الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله واله وصحبه لكن حرصي على مصارحتك بالوضعية التي تمر بها البلاد دفعني لجعل هذا الخطاب يشكل وقفة وطنية جماعية تتجاوز التذكير الموءلم للاحداث الارهابية للدارالبيضاء إلى استخلاص الدروس والتدبر في تصحيح مسار الأمة. ومهما تكن فظاعة هذه الجرائم الارهابية فاننا نحمد الله تعالىعلى ما أحاطنا به من ألطاف. وان اعتزازنا الكبير بإجماعك على إدانة الارهاب في التحام مكين بعرشك والتزام بمكاسبك الديمقراطية لا يعادله إلا تساوءلنا الملح: كيف يمكن تحويل هذه الادانة من غضب جماهيري إلى مواجهة عقلانية لكل مظاهر الانحراف. وهل قام كل منا بالنقد الذاتي الكفيل بجعل المصائب مصدر قوة واعتبار لتصحيح الاختلالات. انني من منطلق الامانة العظمى المنوطة بي في التعبير عن انشغالات الأمة أقول: اننا كلنا مسؤولون فرادى وجماعات سلطات وهيآت أحزابا وجمعيات عن البناء الجماعي لمجتمعنا الديمقراطي الحداثي الذي هو مشروع الأمة بأسرها. وإدراكا مني بان تحصينه من موءامرات أعداء الوطن والدين والديمقراطية لايكون ناجعا إلا بالادراك الواضح لجوهره وأبعاده فقد ارتأيت ان نقف جميعا عند مرجعياته ووسائل تحقيقه ومرتكزاته. أما مرجعيات الملكية الدستورية المغربية فأكتفي اليوم بالتأكيد على مقوماتها المتمثلة في الإسلام والديمقراطية. فمنذ أربعة عشر قرنا ارتضى المغاربة الإسلام دينا لهم لقيامه على الوسطية والتسامح وتكريم الانسان والتعايش مع الغير ونبذ العدوان والتطرف والزعامة باسم الدين. وفي ضوء هذه التعاليم السمحة شيد أسلافنا حضارة إسلامية ودولة مغربية مستقلة عن الخلافة المشرقية متميزة بالعمل في ظل وحدة إمارة المؤمنين وبالسماحة الدينية وبوحدة المذهب المالكي. فقد تمسك المغاربة على الدوام بقواعد المذهب المالكي المتسم بالمرونة في الاخذ بمقاصد الشريعة والانفتاح على الواقع وعملوا على إغنائه باجتهاداتهم، فهل الشعب المغربي القوي بوحدته المذهبية الدينية وبأصالته الحضارية بحاجة اليوم إلى استيراد مذاهب دينية أجنبية عن تقاليده. ولقيام الإسلام على الدعوة للسلم والامن والوئام فقد أدرك المغاربة ان الجهاد في أسمى معانيه هو جهاد ضد النفس الامارة بالسوء وضد الفتنة، كما انه اجتهاد وتنافس في العمل الصالح. وقد تم تحديث هذا الالتزام الديني والتاريخي المستمر طبقا للبيعة الشرعية بتعاقد سياسي دستوري عصري أجمعت الأمة من خلاله على اعتبار الإسلام دين الدولة والملك أميرا للمؤمنين. فهل يقبل المغاربة المتشبثون بهذه المقومات الحضارية والدستورية الراسخة ان تأتي شرذمة من الخوارج عن الشرع والقانون لتضليلهم باسم الدين. بل أقول بلسانك شعبي العزيز اننا لن نقبل أبدا اتخاذ الإسلام مطية للزعامة باسم الدين أو القيام بأعمال الارهاب وتمزيق الوحدة المذهبية للأمة والتكفير وسفك الدماء. وبنفس القوة فاننا نؤكد ان علاقة الدولة بالدين محسومة في بلادنا في ظل تنصيص الدستور على ان المملكة المغربية دولة