أول مجلة متخصصة في تاريخ العلم هي »إيزيس«Isis التي يصفها بأنها بالنسبة له»بمثابة الروح والمطمح والأمل«، ومنذ عام ١٩١٦م راح يلقي محاضراته فيجامعة هارفارد في الفلسفة، وجامعة هارفارد العريقة أصبحت مشهورة ومتميزة بالاهتمام بتاريخ العلم وعُمق وجديَّ ةأبحاثها فيه، ثم أصبحت المجلة منذعام ١٩٢٤م لسان حال »جمعية تاريخ العلم« التي ساهم سارتون في تأسيسها. وفيمابعد أصدر مجلة أخرى تنشر بحوثاً مطولة أكثر أسماها »أوزوريس«، فعمق انشغاله الحقيقي الأصيل بتاريخ العلم جعله شديد التقديرلدور الحضارات الشرقية القديمة وتاريخ العلوم عند العرب إبان العصور الوسطى فيرسم فصول قصة العلم العالمية، واضطلعسارتون بالتأريخ النظامي الممنهج للعلم منذ هوميروس إلى عمر الخيام حتى روجرزبيكون، ولكي يزداد تمكناً من التأريخ للعلم انتقل إلى المشرق في عامي ١٩٣٢-١٩٣١ملدراسة الإسلام واللغة العربية، وخلال النصف الثاني من القرن العشرين انتشرت هذه الأقسام الجامعية المتخصصةفي أنحاء شتى من العالم — للأسف الشديد ليس من بينها مصر والبلاد العربية — معظمهايحذو حذو أكسفورد وكمبردج في إنشاء قسم لفلسفة العلم وتاريخه معًا، حتى بدتهذه العلاقة على مستوى الأبحاث والأطروحات وكأنها مشكلة غير قابلة للحل، إلا بفضل تطوراتها الداخليةعلى يد الرواد المتأخرين من فلاسفتها المحترفين، وتدفق البحوث العلمية والمجلات المتخصصة والندواتوالمؤتمرات الدولية … كانت من العوامل القوية التي ساهمت في أن يحل الوعي بتاريخالعلم في صلب فلسفة العلم. وهؤلاء المحترفون المتخصصون في تاريخ العلم الذين برزوا فيالعقود الأخيرة ورثوا عن الرواد العظام تركة زاخرة، لكنها رؤى متنافرة خلقت توترًافي الميدان يستدعي تضافرًا منشودًا بين فلسفة العلم وتاريخه؛ ١٩٧٤م) فيلسوف العلم البارز بعبارته النافذة التي كانت قوية التأثير ٍّحقا: »فلسفةالعلم بدون تاريخه خواء، لقد كان إغفال أهمية تاريخ العلم قصورًا كبيراً في بنية التفكير العلمي وفلسفته، وبأن المعالجة المتكاملة للظاهرة تقتضي الإحاطة بأبعادهاالتاريخية، وجب علينا أن نمهد لمقبل الحديث بصورة عامة لتاريخ العلم أو لصيرورتهعبر مسار الحضارة الإنسانية. إنه أعظم شأناًوأجل خطرًا من أن تستأثر بإنجازه من ألِفِه إلى يائه حضارة معينة، Toynbee ١٩٧٥–١٨٨٩(م) فيدراسة التاريخ هو أنه لا توجد أمة في العالم يتأتى دراسة تاريخها بمعزل عن تواريخبقية الأمم، ثالثاً: متى يبدأ تاريخ العلم: الأصول الأنثروبولوجية إن العلم أنبل فعاليات الإنسان وأكثر أشكال الحضارة البشرية حضورًا وتعيناً وتمثلًاوأشدها إيجابية، ويمكن القول: إن العلم كموقف إنساني هو في جوهره أقدم عهدًا منالتاريخ، أوعلى أقل الفروض منذ العصر الحجري قبل بداية الحضارة الإنسانية وتاريخها المكتوببزمان سحيق. ما كان يمكناقتحامها ومحاولة دراستها إلا بواسطة مناهج للبحث وأساليب وأدوات ووسائل، المضادات الحيوية والحاسبات الإلكترونية والطاقة النووية والسفر عبر الفضاء… هذه المكتشفات بالغة التطور التي تثير الدهشة والإعجاب قد تبدو للوهلةالأولى وكأنها تنتمي لجنس آخر أو نظام مختلف من الوجود لا صلة له بإنسانما قبل التاريخ، هكذا يطرح كراوثر بواكير محاولات التحاور بين المخ وبين المعطيات الحسيةوالخبرات التجريبية