الرجل المختار عاش في العصور الماضية كثير من العظماء الذين تواترت الأنباء بأوصافهم السماعية وأوصافهم المرسومة في الصور والتماثيل. غير أننا لا نعرف أحدًا من هؤلاء العظماء تمت صورته السماعية أو المنقولة كما تمت صورة محمد عليه السلام من رواية أصحابه ومعاصريه، فنحن نعرفه بالوصف خيرًا من معرفتنا لبعض المخلدين بصورهم وتماثيلهم التي نقلت عنهم نقل الحكاية والمطابقة، إلا أنها لا تحفظهم لنا كما حفظت الروايات المتواترة أوصاف النبي في كل حالة من حالاته وكل لمحة من لمحاته؛ لأن الذين وصفوه وأحبوه وأحبوا أن يقتدوا به فتحرجوا في وصفه كما يتحرج المرء في الاقتداء بصفات النجاة والأخذ بأسباب السلامة، فكانت أمانة الوصف هنا مزيجًا من العطف والتدين وضربا من اتباع السنن وقضاء الفروض، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: دخل النبي ﷺ على أمي فوجد أخي أبا عمير حزينا. فقال: يا أم سليم ما بال أبي عمير حزينا؟ فقالت: يا رسول الله مات نُغَيرُه تعني طيرا كان يلعب به. ومثل هذا عطفه على الضعف البشري في رجل مثل عبد الله الخمار الذي لقب بهذا اللقب لما اشتهر به من السكر والدعابة، وربما قصد النبي ببعض هذه الدعابات لطمعه في حلمه وعلمه بموقع الفكاهة من نفسه: جاء أعرابي إلى الرسول فدخل المسجد وأناخ راحلته بفنائه، فنحرها نعيمان وخرج الأعرابي فرأى راحلته فصاح: «واعقراه يا محمد!» فخرج النبي يسأل: «من فعل هذا؟» قالوا: «نعيمان» . فاتبعه النبي حتى وجده بدار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد فأشار إليه رجل ورفع صوته: «ما رأيته يا رسول الله. فأخرجه رسول الله وقد تعفر وجهه بالتراب فقال: «ما حملك على ما صنعت؟» قال: «الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني» فجعل رسول الله يمسح عن وجهه التراب ويضحك . وطلب إليه بعضهم أن يحمله على بعير فوعده أن يحمله على ولد الناقة فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة ؟ فقال : وهل تلد الإبل إلا النوق ؟ وكان عليه السلام يقول لحاضنته السوداء أم أيمن وهي عجوز: «غطي قناعك يا أم أيمن!» وسمعها في يوم حنين تنادي بلكنتها الأعجمية: «سبت الله أقدامكم!» فلم تنسه الغزوة القائمة أن يصغي إليها ويداعبها بين نذر الحرب وصليل السيوف. وكان يتطيب ويتحرى النظافة ويقول الصحبه اغتسلوا يوم الجمعة ولو كأسًا بدينار. » وقد تختلف العادات الاجتماعية بين جيل وجيل في شئون عرضية لا تتصل بلباب الذوق والشعور، ويخرج أناس بالثياب السود ويخرج غيرهم بالثياب البيض وهي عرضيات يقاس بها عرف البيئة ولا يقاس بها تهذيب الطباع، وإنما الضير فيما يتناول الطبع السليم والذوق الحسن وهما الخصلتان اللتان كان عليه السلام قدوة فيهما لكل رجل مهذب في كل أمة وفي كل زمان . وصاحب هذه الآداب رسول وخلاصة سمته وآدابه أنها سماحة في الأنظار وسماحة في القلوب فالسماحة هي الكلمة الواحدة التي تجمع هذه الخصال من أطرافها، ومن يكون الرسول إن كان لا بد من تعريف وجيز لعلامات الرسالة ؟ الرسول هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير مما يتعاطاه من معاملات الناس، لأن عمل الرسول الأول أن يقيم للناس وازعًا يأمرهم بالحسن وينهاهم عن القبيح ويقرر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم، ومن كان هذا عمله الأول فينبغي أن تكون صفته الأولى - بل صفته الكبرى - أن يستغني عن الوازع وأن يغني الناس عن محاسبته وطلب الحق منه. وهذه هي السليقة السابقة الشاملة التي سرت في خلائق محمد وامتزجت بجميع أعماله وأقواله فلم يحاسبه أحد قط كما حاسب نفسه في رعاية حق الصغير والكبير، فليس للنوع البشري أصل من أصول الفضائل يرمي إلى مقصد أسمى وأنبل من تقديس تلك المناقب التي كان محمد قدوة فيها للمقتدين. عزيمة الزهد والإيمان وليس أولى بالحب والتبجيل ممن يطلب خير الناس ويزهد في نعمة العيش وهي بين يديه. وقالت عائشة رضي الله عنها: «لقد كنت أبكي رحمة له مما أرى به وأمسك بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع . آمن به أو لم يؤمن؟ أيقول إنه رسول وإنه كان يعلم أنه رسول فصدع بأمر ربه واحتمل ما احتمل في سبيل طاعته وفي سبيل إصلاح خلقه ؟ تلك إذن منزلة الأنبياء التي تستوجب له مقام أصفياء الله عند من يؤمن بالله. فإذا قنع بما قنع فإنما فعل ذلك ليرتفع بإيمانه عن ظنه هو لا عن ظنون غيره كأنه يخشى إذا استوفى حظوظ النعيم الميسرة له أن يحسب تلك الحظوظ غرضًا من الأغراض التي نظر إليها حين نظر إلى هداية الناس. وإذا هدى الناس وكفى كانت الهداية هي جملة الآمال وغاية الآمال. فلينقص حظه من العيش ليكمل حظه وحظ أمته من إيمانه، وليتم بذلك حسابه لنفسه وحسابه عند حساب رجل هو وازع نفسه في السر والعلانية،