لكنه سرعان ما أضحى خريفاً عربياً مستداماً، معظم أرجاء العالم العربي، منذراً بتبعات خطيرة ليس أقلها تفكيك بعض الجيوش العربية التي يُحسب لها حساب في منطقة الشرق الأوسط. فمنذ بداية عام 2011، وتزكّي أوارها القوى الكبرى وبعض دول الجوار. وهذا يعني أن استهداف بعض الجيوش العربية لا علاقة له بالشعارات الرنّانة المندرجة تحت مسمّى الربيع العربي، بل هو استكمال لمؤامرة كبرى تُحاك ضد العالم العربي وتنفيذ لمخطط الشرق الأوسط الجديد. وعلى ضوء ما يجري في بعض الدول العربية، أن استنزاف وإشغال الجيوش العربية وتفكيكها وإنهاكها الى أكبر حد ممكن هي مسألة خططت لها الإدارة الأميركية أو الاسرائيلية، ويتمثل الهدف الرئيسي لهذا المخطط في تحويل بلدان هذه الجيوش الى بلدان فاشلة عملياً وغارقة في الاضطرابات والقلاقل والاقتتالات، بحيث يسهل تفتيت هذه البلدان وتحويلها الى دويلات طائفية ومذهبية مما يتيح ارتهانها واستلاب مقدّراتها وبخاصة الثروة النفطية والحفاظ على أمن اسرائيل. والواقع أن هذا الوضع العربي الخطير هو نتاج عوامل وأسباب عديدة ومتنوعة، وتشكيل الجيوش لخدمة السلطان والتباعد بين العسكر والشعب بحيث تحولت هذه الجيوش الى أداة لقمع الشعب، أما الأسباب الخارجية فتتمثل في تدخل القوى الكبرى وبعض دول الجوار في شؤون العالم العربي وإزكاء نار الفتنة، خاصة مع بروز المنظمات الإرهابية المذهبية المتطرفة. وإذا سلمنا جدلاً بأن هيبة الدولة وسلطتها وأمنها واستقرارها مرهونة بتماسك جيشها وقوته (أجهزة وتجهيزاً)، فإن تفكيك الجيش وإنهاكه وإضعافه هو بمثابة تدمير لكيان الدولة بكل مقوماتها. وهذا ما قد يؤدي الى تفتيت الدولة- الأمة الى دويلات طائفية ( سنية وشيعية) او إثنية ( عرب وأكراد)، وبالتالي تفقد الدول العربية كامل مقدراتها. دون أن ننسى أن لبنان هو جزء من الكتلة العربية وواحد من دول الطوق. وفي حال استمرار استنزاف الجيوش العربية القوية، كيف سيكون مستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي، وخاصة بالنسبة للبنان؟ علماً بأنه جرت عدة محاولات تستهدف تفكيك الجيش اللبناني (خاصة في معركة نهر البارد التي أبدى فيها هذا الجيش بطولات نادرة) والعودة به الى نموذج الحرب الأهلية ( 1975-1990). تكمن في تسليط الضوء على مشهد الصراع العربي- العربي، خاصة فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، لأن تفكيك الجيوش العربية ذات الشأن وإضعافها يمنح إسرائيل دوراً فعالاً في منطقة الشرق الأوسط ويهمّش دور الدول العربية مجتمعة. خاصة في حال تحقق مشروع الشرق الأوسط الكبير وتشظت الدول العربية الى دويلات طائفية وإثنية. - تبيان الأسباب والعواقب الوخيمة ، خاصة حيال الصراع العربي- الإسرائيلي - المساهمة في تقديم توصيات ومقترحات قد تساعد على وقف النزف وإعادة اللحمة الى الجيوش العربية المتفككة والحؤول دون تفكك الجيوش العربية التي لم تدخل حتى الآن في صراعات مميتة، خاصة بالنسبة للجيش اللبناني. أما و بالنسبة للإشكالية فتكمن في القدرة على تحديد الأسباب الحقيقية وراء سقوط هذه الجيوش، خصوصاً وأنني محكومة بالإلتزام بالحدود المرسومة للرسالة ، وقد تمثلت الخطوات الأولى في تجميع أكبر عدد ممكن من المصادر والمراجع ( كتب، مع مراعاة تعددية واختلاف وجهات النظر. فكان ضمن المنهجية الآتية: و تغييب الذاتية إلا فيما يتعلق بمحبتي لوطني لبنان. - الوصفية: بمعنى استعراض كيفية إنهاك القوى العسكرية في بعض البلدان العربية، - الاستقراء والاستنباط: الاستقراء هو الانتقال من الجزئي الى الكلي او، الانتقال من حالة او عدة