أو بين الدماغ واليد، ربما انطوى هذا التأويل على قليل من العسف وشيء من المبالغة، وعلى أساسه يؤرخ للعلم من حيث هو سجلموثق لتطور العقل الإنساني في استجابته للظروف المحيطة به؛ بدءًًامن الحرب والعلاقات الدولية وانتهاءًً بأشكال التقسيم الطبقي ووقائع الحياة اليومية. ذلك أن برنال ماركسي متحمس فيحمل عرضه لتاريخ العلم تمجيدًاللقيم الاشتراكية وقدحًا في الرأسمالية والطبقات المهيمنة التي جعلت العلم أمدًا طويلًا— طوال العصور القديمة والوسطى — مهنة أرستقراطية محجوبة عن العقول الموهوبةمن جموع الشعب، وفي كلتا الحالتين المتقابلتين (دفاع برنال الصريح عن البروليتاريا ودفاع كراوثرالضمني عن البرجوازية) يكون الانطلاق من الفعالية الاجتماعية للعلم عبر التاريخ، وكأن هذه مسلمات تلزم الباحثين في هذا الميدانمهما تناقضت المشارب والرؤية الأيديولوجية للعملية الاجتماعية. إلا أنه — أي »موجز تاريخ العلم« أو »قصة العلم« لكراوثر — يخلو من التحزب ويصعبدمغه ببطاقة سياسية أو أيديولوجية، ويمكن اعتباره أنموذجًا للعرض المنهجي الشاملوالسلس لتاريخ العلم كفعالية إنسانية، تنبع من استجابة الإنسان للتحديات البيئية ثمالعوامل الاجتماعية التي ينبثق عنها العلم، أي بإنسان العصرالحجري ليصل كراوثر في النهاية إلى اختراع الحاسب الآلي وغزو الفضاء واقتحام سرالحياة، فضلًا عن أن يختتم الكتاب بنظرة مستقبلية هي بعض أحلام الإنسان التييرجوها من العلم، وهي نظرة ما زالت تحتفظ بنضارتها رغم تسارع التطورات العلميةالراهنة. والواقع أن رموز الأعداد — كما يؤكد كراوثر— اخترعت قبل اختراع حروف الكتابة مما يدل على أن التوجه العلمي متأصل في صلبأقدم مناحي الإنجاز الإنساني وفي بنية توجهه العقلي. وإذا صح هذا فلا غرو أن أصبحت التقانة »التكنولوجيا« البدائية والعلم البدائيمواضيع دراسية متخصصة، يتكرس لها باحثون جادون ليخرجوا بنواتج جيدة، بقدر ما تفيد مباحث تاريخ العلم الراغبة في تأصيل موضوعها، منقبيل التصورات العامة للتعاقب الزماني والأوزان والمقاييس وأوليات الحساب والهندسةوالطب والجراحة والهيدروليكا وطبقات الأرض وأنواع الحجارة — أي الجيولوجيا —وقد عرفوا مجموعة محددة من المعادن منها النحاس، لأن البيئة الإنسانية — بما هي إنسانية — تتأثر دائمًا بالأساليب الفنية التي يصطنعهاالإنسان لتيسير التعامل معها، بادئ ذي بدء يمكن الاتفاق مع عَلَم الأنثروبولوجيا البارز إدوارد إيفانز بريتشاردE. Evans-Pritchard ١٩٧٣–١٩٠٢(م) على أن النشأة الحقيقية المهيأة للنماءللمباحث الأنثروبولوجية كانت مع انشغال فلاسفة القرن الثامن عشر بالسؤال حولالحالة الطبيعية للإنسان، 10 لذا يمكناعتبار علم الأنثروبولوجيا وليد عصر التنوير الذي حكمته عقيدة العقل والعلم والتقدماللامحدود الذي تنجزه البشرية باطراد. ثم توطدت هذه العقيدةبفعل نظرية التطور الداروينية ونجاحها اللافت في تفسير الارتقاء الحيوي، نازعتها في بعض الأبعاد النظريةالانتشارية التي أسسها في إنجلترا إيليوث سميثE. وتزعم أن العنصر الحضاريينتشر من مواطن ظهوره إلى المواطن الأخرى، حتى إن مقاله»خمسون عامًا مع الأنثروبولوجياFifty Years in Anthropology « المنشور في المراجعة السنوية لهذاالعلم، 11 ويكاد يتفق الأنثروبولوجيون على أن