تَضارَبَتِ الآراء حينَ أَعْلَنَ خادِمُ بن زاهِرٍ استياءَهُ مِن حُسَينِ صاحِبِ (البومِ ) قائِلًا: «إِما أَن تُعطينا حقوقنا كامِلَةً، ». مُنذُ تِلكَ اللّحظَةِ كانَ عَلَيهِ أَن يُؤَمِّن لُقَمَتَهُ وَلُقمَةَ عَيَّالِهِ مِن صَيْدِ السَّمَكِ. يَتَباعَدونَ عَنهُ كَمَن أَصابَهُ الحَرَبُ ، يَحمِلُ شِباكَهُ عَلَى ظَهْرِهِ مُتَظَاهِرًا باللامبالاةِ، كانَت ثَنِيَةُ تَوَدُّ أُحَتَهَا مِيرَةً زَوجَةَ ابن زاهِرِ، وَتَحرِصُ عَلى زيارتها، في كُلِّ مَسَاءٍ بَعدَ صَلاةِ المَعْرِبِ، وكانَت تَصطَحِبُ مَعَها ابنَها عَبدَ اللهِ ذا الأعوام الثمانية ليلعَبَ مَعَ وَلَدي حالتهِ سَليمَةَ التي تَكبُرُهُ بِأَربَعَةِ أَعوامٍ، رَيثَمَا تَذهَبُ الأُختانِ إِلَى بَيتِ عَمَّتِهِما عوشَةَ؛ حَيثُ يَتَسامَرُ الثلاثُ حَتَّى بَعدَ صَلاةِ العِشَاءِ، ثُمَّ تَعودانِ لِتُحَرحِرَ أُمَّ عَبدِ اللهِ وَلَدَها وَهو في حالَةٍ أَقرَبَ إِلى النّومِ مِنها إلى اليَقَظَةِ. هَكَذا كانت تمضي أُمسياتُ عَبدِ اللَّهِ الصَّغير، كما كانَ يُناديه ابْنُ زَاهِرٍ، عَدا الأَمسَيَاتِ القليلَةِ التي يَكونُ فيها والده قد عادَ مِن السَّفَرِ، فَهو يأْتي وَحدَهُ إِلَى بَيتِ حَالتهِ مِيرَةَ، يقضي الأطفالُ لَيْلَتَهُم يَلْعَبُونَ مَلِكٌ أو وَزِيرٌ بِأن يَقذِفَ أحَدُهُم عُلبَةَ كبريت في الهَواءِ، فإن سَقَطَتْ عَلى رأسها كانَ القاذِفُ مَلكا، فيحكمُ عَلَيه المَلِكُ بِالضّربِ، وَيَقومُ الوَزِيرُ بِتَنفيذ العُقوبَةِ. تَدورُ العُلبَةُ عَلَى الثَّلاثَةِ فَيَنتَقِلُونَ بِبَساطةٍ شَدِيدَةٍ مِن مِلك إلى وزيرٍ إِلى لِص. - تَهَدهدُهُم - أَتَمَنِّى لَكُم نوما هانا. بِسَلامِ اقْتَرَبَت الشَّمسُ مِن البَحرِ تأهّبتْ ميرَةُ لِإنجاز أعمالِها كَعادَةِ أَهلِ البَلَدِ، وَقَبلَ الرّحيلِ إِلى مَنازِلِ الصِّيفِ. لِتَفتَرِشَ الحَصيرَ في صَحنِ البَيتِ، وَتَرَتِّبَ عَلى أَحَدٍ أَطرافِهِ طَيّاتِ فِراشِ النومِ، لِذَلِكَ. وَبِالقُربِ مِنهُ تَغرِزُ عُلبَةَ الصفيح في الرمل، وهو يُهمهم سأصنعُ واحِدَةً مِثلَها بِهَذِهِ الحِبال، قم واصطَدْ لَنا بَعضًا مِن السَّمَكِ. - اتَّفَقَت مَعَ يوسُفَ عَلَى ذَلِكَ، يَهِيمُ في الطُّرُقاتِ، يَقولُ كَلامًا غَيْرَ مَفهوم، - نَحْنُ نَفَهَمُهُ - . وَظَلَّ يُتابعُ ما بَداهُ في تِلكَ اللَّيلَةِ، كانَ يَتأَمِّلُ عَودَةَ والِدِهِ مِن السَّفَرِ، وَكانَ مُبارَكٌ قَد رافَقَ أُختَهُ لِعِيادَةِ صَديقَتِها هِدايَةَ، غادَرَت المَرأَتَانِ إِلَى عَمَّتِهِما ، تُطرّزُ نَفْسَها بِنُجومٍ فِضَّيَّةٍ، وهي تَلحَفُ الأرضَ بِصَبرٍ جَميل ، وَقَد خَضَعَ ( الفريجُ ) لِصَمتتٍ مُتعِبٍ، تَغَلَّبَ عَلَيهِ حِوارُ الرَّجُلِ والطفل. وَيَصدُرُ مِن عاداتِ ابنِ زاهِرٍ عِندَما يَسْرَحُ بِفكرِهِ، صَوتًا يُشبِهُ زَهْزَقَةَ العَصافيرِ. تَعَلَّمَهُ مِن أَحَدِهِم في البَحْرَينِ: «المَجدُ لِلْفُقَراءِ». واسْتَمَرَّ يُصدرُ زَقزَقَةَ العَصافيرِ وَهو يَشفِطُ ما تَبَقّى مِن سَمَكِ العِشَاءِ بَيْنَ أَسنانِهِ، فَعَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الحرِّ وَظَلَّ الصَّغِيرُ يُصغي لِتُغاءِ الماعِزِ والخرفانِ في طَرَفِ الحوش. أَرادَ أَن يَنسى، لم يكترث الصَّبِيُّ لِما حَدَثَ، وَظَلَّ يُتابعُ ابْنَ زاهِرٍ في صَمتٍ عَميقٍ، وَقَد أَسَنَدَ ذَقَنَهُ الصَّغِيرَ إِلى رُكِبَتِهِ وَكأَنه أَسلَمَ نَفْسَهُ لِلتَّخَيُّلات. أَخَذَتِ النِّشْوَةُ ابْنَ زَاهِرٍ، فَانقَلَبَ مُنكَبًا عَلى بَطَنِهِ، أَو نَائِمًا عَلَى جَنبِهِ، رافِعًا رَأسَهُ عَلَى رَاحَتِهِ، حَتَّى أَخَذَتْهُ سِنَةٌ مِنَ النّومِ. وَتَذَرّعَ الصغيرُ بِالصِّبرِ، وَقَد اكتفى بِأَنْ يَنظُرَ إِلى النَّائِمِ، كَانَ كل شَيءٍ فيها كما كانَ إلى أنْ قَفَزَ خادِمُ فَجأةً، وَسَألَ الصَّغير الواحِمَ : « ألم يأتيا بَعدُ؟! رَدَّ عَليه عَبدُ اللَّهِ بِتَناقُلِ: لَيسَ بَعدُ يَا أَبَتاهُ عاودتهُ نَوبَةُ الزَّهْزَقَةِ، وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ سَأَلَ عَبدَ اللهِ مُشيرًا بيدِهِ إِلى المِدْياعِ ألم تَنتَهِ هَذِهِ ( اللغايَةُ ) وَرَدَّ الصغيرُ فِي شِبه لا تَخلُص بِسُرعَةٍ. لا تَعرِفُ شَيئًا». - كانت غَلطَةٌ مِن الصّغيرِ لا يَعرِفُ كَيفَ فَلَتَتْ مِنهُ فَصَرَخَ ابْنُ زاهِرٍ في وَجهِهِ: «ما تَقولُ يا