حالات وتعميمها. أما الاستنباط فيعني الانطلاق من العام الى الخاص، بعبارة أخرى، - حدود الرسالة: و هي ذات وجهين: مع الأخذ بعين الاعتبار عدم مسؤوليتي عن أية أحداث تستجد إثر الانتهاء من إعداد البحث. خاصة سوريا والعراق واليمن وليبيا. و إذ تناولت الدراسات الغزيرة والمتنوعة مجمل حيثيات "الربيع العربي". وبغية التقيد بحدودالرسالة، ارتأيت تقسيمها الى فصلين: - الفصل الأول ويتناول دوافع وأهداف الصراعات العربية واستنزاف جيوشها وإنهاكها. - الفصل الثاني ويتناول انعكاس هذه الصراعات على المواجهة العربية – الإسرائيلية ومصيرها و تداعي مقومات صمود الدول العربية. بكل موضوعية، كما أتقدم ايضاً بالشكر لكل من أسهم في مساعدتي على إنجاز هذا البحث، سواء كان ذلك بتزويدي بالمعلومات ذات الصلة أو بالدعم المعنوي الذي قدمته عائلتي الحبيبة. هذا من دون أن أنسى التقدم بالشكر من حضرتي المشرفين على الرسالة الدكتورين المحترمين المحامي انطوان سعد وفؤاد نهرا واللجنة الفاحصة الذين قدموا لي المشورة في كيفية إنجاز رسالتي هذه آملة" أن أكون قد التزمت بقواعد إعداد رسائل الماجستر وأديت الغاية منها وحققت أهدافها، وبين هذه وتلك ليس لنا إلا ان نؤمن ونجهد والله ولّي التوفيق. الفصل الأول: الصراعات العربية-العربية مما لا شك فيه أن الصراعات العربية الراهنة، خاصة أن ما يجري في بعض بلدانها حتى الآن يقابل بلا مبالاة الحكام العرب تجاه أوطانهم وشعوبهم، متجهة، في منطقة جيواستراتيجية واقتصادية شديدة الأهمية. وما انفكت الصراعات الأهلية تتفاقم، منذ بداية عام 2011، في ظل انهيار الدول العربية المركزية، وكما يحصل اليوم في سوريا واليمن وليبيا، والى حد ما مصر. الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية والديموغرافية، وبخاصة العسكرية. بدأت هذه الصراعات بما أطلقت عليه تسمية " الربيع العربي". لكن هذا الربيع لم يزهر ولم يثمر وفق تطلعات الشعوب العربية الطامحة الى الحرية والعيش الكريم، وكانت البداية يوم 17 كانون الأول عام 2010، في مدينة سيدي بوزيد التونسية، تضامنأ مع البوعزيزي، لتنتشر بعد ذلك في مصر وليبيا وسوريا واليمن. لكن تنحي الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والرئيس المصري حسني مبارك خفف من وطأة العنف، فيما استمر العنف في الدول العربية الأخرى المذكورة. لم يقف الأمر عند حد الاحتجاجات السلمية، بل اشرأبت أعناق منظمات إرهابية متطرفة، مما اضطر جيوش هذه الدول الى مواجهتها. والتعليم، الخ. وقد يكون من المتعذر، لذلك، سوف نتناول في الفقرة الأولى من البحث مسألة تفكيك جيوش بعض الدول العربية ودوافعها، وفي الفقرة الثانية التداعيات الناجمة عن هذا الوضع. الفقرة الأولى: دوافع وأهداف تفكيك الجيوش العربية كثيرون من القادة والمفكرين والسياسيين العرب والمسلمين والأجانب ناقشوا نظرية المؤامرة التي تتعرض لها الدول العربية منذ مطلع القرن العشرين وما زالت تتعرض. وكثيرون أيضا رفضوا نظرية المؤامرة وأكدوا أن ما يتعرض له الوطن العربي إنما هو صنيع ونتاج العرب أنفسهم أنظمة وشعوباً بعد أن حصلت هذه الأنظمة العربية على حريتها واستقلالها من الإستعمار. وهناك تيار ثالث من المفكرين اتجه إلى الأخذ بحل وسط يرتكز على تضافر جهود الدول العظمى مع القادة العرب للوصول بالشعوب العربية إلى ما وصلت إليه بإعتبار أن هذه الأنظمة هي نتاج الإحتلال والإستعمار الذي قسم العالم العربي إلى دويلات وممالك وجمهوريات واخترعوا لها التسميات من إمارات وملكيات وجمهوريات بعضها ثوري وبعضها رجعي ولكن كل الأنظمة العربية تصف نفسها