بالرغم من التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية التي حدثت بعد قيام دولة العباسيين، لم يحدث تطور في الأدب يتناسب مع هذه التحولات، إلا بعد انقضاء وقت طويل، وبعد رسوح التغيرات الجديدة في كيان الدولة وفي النظام الاجتماعي، وبعد أن أصبحت التحولات الفكرية جزءاً كيانياً من المجتمع العباسي. ولكن ليس معنى ذلك أن الأدب ظل واقفاً لا يتحرك ولا يتحدد مع أحوال مجتمعه، فماذا تعني إذن حين نقول إن الأدب لم يتطور مع الانقلابات السياسية والاجتماعية التي حدثت للمجتمع العربي بعد قيام الدولة العباسية؟ تعني أولا أن هذا التطور لم يحدث مباشرة بصورة ميكانيكية عفوية، بمجرد حدوث تلك الانقلابات بل حدث على مراحل متطاولة متشابكة لا تظهر بينها الحدود والفواصل الحاسمة، ثم يتعادلان، ثم تظهر الغلبة للجديد بعد أن يكون قد نما واشتد ساعده واكتملت رجولته من مظاهر هذا الصراع مثلا، ثم التخلص إلى الموضوع المقصود فجأة مهما كان الموضوع مدير فخراً أو رثاء، بل لو كان غزلاً أو نسيبا، وأن نرى هذا الفريق يحرص على أن تك لغة القصيدة ذاتها من لغة أهل البادية، تجلجل الأجراس بأعناق الإبل في جوف الصحراء القفر الموحشة الساكنة. وفي الوقت نفسه، وفي محيط بغداة أو البصرة أو الكوفة ترى فريقا . الشعراء يحاول التمرة على هذه التقاليد، ولكنها محاولة ثائرة حيناً وحدا متحفظة وجلة أحياناً، وهذا الفريق الذي يحاول التمرد إنما يمثل روح الجديد الذي يتحرر ويهتز مع حركة التطور العامة، وهو يريد أن يعبر عن طبيعة هند الحضارة الجديدة، بأسلوبها الناعم وترفها، وبأشياء الحياة اليومية المستجدة فيها وبأفكارها ومعانيها ومشاهدها العمرانية والطبيعية من قصور وحدائق وملا وغلمان وقيان وغناء ورقص وخمر. هذه المعركة ذاتها وجدت ميداناً رحباً أيضاً في قضية الأوزان الشعرية، فإنه حين شاع الغناء في مدن العراق وفي بغداد بالأخص، وأصبح حاجة يومية من حاجات أهل القصور، وتهيأت له العناصر البشرية من الجواري والقيان، والعناصر الأدبية من شعر الغناء الصوتية، هنا كان لا بد من معركة بين الحفاظ على أوزان الغام الشعر الغنائي القديم، ومحاولة تحوير هذه الأوزان بحيث تتلاءم مع حاجة ) الجديد إلى قصر المسافة بين النبرة والنبرة، والنغمة والنغمة والفاصلة والقاصة والوقفة والوقفة، والى قصر السلم الموسيقي نفسه بجملته، أي أن هذه الملامة احتاجت إلى الأوزان الشعرية القصيرة بينما كان الغناء القديم يعتمد الأوزاد الطويلة. ولكن يلاحظ أن المعركة في هذا الميدان لم تكن القوة فيها للقديم، بل يبدو أن الجديد هنا كان على جانب من القوة استطاع به أن يفرض نفسه على القديم دون أن يعاديه، فالطويلة للأغراض الكلاسيكية كالمدح والرثاء وأمثالهما، ولم يستحدث العباسيون منها سوى اثنين، هما المقتضب والمضارع. على أن معركة القديم والجديد هذه لم تستمر حدثها إلا ريثما أخذ الجديد مكانه في الحياة العباسية واكتمل نموه وتطوره وذلك منذ القرن الرابع الهجري عهد أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء والشريف الرضي، اذ نضجت الحركة العلمية و اختمرت الحياة الاجتماعية والفكرية في عقول الأدباء ووجداناتهم حتى صارت الصلة بينهم وبين هذه الحياة صلة عقلية وجدانية كيانية،