جاهِلُ؟». اعتَدَلَ الرّجُلُ فِي جِلسَتِهِ، وَأَخَذَ نَفَسًا عميقًا إلى أن هدأت حالتُهُ ونسي، فَأَخَذَ يَتَلَفْتُ ذَاتَ اليَمِينِ وَذاتَ اليَسارِ، ضَحِكَ الرّجُلُ وَقالَ: «أَعْطِنِي اليَحلَةَ لِأَشْرَبَ. لَم يُحاوِلِ الصغيرُ. «هَهُ. قُل أَجيرٌ عِندَ حُسَينِ في بومِهِ المَبني عَلى السُّحَتِ. تَرَكَني الكلبُ أَكابِدُ الحُزنَ بَعدَ أَن غَمَرَنِي بِالدِّيونِ». صاحَت أُمَّ كُلثوم في غَفَوَةٍ الكَلامِ أَعطني حُرِّيتي أطلقْ يَدي . لَكِنَّهُ لَيسَ لَيسَ كَوَجَعِ الدّاءِ، إِنَّهُ أَشَدَّ». بِالطَّبع لَم يفهم الصغيرُ، لَكِنَّهُ أَحَسٌ بوخزاتٍ مِن الألمِ وَظَلَّ الاثنانِ في صَمتٍ وَخُشوعٍ حَتَّى أَنهَى اللَّغَايَةُ أُغنيَتَها! ! وَقالَ المُذيع: تُصبحونَ عَلى خَيرٍ»، فتأوهَ ابْنُ زاهِرٍ وَقالَ: « آهِ مِن القَيدِ أَيُّها الرّجالُ»، وَتَضارَبَت الإذاعاتُ، مَد حَادِمُ يَدَهُ فَأَسكَتَ الخَشحَشَةَ، ما يدري اقتَرَبَ الطِّفلُ. فأجاب الطِفلُ «أَسْمَعُ عَنهُ، ما الظُّلمُ يا أَبَتِ؟ »، فَقالَ الرّجُلُ وَهو يُحاوِلُ أَن يُخَفِّفَ مِن تَجاعِيدِ وَجهِهِ: «الظلمُ هوَ أَن يوجَدَ فينا واحِدٌ مِثلُ حُسَينٍ، هوَ يَملِكُ كُلّ شَيءٍ وَنَحْنُ لا نَمِلِكُ مَا نَسُدُ بِهِ الرَّمَقَ. وأردَفَ وَهو يُشيرُ إلى الصبي بسبابَتِهِ: اسمَع مِنِّي يا ولدي ها هوَ أبوكَ يَدورُ كالثّورِ المَربوط في ( المَنيورِ ( مِنْ الهِندِ إلى إفريقيا إِلى المَمْلَكَةِ، يَصُبُّ الخَيرَ في جُعِبَةِ حُسَيْنٍ وَيَزدادُ أبوكَ فَقَرًا عَلَى فَقرِهِ، وَدَيْنًا عَلَى دِينِهِ وَعِندَما يَمَلُّ مِنهُ، سَيَقذِفُ بِهِ في البَحرِ ، وَلَكِن لا تَكُن ثَورًا يَدُورُ لِصالِحِ أَحَدٍ فالقيرانُ يَحِبُ أن تَتَّحِدَ لِصالِحِها المُشْتَرَكِ». كانت الثواني تَحيكُ حَبائِلَها، فَها هوَ النُّورُ المَجدورُ يَتَفَجَّرُ كالحِمَمِ ، أَحَسٌ بدَوَارٍ شَديد. مادَت بِهِ الأَرضُ. سَقَطَت السَّماءُ بِفِضّيّاتِها عَلى الأَرضِ. ارتَفَعَ ثَعَاءُ الجِداءِ يَدُقُّ في رأسِهِ المَعطوبِ كَناقوسٍ ضَحْمٍ تصَدَعَ رأسُهُ، صَرَخَ بأعلى صوتِهِ: «آخ الصُّداع . وَلَم يَحضُر حُسَينُ صاحِبُ اليَومِ،