الأنثروبولوجيا كعلمبدأت بالنظرة التطورية12 التي حكمت إطار الأنثروبولوجيا ومنطلقاتها، يعطينا كتابه الشهير»العقلية البدائية« صورة مُثلى لمنطلقات هذه المرحلة الأسبق من علم الأنثروبولوجيا التيتقطع كل صلة بين الأصول البدائية للإنسان وبين أشكال التحضر الحديثة وعلى رأسهاالعلم، بل هي محض خليط من الخرافات والسحر والغيبياتوالاعتقاد بقوى خفيَّ ة تحكم العالم، الإنسان البدائي — فيمايزعم بريل — يعجز تمامًا عن النظر إلى الطبيعة باعتبارها واقعًا موضوعيٍّا على نحو مايفعل الإنسان الأوروبي المتحضر صانع العلم. تتضح إذن بمزيد من الجلاء تلك النزعة العنصرية والاستعلاء الغربي، 11 فز جوردون تشايلد، ترجمة لطفي فطيم، مما يعني أن هذا التشويه الأيديولوجيبدوره من العوامل التي دفعت التفكير العلمي — ولو من بعيد — إلى الاقتصار علىالمعطى الراهن وإهمال تاريخ العلم. ولغة العلم »ليست إلا رموزًا مختزلةلتتيح أبسط تعبير ممكن عن تعاقب الانطباعات الحسية، وعلى الرغم من هذا يدافع جهارًا نهارًا في كتابه المذكور »أركان العلم« عنمشروعية إحلال الجنس الأبيض عنوة محل القبائل البدائية من السكان الأصليين فيأمريكا وأستراليا، (ويمكن أن نضيف إليهما فيما بعد فلسطين) ما داموا يعجزون عناستغلال الأرض وإثراء الحضارة والإسهام في المعرفة الإنسانية والعلم التجريبي. إنه إذن الهدف الأيديولوجي العنصري المشبوه: إضفاء المشروعية والتبرير لسؤددالغرب والاستعمار الإمبريالي والاستيطان في أراضي الغير. ولما كان التشويه الأيديولوجييستأثر بالعلوم الإنسانية دوناً عن العلوم الطبيعية — كما سنرى في الجزء الأخير منالفصل السادس — فلا غرو أن يجعل الدراسات الأنثروبولوجية نهباً مستباحًا له، الاستعمار احتاج إليها لترسيخ سيطرته على الشعوب المقهورة بأن يزداد علمًا بأوضاعهاوأحوالها ومعارفها، ففتح المجال للأنثروبولوجيين وأتاح لهم مِنحًَا وتسهيلات لم تتُحسابقًا للباحثين، وتسير نحوالعمل على تبريره عن طريق الحط من شأن الحضارات المستعمرة وتهوين قيمة معارفهاوإنكار دورها في قصة الحضارة، حتى إن تطرفه بمعية قيم الصدق التي لا بد وأن تبرز في الميدان العلمي …هذا جعل نظريته التي تقطع كل صلة بين الإنسان البدائي وبين أصول الحضارة والعلمتتعرض لنقد حاد من الأنثروبولوجيين أنفسهم، وفي سبيل إثبات تفرد وسيادة الإنسان الأبيض تتحامل بضراوة ولا موضوعية علىالإنسان البدائي الذي لا يصح أبدًا أن ننفي عنه أية قدرة منطقية، لقد بلغت ضراوة النقد الموجه إلى ليفي بريل ٍّحدا دفع بريتشارد إلى الزعم بأنبريل أسُيء فهمه، على الرغم من أنه هو نفسه رفض نظرية بريل »الذي يدرس العقولالبدائية بمعايير عقل تشكل في ظروف مغايرة. وضراوة هذا الاحتجاج ليست إلا أصداء ثورة عارمة هبت في ساحات الأنثروبولوجياعلى مصطلح »البدائية« ذاته، فيما عدا تلك التي تشكل جزءًًا من المدنية الغربية وأسلافها القدماء!