إسلامية، وان الملك أمير الموءمنين موءتمن على حماية الدين وضمان الحريات بما فيها حرية ممارسة شعائر الاديان السماوية الاخرى. وباعتبار أمير الموءمنين مرجعية دينية وحيدة للأمة المغربية فلا مجال لوجود أحزاب أو جماعات تحتكر لنفسها التحدث باسم الإسلام أو الوصاية عليه، فالوظائف الدينية هي من اختصاص الامامة العظمى المنوطة بنا بمساعدة مجلس أعلى ومجالس إقليمية للعلماء نحن مقبلون على تأهيليها وتجديدها وتفعيل أساليب عملها. وبهذا المنظور المتنور لمرجعيتنا الدينية يتكامل الإسلام مع الحداثة مشكلا رافدا أساسيا من روافد المرجعية الكونية منسجما مع دعامتها الكبرى ألا وهي الديمقراطية التي جعلناها عماد الملكية الدستورية المغربية وخيارا لا رجعة فيه. وعلاوة على الاجماع حول الثوابت والتوافق على حد أدنى من القواعد فان ترسيخ الديمقراطية لن يكتمل الا بوجود أحزاب سياسية قوية. ان انشغالنا الصادق بإعادة الاعتبار للعمل السياسي بمعناه النبيل يجعلنا نجدد التأكيد على وجوب التعجيل بإقرار قانون خاص بالاحزاب تجسيدا لحرصنا الاكيد على تمكينها من الوسائل الناجعة لتفعيل دورها على الوجه الأكمل. ويتعين على هذا القانون ان يتوخى تقوية دور الاحزاب في تأطير وتمثيل المواطنين كافة بمنع تكوينها على أساس ديني أو عرقي أو لغوي أو جهوي، كما يجب تمكينها من التمويل العمومي لانشطتها بكل شفافية بما يكفل قربها من الانشغالات الحقيقية للمواطنين واقتراح البرامج الواقية والحلول الملموسة لمشاكلهم وتعبئتهم في كل القضايا محلية كانت أو وطنية في تكامل وانسجام مع منظمات المجتمع المدني. لقد مكن ترسيخنا للمسار الانتخابي من بلوغ بلادنا مرحلة النظام الديمقراطي المعتاد في اجراء كل اقتراع في موعده القانوني وانهاء انشغال الطبقة السياسية فقط بالمواعيد الانتخابية. بيد ان هذا التقدم سيظل شكليا إذا لم يتم تحصينه بحسم الاشكال العميق التالي : هل سنتعامل مع الانتخابات على أهميتها كلحظة عادية في حياة الأمة لاعطاء المؤسسات دما جديدا ونفسا قويا. أم سنتمادى في النظر إلى الانتخاب على انه المعركة الوحيدة الحاسمة. وهل سنستمر في تأجيل البت في القضايا المهمة للأمة إلى ما بعد إجراء الانتخاب أو تعليق انجاز مشاريع الاصلاح الكبرى بدعوى قرب الاقتراع. وفي هذا الصدد أولينا البعد الاجتماعي والاقتصادي مكانة الصدارة في السياسات العمومية بتركيز الجهود على المشاريع الاساسية للقضاء على أحياء الصفيح بتوفير السكن اللائق وتحقيق التنمية البشرية بالتعليم النافع، فهل كانت المنجزات في مستوى الاستجابة لوضوح التوجهات وأهمية الرهانات والنهوض الكامل بالمسؤوليات. لقد دق خطابنا لعشرين غشت 2001 ناقوس الخطر منبها إلى خطورة انتشار السكن الصفيحي والعشوائي لما له من أثر سلبي على كرامة المواطن وما يشكله من تهديد لتماسك النسيج الاجتماعي داعيا إلى اعتماد برنامج وطني تضامني مضبوط المسؤوليات وبعد سنتين وبدل ان أعاين خلال زياراتي التفقدية لاقاليم المملكة القضاء