دائما بأنها ديمقراطية . هكذا وصفت مرجعية في شؤون سياسة الشرق الاوسط والتي تطرقت إلى بعض الوثائق السرية التي وضعتها الدول الغربية والإتفاقات التي توصلت إليها في مطلع القرن العشرين وتدرجت في استعراض بعض مراحل التاريخ العربي الحديث حتى نصل إلى المرحلة الراهنة التي صنفها سياسيو الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة بأنها مرحلة «الربيع العربي» والفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد. الفقر، الخ. . وهذا ما يدفع الشعوب الى المطالبة بحقوقها بمختلف الوسائل. وفي مقدمتها مؤامرة تفعيل مخطط الشرق الأوسط الجديد، وأكدته كونداليزا رايس فيما بعد. وتفكيكها وإعادة تركيبها من جديد، وتأمين مصالح أميركا وروسيا ودول الجوار. فبمَ تتجلى هذه الدوافع والأهداف؟ من الواضح أن الأهداف الخارجية تتجلى بالآتي: يشكل مشروع الشرق الأوسط الجديد الهدف الرئيسي. فالأحداث الجارية اليوم في منطقة الشرق الأوسط تثبت ما طرحه هنري كيسنجر، حيث قال " بأنه سيجعل المنطقة تغرق في حروب عربية- عربية لا يُعرف فيها القاتل من المقتول. حيث يتم في هذه الحروب العربية المدعومة من حثالات الشعوب وأبالستها وثعابينها، من القاعدة ونصرة وتكفيريين ووهابيين، في تل أبيب، إلا أنه، وإن طال تحقيقه فقد أصبح هناك من يقرأ تفاصيل الأحداث في المنطقة العربية، وإن كان على مراحل (3). وبالفعل بدأ تحقيق هذا المشروع من خلال " الربيع العربي" . إذ تجد فيه مصلحتها التامة والنهائية. القائلة بخلق فوضى عارمة في الوطن العربي لمدة مئة عام، وهو ما يجري في دول عربية معينة كالعراق وليبيا وتونس والسودان ومصر وغيرها بالإضافة الى العمل على خلخلة وتدمير البيئة العسكرية العربية" (1). فلم تتردد الولايات المتحدة في تنفيذ مخططاتها الجهنمية، وجاءت البداية عام 2003، حلّ الجيش العراقي بغية إعادة تشكيله من جديد. وتم تدمير ما تبقى من كيان وهوية الدولة العراقية. وهذا المشروع يقضي بخلق قوس من عدم الاستقرار والفوضى والعنف، مروراً بدول شمال أفريقيا" (4). الضابط المتقاعد في الجيش الأميركي فقد كتب مقالاً " بعنوان " حدود الدم، ويذكر أهمها: الأكراد والشيعة العرب. وهو يتوقف ايضاً عند مسيحيي الشرق الأوسط، فمن أجل أن يعيش الشرق الأوسط في سلام، أن تعود الى حدود ما قبل 1967، بل إلــى الأراضي مــا حول القدس، ويقول إنـــه ما دامت المدينــة يعبق تاريــخها بالدم، فمشكلتها لن تُحل في حياتنا (5). أ)- تقسيم مصر: تقضي الخطة الإسرائلية – الأميركية بتقسيم مصر الى: (1)- سيناء وشرق الدلتا ( تحت النفوذ اليهودي)، وتتسع مرة أخرى لتضم ايضاً جزءاً من المنطقة الساحلية الممتدة حتى مرسى مطروح. (3)- دولة النوبة المتكاملة مع الأراضي الشمالية السودانية، (4)- مصر الإسلامية، تضم الجزء المتبقي من مصر، ويُراد لها أن تكون ايضاً تحت النفوذ الإسرائيلي، (1)- عام 1982، تنتهي الأولى عام 2020، وعليه فإن حوالي 65 في المئة من السكان لا نصيب لهم في السلطة التي تمسك بها نخبة من الأقلية السنية. وفضلاً عن ذلك، توجد في الشمال أقلية كردية". و بعد إخراج صدام من الحكم بات الشيعة يشكلون الأغلبية الحاكمة. بغداد، الموصل). وهذا يتم بفصل منطقة الجنوب الشيعية عن كل من منطقة السنة في الوسط، واعتبر أصحاب هذه الخطة أن أهمية تقسيم العراق تفوق أهمية تقسيم سورية، دولة سنية حول حلب، ولم يكن لبنان بمنأى عن هذا المخطط التقسيمي، عاصمتها بعلبك وخاضعة للنفوذ السوري، كانتون فلسطيني حول صيدا وحتى نهر الليطاني، ملحق "ب"). الخ. يحدونا التساؤل: هل يتحقق حلم الشرق الأوسط