« وظهرالانشغال بمصطلح البدائية وتحديده وإعادة تعريفه، فتبعًا لمنطق العلم تحررالعلم من التشويه الأيديولوجي يسير طرديٍّا مع تنامي ونضج المنهج فيه، فإن هذه الفترات ليست حدودًا فاصلة بين مراحل متمايزة كل التمايز بقدر ما هي حالاتمن التغير المتسارع التي تمهد لظهور حلقات حضارية جديدة ضمن تلك العملية الواحدةالمتصلة، ومن الناحية الأخرى تطور علم الأنثروبولوجيا بالبحوث الميدانية الحقلية التي تعتمدعلى الاتصال المباشر بالثقافات البدائية وإدراك أنها ببساطة ثقافات إنسانية، ولم يعد متآلفًا مع النظرة العلمية إلغاء الماضي أو نفي الآخر بناء على تقدمالحاضر ورقي الأنا، لقد تدخلت النسبويةRelativism الثقافية التي تعطي لكل حضارة قيمتها بالنسبة لظروفها ولعصرها. والذي يضرب بسهمه فيالطرح المتكامل لتاريخ العلم، يكون من الملائم تمامًا أن نختم الحديث بالوقوف معالرائد العظيم، عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الإنجليزي ذي الأصول البولندية برنسلومالينوفسكيB. فجهوده العلمية الرصينة ساهمتفي دفع الأنثروبولوجيا وإرساء علميتها، فقد بدأ مالينوفسكي حياته الجامعية بدراسةالرياضيات والفيزياء، وبعد أن أبلى فيهما اجتذبته العلوم الإنسانية. فمن أجل دراساته الأنثروبولوجية أقام أربع سنوات فيجزر التروبرياندTrobriand قُرب أستراليا (من ١٩١٤م إلى ١٩١٨م)، ويمكن اعتبار الدراسة التي تعرضنا لها سابقًا— عن مبدئيات العلم والتكنولوجيا عند قبائل الأزتك — تطبيقًا للتعاليم التي أرساهامالينوفسكي للمعنيين بهذه المجالات. في عام ١٩٣٦م أخرج مالينوفسكي دراسة هامة بعنوان »السحر والعلم والدين« تعُدفي طليعة الأبحاث الرائدة التي تلقي الضوء على الأصول الأنثروبولوجية بظاهرة العلم. بادئ ذي بدء يسلم مالينوفسكي تسليمًا بأن العلم الحديث هو هذه القوة المتعملقةالدافقة في سياق الحضارة المعاصرة، وتفتح دومًا أفقًا أعلى وأبعد في متواليةلتقدم يتسارع؛ وأكثرها حسمًاوجزمًا وفعالية … العلم بهذه الصورة التي تنامت في العصور الحديثة لا وجود له بالقطعفي المجتمعات البدائية، بيد أن العلم بشكل عام هو أساسًانمط من المعرفة تستند على الملاحظات التجريبية لوقائع العالم في إطار من افتراضالنظام والاطراد في الكون وما شابه هذا من خطوط منطقية أولية، والمعرفة العلمية بهذا التوصيف المبدئي لا بدحاضرة في كل مجتمع إنساني مهما كان بدائيٍّا. فلولا المساحة التي تنفرد بها أصول التفكير العلمي من ملاحظةللطبيعة واعتقاد راسخ بنظام فيها، لما سارت عمليات الصيد والزرع وسائر الفنونوالحرف والصنائع التي تقيم الحياة البدائية. Tylor ١٩١٧–١٨٣٢(م) مؤسس علمالأثنولوجيا الحديث بدور الدين في المجتمعات البدائية، فضلًا عن كتابه المترجم إلى العربية »الفولكلور في العهد القديم« الذي يعرضللأصول الأنثروبولوجية أو الأصول الفكرية البدائية لمضمونات التوراة. وبعد السحروالدين يأتي مالينوفسكي ليهتم بدور العلم في المجتمعات البدائية وإبراز تمايزه عنالسحر وعن الدين. فالدين مختص بالعالم العلوي والحياة الأخرى وما بعد الموت، ربما كان كل إنسان بدائي مؤمناً بقوة السحر الخارقة وقدرة التمائم والتعاويذ علىصد الكوارث الطبيعية الجامحة والغير متوقعة كالفيضان والأعاصير والزلازل والأوبئةوهجوم أسراب الحيوانات الضارية … لكن الإنسان البدائي لن يترك أصوليات حرفته أوزراعته أو طهوه للطعام … إلخ ارتكاناً على السحر فقط، ولكنه أيضًا لا يأخذ بالرأيالمناقض تمامًا من قبيل الرأي الذي يأخذ به عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الأمريكيذو الأصول الروسية ألكسندر جولدنفايزرA. Goldenweiser ١٩٤٠–١٨٨٠(م) الذييرى تماثلًا ٍّتاما أو تطابقًا بين الميول العلمية في العقلية البدائية والميول العلمية فيالعقلية المعاصرة. والأدنى إلى الصواب موقف وسط نعتمده عبر هذه السطور ويأخذ بهمالينوفسكي وهو يؤكد فقط الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم في المجتمعات البدائية… وبالتالي في العهود السحيقة من الحضارة الإنسانية ثم تطورها عبر اتجاهات تطورالحضارة الإنسانية. وإذا اتفقنا على الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم التي تجعل العلم يمتد بجذورهإلى العصور الحجرية فيوازي وجوده وجود الإنسان، رابعًا: العلم عبر الحضارات على أن رجحان كفة الحضارة الفرعونية لا ينفي دور جيرانها الفينيقيين الذينفاقوها براعة في ركوب البحار وبعض المعارف المتصلة بهذا، فهذه المنطقة في شرق آسيا مهد من مهود نشأة الحضارةالإنسانية، وبالتالي افتقر العلمالصيني منذ بواكيره وحتى مشارف العصور الحديثة إلى المنطق البرهاني والرياضياتالاستنباطية والأصول النظرية التي برع الإغريق في صياغتها، وظلت الرياضيات الصينية دائمًا متعثرة مرتبكة يعتمد ُّ العد فيها على استخدامالعصي، ولم يعرفوا الترقيم العربي الهندي واستخدام الصفر ولا عرفوا شيئاً عن حسابالمثلثات، Huff عوضوا ذلكبتوظيف فلكيين عرب في بكين منذ القرن الثالث عشر، وفي هذا التاريخ عرفوا لأول مرةالترقيم والنظام العشري والصفر واستخداماته، فهو نظام أوتوقراطي يهدف إلى إعدادموظفين للحكومة المركزية البيروقراطية، بخلاف ابتكارات أخرىكثيرة كالساعة المائية والورق والبارود … لذلك فإن جوزيف نيدهام، هذا العالم الذيترك معمله ليكشف عن دور الصين في تاريخ العلم وتاريخ الحضارة وخرج بإنجازاتكبيرة وفاصلة في هذا الصدد تمثلت في موسوعة ضخمة من سبعة أجزاء عن تاريخالعلم والحضارة في الصين، وفي غضون القرنين الأول والثاني الميلاديين كانتالصين قد بلغت قمة من قمم التقدم العلمي والتقاني عبر التاريخ؛ وعلى سبيل المثال ارتبطتمعارفهم الأولية لمواقع الكواكب وحركتها بمعايير ضبط الحياة اليومية، فقد استوعبت ميراثها وواصلت المسير لتمثل المرحلة التالية في قصةالعلم المناظرة لقصة الحضارة، فتحالباب أمام نزعات الاستعلاء الغربي للزعم بأن العلم بدأ مع الإغريق من نقطة الصفرالمطلق بإهدار تام لدور الحضارات الشرقية القديمة، وعبر فجوة باهتة مظلمة هيالعصور الوسطى قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حافظ الأمانة الذي أدخل عليهابعض التجديدات، فيغدو السؤدد الحضاري والسيطرة على العالمين نصيب الغرب المشروعومكانه الطبيعي، وبدأت الديمقراطية في أثينا … إلخ … إلخ… فيبدو الغرب هو الفاعل الوحيد لكل فعل حضاري، ولأن العلم فارس الحلبة في الحضارة الحديثة فإنهيستأثر بنصيب الأسد من هذه الملحمة الزائفة التي تؤكد نقطة البدء مع الإغريق؛ تراجع ذلك الزعم وبدأ الإدراك الواضح لدور كل الحضارات بفضل جهود جورج سارتونوجوزيف نيدهام وأمثالهما، هذا لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل حتى جاهرأرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرغين لممارسة فضيلتيالتأمل والصداقة! لقد كان العلم الإغريقي هو المقابل الصريح للعلم الصيني، لذا ففي أعقاب المرحلة الإغريقية — الهلينية الخاق