه الخاصة، بشهوده لكل شيء وشهادته على كل شيء، كما أن الائتماني ينظر إلى الألوهية نظرًا ملكوتيًّا، حيث لا يقف المتزكي عند الظواهر، بل يتعداها للآيات والقيم المنطوية تحت هذه الظواهر، قصد الوصول إلى معرفة الألوهية تمام المعرفة حتى يأتيه اليقين.