كان هدف محمد عبده في جميع أعماله وكتاباته سد الثغرة القائمة في المجتمع الإسلامي، هي عدم الرجوع إلى الماضي وتوقيف مجرى التطور الذي بدأه محمد علي، بل إنما هو من مستلزماته الضرورية إذا ما فُهم على حقيقته، ولم يكن محمد عبده ليهتم، كما اهتم خير الدين في الجيل السابق، بالتساؤل إذا ما كان بإمكان المسلمين المتمسكين بأهداب الدين قبول مؤسسات العالم الحديث وأفكاره، وعند التدقيق في التاريخ الفكري لعبده، وكان يشعر دوماً بأن التاريخ والمصالح المشتركة بين الذين يعيشون في البلد الواحد تخلق رابطة عميقة فيما بينهم بالرغم من اخلاف الأديان. كما أثر أيضاً في نظرته إلى الأمة الإسلامية. فهو يعتقد أن أقوى نوع من أنواع الوحدة إنما هو وحدة الذين ينتمون إلى البلد الواحد. وأن انتساب غير المسلمين إلى الأمة لا يقل أصالة عن انتساب المسلمين أنفسهم إليها. كان محمد عبده يطلق على قبائل العرب في الجاهلية المصطلح القومي الحديث “الأمة العربية” التي رآها موجودة بوصفها حقيقة تاريخية قائمة قبل ظهور الإسلام. فجاء عنه على سبيل المثال قوله: “كانت الأمة العربي قبائل متخالفة في النزعات”، عن الإحاطة بما أودع في قوى أمة عظيمة كالأمة العربية كما أنه كان يتحدث في نطاق الإسلام ذاته عن “جند عربي” و “جند أجنبي” والنظر إلى هذه العناصر المسلمة باعتبارها أجنبية، والدولة العثمانية “التركية” ما زالت قائمة، وهذا يعني أن إصلاحه الديني المرتبط بالعودة إلى جوهر “الإسلام العربي” هو في حقيقته تمهيد تاريخي لظهور حركة القومية العربية والوحدة العربية ولكن الأمر الأكثر أهمية هو، أن محمد عبده لنزعته إلى القومية العربية، قد وفر الشرعية الدينية في زمنه لحركة التحرر القومي من الترك لتحقيق استقلال الكيان العربي عن الإمبراطورية العثمانية. حتى أننا نستطيع القول: إن بذور القومية العربية تم غرسها على يد محمد عبده، فهو يقول: “كان الإسلام ديناً عربياً، بعد أن كان يونانياً، ثم أخطأ خليفة في السياسة -يقصد المعتصم- فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيراً له، ظن أن الجيش العربي قد يكون عوناً لخليفة علوي لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي، خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، عندما أكثر من الجند الأجنبي فلم تكن إلا عشية وضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم، وصارت الدولة في قبضتهم ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين”. فمن الواضح أن محمد عبده بتركيزه على “فكرة القومية العربية” يخالف الفكرة الدينية الإسلامية الشمولية، ليعيد تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً عربياً صريحاً ذا طابع قومي قد لا يشاركه فيه مفكرون إسلاميون من قوميات أخرى. فهناك على أيامه وبعدها، من كان يقول بأن التنازلات التي قام بها للفكر الأوروبي الحديث خطرة وغير ضرورية، وبأن إعادة النظر في العقيدة والشريعة، لا بل كان هناك، حتى بين الذين تأثروا به وكان من حقهم الادعاء بأنهم من تلاميذه، من كانت عقليتهم على خلاف عقليته. فقد انقسم تلامذته بعد وفاته إلى جماعة “محافظين متحجرين” كانوا يسايرون معتقداته العامة المليئة بالبدع والضلالات، وإلى أصحاب الآراء “المتطرفة” في التقدم، فقد نظروا إلى الإسلام على أنه مبدأ حي يجب أن يستمر في التطور، وعلى أن النتيجة النهائية لهذا التطور ستكون علمنة المجتمع الإسلامي، وكان على رأس هؤلاء علي عبد الرزاق مؤلف كتاب “الاسلام وأصول الحكم” الذي نادى فيه بفصل الدين عن الدولة. وكان من بين هؤلاء د. الشيخ طاهر الجزائري (دمشق). إن محمد عبده لم يدرك أن التوتر بين الإسلام والمدنية الحديثة كان بحد ذاته توتراً دقيقاً، وكان من الصعب تعيين الحدود بين طرفيه، فنشأت نزعة دائمة عنده لتخفيف حدته بمحاولة “شبه واعية” للتوفيق بين وصايا الإسلام ومفاهيم الفكر الحديث، وسوف نرى لماذا فشل الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر بالنهوض بالمجتمع الإسلامي. إن المسألة الأهم التي واجهت الإصلاح الديني هي البحث عن إجابات إسلامية عن الأسئلة التي طرحتها الحياة آنذاك، إذ إن فكر الغرب وتقدمه المشخص قد فرض نفسه وبقوة على الجميع دون استثناء، الذين لم يجدوا بأساً في استعارة أفكار من لغة الغرب، تسمح لهم بالتعبير عن آراء اجتماعية ودينية في مشكلات الساعة، فعملية “عصرنة الإسلام” هذه قد دفعت بالمصلحين الدينيين الإسلاميين أن يكونوا متسامحين تجاه الخصوم الإيديولوجيين من الغرب، ومهدت السبيل أمام انفتاح المسلمين على عالم من الآراء والأفكار بعيدة عن حقيقة الإسلام. دون أن يبحث في شروط تقدم العلم الواقعية. فهل معرفة ما كان عليه المسلمون من التخلف -وما زالوا- يحتاج إلى اجتهاد ومقارنة -من قبل محمد عبده- مع الحضارة الغربية، فهذا أمر قد اتضح قبل محمد عبده بما يقارب ثمانية عقود من الزمن هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن معرفة ذلك تأتي عند الرجوع بحال المسلمين إلى مرجعية أهم من أوروبا، لا عند رجوعه إلى عصر الخلفاء الراشدين ومن قبلهم عصر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). قوله -محمد عبده-: ما من مرة أذهب إلى أوروبا إلا ويتجدد عندي الأمل في تغيير حالة المسلمين إلى ما هو خير منها وذلك بإصلاح ما أفسدوه في دينهم. إن الإصلاح الديني الإسلامي قد حصل نتيجة “غليان سياسي - ثقافي، كما حدث في الغرب. ولا يمكن تجاوز هذا الوضع إلا بعملية ذاتية تحدث في داخل المجتمع وفي داخل الفرد معاً. وكل خطوة تخطوها العقول في سبيل الكمال ليس إلا تقرباً إلى الإسلام. فالإسلام متقدم وتقدمي وأحوال المدنية ماثلة فيه. هو في الواقع محور عمل رجال النهضة من الإسلاميين. ومن هم من بين تعلقه بالحرية، بل وبالسلطة المدنية غير الدينية. فإنه قادر على إيجاد مبررات ذلك لا في الغرب وحده، بل تكفيه العودة إلى النص القرآني -وتأويله-. لقد فشلت العملية التوفيقية التي حاول الأفغاني وعبده القيام بها بين الغرب والإسلام في النهوض بالمجتمع الإسلامي، فطبيعة الظروف الجديدة حتمت أن يلمس الإسلام الحديث من الغرب ظواهره المادية المتفوقة قبل أن يدرك جوهره الحضاري الإنساني الداخلي، ولم يضطروا للخلط بين الجانبين،