التدريجي على السكن الصفيحي ألاحظ بمرارة انتشاره في عدة مدن. وذلكم انطلاقا من المواطن الذي يدفع اليوم رشوة لمسؤول قد يأتي غدا بالجرافة ليهدم "براكته" أمامه إلى مختلف السلطات العمومية والجماعات المحلية المتهاونة في محاربة انتشار مدن الصفيح بدل التشجيع على توفير السكن اللائق. ان تشبعنا بالروح الايجابية يجعلنا نعتبر ان الوضعية وان كانت مقلقة فانها غير ميوءوس منها إذا تجندنا لمعالجتها بكل استعجال وحزم وإلا فقدنا التحكم فيها تاركين مدننا تتحول إلى بوءر للاقصاء والانغلاق والحقد والتواكل بدل ان تكون فضاءات للتضامن الاجتماعي والانتاج الاقتصادي والازدهار العمراني والانفتاح الحضاري. وهذا ما لا أرضاه لبلدي وشعبي الذي أتولى أمانة قيادته ضمن ملكية تستمد قوتها من تجذرها وقربها من الشعب ولذلك أحرص على تفقد أحوالك ميدانيا طول السنة في مختلف الجهات لتحفيز المبادرات وتفعيل مشاريع التنمية. وقد اكتفيت لحد الان بتوجيه السلطات العمومية والمنتخبة كل في نطاق اختصاصه لينهضوا بمهامهم كاملة عن قرب لانه لا يمكن لملك البلاد ان يقوم بعمل الوزير أو العامل أو رئيس جماعة محلية ولاني حريص على ممارسة كل سلطة لصلاحياتها بروح المسؤولية والفعالية. ونهوضا بالامانة العظمى فاني لن أسمح بالتهاون في القيام بالشان العام بحيث سأحرص على تفعيل كل أشكال المراقبة الصارمة والمحاسبة الحازمة لانه إذا كان كل منا راعيا ومسؤولا عن رعيته فان خديمك الاول راع لهذه الأمة وموءتمن على شوءونها العامة. وإذا كان تحرير كل المغاربة من الفقر المادي يتطلب جهودا لعدة أجيال فان بالامكان تحريرهم في أمد منظور من الجهل والامية الفكرية والانغلاق وغيرها من الفقر المعنوي الذي هو أسوأ أحوال التخلف. ولن يتأتى لنا ذلك الا بالاصلاح النوعي لنظام التعليم وخصوصا البرامج والمناهج التي يتعين تنصيب اللجنة الدائمة الخاصة بها المنصوص عليها في الميثاق. لقد بذلت الدولة مجهودا كبيرا لتحسين الاوضاع الاجتماعية لنساء التعليم ورجاله وتحفيزهم على الانخراط القوي في تفعيله. واننا لنناشد الاسرة التعليمية الالتزام بالامانة الملقاة على عاتقها في التربية السليمة لفلذات أكبادنا بروح التجرد واستحضار جسامة المسؤولية عن أعظم استثمار نخوضه الا وهو الاستثمار في تأهيل الطاقات الشابة المورد المستقبلي للأمة. وفي هذا الصدد فاننا ندعو المجلس الاستشاري لحقوق الانسان الذي يعبر عن مختلف مشارب الأمة إلى وضع مشروع ميثاق وطني لحقوق المواطن وواجباته وكذا الانكباب على اعداد الاقتراحات اللازمة لسد الفراغات التشريعية في مجال محاربة كل أشكال العنصرية والكراهية والعنف. ولان بلدنا يعرف انتقالا شموليا يتطلب تعزيز قدرات الرصد والتدبر والتوقع فقد قررنا احداث معهد ملكي للدراسات الاستراتيجية ينكب على هذه المهام الحيوية للتحكم والتفاعل مع التحولات العميقة الداخلية والخارجية. ولتحقيق ذلك فليس أمامنا الا مواصلة تحديث وظائف الدولة في توفير مناخ الثقة والاستقرار وضمان