في هذا المستوى المتدنَّى من علوم العربية: قراءة وكتابة، ثم هو كلام يفضي بنا إلى قضيةٍ ذات خطر، وأتاك بكل عجيبة وغريبة، فإذا أخذ في كلام، أو أدار قلمه على بيان خلَّط واعتسف وأخطأ، لأنهما ملاك الأمر كله - وهما التفسير والحديث، لكنك قل أن تجد منهم من اعتنى بهذا العلم الجليل «رواية» من حيث حفظ المتون وإتقان الغريب. وهو الذي أورثهم العجز الذي يأخذ بألسنتهم وأقلامهم، يبغض إلى طالب العربية «الحفظ» ويزهده فيه، ونقرأ لمسؤول كبير عن التعليم في مصر قوله: «ولا بد أن يدرك الطالب أن زمن الحفظ والصمامين قد انتهى». وذلك لأن تراثنا كله قائم على الرواية والدراية، ولذلك قالوا: «الرواية من العشرين والدراية من الأربعين». والجوهري صاحب «الصَّحاح» يقول في مقدمته: «قد أودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة = بعد تحصيلها بالعراق رواية وإتقانها دراية». فروي عن الأصمعي أنه قال: «كل علم لا يدخل معي الحمام فليس بعلم». ويريد أنه حافظه ومستحضره في كل وقت وعلى كل حال. وقال محمد بن يسير - من شعراء الدولة العباسية الأولى: فجمعك للكتب لا ينفع حفظ اللغات علينا فرض كفرض الصلاة فليس يُضبط دين وحسبك بقراء القرآن وعلماء القراءات، وقد قيل: - الحفظ الإتقان - وذلك ما رواه أيوب بن المتوكل قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته، سأله وتعلم منه، ولا يكون إمامًا في العلم من روى كل ما سمع، حفظ كلام العرب: ويقول ابن خلدون: «ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم، من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم». ويقول أيضًا: «وتعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه، وخالط عبارتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم». وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع. وهذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع، التي استنبطها أهل صناعة اللسان، وهذا الكلام الأخير هو الذي ينتهي إليه كلام الدكتور الربيعي، فإن «معرفة القوانين العلمية التي استنبطها أهل صناعة اللسان» هي «النظريات والمناهج» في أيامنا هذه. يقول أبو الفتح عثمان بن جني: «قال لنا أبو علي - الفارسي - يومًا قال لنا أبو بكر - ابن السراج -: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه، وآية ذلك أن صغار التلاميذ في دور الحضانة والروضة يرددون مع إطلالة كل صباح النشيد الوطني لبلادهم، وهم بالقطع لا يعرفون شيئًا عن معاني مفرداته فضلًا عن تراكيبه، وكل ذلك لضبط القاعدة وتثبيت الأحكام. ومع المنظومات المطولة في النحو والصرف كان هناك البيتان والثلاثة والأربعة لضبط القاعدة وترسيخها. بأَفْعُلٍ ثم أَفْعَالٍ وأَفْعِلَةٍ في السُّفنِ الشُّهُبِ البُغاةُ صورٌ صحبي سيبتدئون زجري طُلَّبًا و «سكت فحثه شخص» لضبط الحروف المهموسة. أنه قال: «يا رسول الله، وهنا انفرجت أسارير ابني، ولكنه ينبغي أن يكون مؤسسًا على نصوص محفوظة للتلميذ بها أنس ومعرفة سابقة. وأكتفي هنا ببعض الأمثلة: أمثلة من القرآن: وإنما هو بمعنى عظم، وفي لغة من باب تعب، فيضمون ياء المضارعة، والأفصح والأكثر فتحها، ولم تأت في كلام فصيح، ﴿ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [هود: 84]،