الجديد في ظل التدخلات الخارجية في الصراعات الدائرة في العالم العربي، وحتى الخطط الاستراتيجية تمر بشكل سلس، والثوابت هنا تعني المصالح (9). لذلك من المؤكد أن هناك خطوط من القرن الماضي استمرت والى الآن بين روسيا وأميركا حول المصالح واقتسام القضايا الموجودة في الشرق الأوسط. وبالتالي، فالسيناريو الموجود في سوريا هو جزء من خطة". بقيادة روسيا، ومعظم يهود إسرائيل وفدوا من الاتحاد السوفياتي. بعبارة أخرى، يبدو أن سياسة روسيا تجاه إسرائيل لم تتغير. وعليه، فبدل أن تدخل إسرائيل وأميركا في كل كبيرة وصغيرة في الملفات الساخنة داخل الدول العربية " المعادية" لإسرائيل، بينما هي في الحقيقة أكبر حلفاء إسرائيل، بحكم أن اللوبي الصهيوني هو من يدير أميركا وروسيا في آنٍ معاً. فهذا يعني أن روسيا تخفف الضغط عن أميركا وإسرائيل بطريقة تخدم المصلحة الروسية، الأميركية و الإسرائيلية (10) النبذة الثانية: دوافع وأهداف خارجية أخرى البند الأول: تعويم الكيان الصهيوني لم تشهد الدولة العبرية منذ قيامها عام 1948 مرحلة من السلام والطمأنينة بقدر ما هي عليه الحال اليوم. إن واقع الجيوش العربية هو أعظم هدية من الممكن أن تقدم لإسرائيل. جميع العرب متلهون بتصفية حسابات داخلية، البند الثاني: إزدهار تجارة السلاح جاءت أزمة الربيع العربي في حقبة كانت فيها مصانع السلاح التقليدي " تعاني من أزمات حادة في الإنتاج والتسويق. أدت المعارك بتلك الأسلحة التقليدية الى إعادة انتعاش هذه المصانع، عبر تكثيف المتدفقات التسليحية الى منطقة الشرق الأوسط. على سبيل المثال، استغلت الثورات العربية لتعزيز صادراتها من الأسلحة التقليدية الى المنطقة. وقد وصلت قيمة التعاقدات الأميركية والروسية والصينية مع دول المنطقة من العام 2010 وحتى العام 2014 الى نحو 460 بليون دولار أميركي (12). هذا إضافة الى ضخامة حجم مبيعات الأسلحة لدول الخليج العربي، نتيجة التهويل الغربي بالخطر الإيراني التي فاقت الألف مليار دولار أميركي. وحظر النفط العربي عن الغرب، عاشت الولايات المتحدة أسوأ أزمة نفطية في تاريخها. وقال كارتر إن تهديد منابع النفط يعني مباشرة تهديد الأمن القومي الأميركي، النبذة الثالثة: دوافع وأهداف داخلية ثمة العديد من الدوافع الداخلية التي أدت الى زعزعة الكيانات العربية المعنية بالدراسة. بيد أن المحللين يشددون على متغيرات النظام السياسي ونوعيته وعلى الظروف الاقتصادية السائدة. والملاحظ أن اشتداد المعارك وتفكيك الجيوش وانهيار الأمن القومي يتركز في البلدان العربية التي تتحكم بها السلطات العسكرية، يكشف لنا المشهد العربي الراهن أن الصراعات الأشد عنفاً تتركز في الدول التي وصل حكامها الى السلطة عبر الانقلابات العسكرية ( العراق، ليبيا واليمن)، وبالتالي بنوا جيوشاً قوية، وهذا ما قد يخلق أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية خطيرة تحول دون أي توجه ديمقراطي. ومن ناحية خطورتها، فالمساعدات الاقتصادية والسياسية والحربية التي تُعطى للزبائن الإقليميين مع التركيز على نقل السلاح بصفة أساسية تزيد الصراعات التهاباً. وهي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والعرب وإسرائيل. وليست ملكية عامة للدولة والأمة. وتحولت المؤسسة العسكرية العربية من جيش للشعب الى جيش لطبقة سياسية معينة. والعنجهية العسكرية المتمثلة بفوهة البندقية" (15). حسب نورفيل دي اتكن*، وايضاً انصراف الجيوش العربية الى تكريس نشاطها العسكري لحماية النظام السياسي القائم وليس لحماية تراب الوطن" (15). * نورفيل دي اتكن: ضابط أميركي متقاعد،