سيادة القانون والحرص على مهام الضبط والتقويم وتعبئة الطاقات. لقد أظهر التضامن الدولي الواسع مع بلادنا اثر الجرائم الارهابية التي استهدفتها مدى المكانة البارزة التي يحظى بها المغرب لدى المجموعة الدولية باعتباره نموذجا متميزا للانتقال الديمقراطي الرزين وقطبا جهويا مشهودا له بالتمسك بفضائل الحوار والتفاوض والاعتدال والتسامح وفاعلا قويا في دعم الامن والسلام والشرعية والوفاء بالتزاماته الدولية. وكما عبرنا بالتزامنا بنموذجنا الديمقراطي عن تصدينا الجماعي للارهاب والانغلاق فاننا مدعوون لترسيخ مكانة بلادنا البارزة بمواصلة التفاعل الايجابي مع التحولات المتسارعة والمتشابكة للعولمة. والتزاما بهذا المنظور دعونا إلى ديبلوماسية جريئة ونافذة جاعلين من الجوار والتضامن والشراكة التوجهات الاساسية لعملها الفعال. ومن هذا المنطلق فاننا حريصون على تمتين علاقات بلدنا مع جيرانه الاقربين وفي مقدمتهم أشقاوءنا في الاتحاد المغاربي الذي لا سبيل إلى بنائه على أساس سليم الا بايجاد حل سياسي ونهائي للنزاع المفتعل حول أقاليمنا الجنوبية في اطار سيادتنا الوطنية ووحدتنا الترابية. وكيفما كان الحال فاننا نؤكد ان المغرب قد طوى على الصعيد الداخلي استرجاعه المشروع للاقاليم الجنوبية وانه معبأ بكل قواه للدفاع عن وحدته الترابية، كما نولي عناية خاصة لجوارنا الاورومتوسطي بالاسهام في التفعيل الامثل لمسار برشلونة تجسيدا للامن الشامل بمختلف ابعاده معربين عن تقديرنا العميق لتجاوب شركائنا في الاتحاد الاوربي مع تطلعنا لاقامة علاقة متقدمة معه أقل من العضوية وأكثر من الشراكة. كما ان تجاوز عقود من السلبيات والاحباطات لن يتحقق الا باعادة توجيه التضامن العربي نحو الاندماج الاقتصادي وفق اعلان أكادير واقامة نظام عربي جديد ومتماسك، وبنفس الروح التضامنية سنواصل دعم مسار التنمية المستديمة والمساهمة في اخماد بوءر الصراع باتخاذ مبادرات المصالحة لاحلال السلام في القارة الافريقية تأكيدا لانتمائنا العريق اليها أو على صعيد بلدان الجنوب نهوضا بالتزامنا كرئيس لمجموعة السبعة والسبعين زائد الصين باقامة علاقات اقتصادية دولية متوازنة ومنصفة لها. أما الشراكة التي نحرص على توسيع مجالها الاقتصادي النوعي فينبغي ان تشكل توجها فعالا لديبلوماسيتنا سواء مع بلدان الجوار والتضامن أو مع الدول التي نتطلع لاقامة شراكة معها، وسترمي بها ذاكرة الشعب المغربي الحافلة بالامجاد إلى مهملات التاريخ بعد استخلاص كل العبر منها. ويطيب لنا في هذا اليوم الاغر ان نشيد بما تتحلى به قواتنا المسلحة الملكية والدرك الملكي والامن الوطني والقوات المساعدة والوقاية المدنية من يقظة وتعبئة في سبيل الحفاظ على الامن والاستقرار ولا سيما تلك المرابطة في أقاليمنا الجنوبية، ونجدد بهذه المناسبة الغالية تأكيد عزمنا الراسخ على تمكينها جميعا من الوسائل المادية والبشرية والقانونية للقيام بواجبها على الوجه المطلوب في حفظ الحوزة الترابية وأمن الاشخاص والممتلكات.