في إطار الحديث عن القراءة نجد أنفسنا أمام مفهوم مركب، ويمكننا تعريف مفهوم القراءة بأنه عبارة عن عملية تفكيرية تقوم على فك الرموز المختلفة بهدف الوصول إلى المعنى المراد، كما أن القراءة عملية معرفية تتراكب معاني الكلمات وتتراتب بوساطتها، ويقال إنها فن توظيف المعارف السابقة، تعد القراءة من أهم أدوات اكتشاف الذات ومعرفة الآخر، إذ تعمل القراءة على إزالة الحواجز الزمانية والحدود المكانية، فالقراءة تمنح القارئ القدرة على التنقل بين الماضي والحاضر، وتحضه على التطلع نحو المستقبل وآماله، فعند قراءة قصة أو رواية ما يتحقق للمرء الهدف المعرفي أيضا، كما تمنحه القدرة على التفريق بين طرق الخير والشر والتمييز بين صور الحق والباطل. فالقراءة بوصفها مهارة لغوية تستند في فلسفتها إلى بنية معرفية وأخرى نفسية، إذ تبني الذات القارئة معرفيا وتشكلها معنويا، بين قدسية القراءة وحصرها وتأطيرها فهو أمي لا يجيد القراءة ولم يتعلمها، فبالقراءة يتعرف المرء إلى خالقه، ويتبين من قراءة القرآن الكريم منهج حياته القويم، يقول -سبحانه وتعالى- في سورة الأنبياء ﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ﴾. والخطوة الأولى نحو تنوير النفس وتهذيبها، وكلما كانت القراءة موفقة ومختصة بعلوم الدين كانت أداة لتزكية النفس وسموها. ومن كرم القراءة وجميل فعلها وما تتركه من أثر في نفس القارئ المحب أنها تهديه شعورا باتساع الأفق وانكشاف المدارك، فمم يمكن أن يخاف القارئ؟ والجهل تبدده سعة القراءات وكثرة الاطلاع وزيادة المعارف، فالقراءة سلاح الحي العالم في وجه عتمة الجهل وظلماته. حين جاء الأمر القرآني بالقراءة بإطلاق وبدون تقييد جعل القراءة في الإسلام عالمية، بل جعل علوم الدنيا سبيلا واسعا لمعرفة حقيقة الحياة وإدراك كنهها والتعرف إلى خالقها والتفكر في آلائه، وفي هذه النقطة بالتحديد أقوال لا تتعارض بقدر ما تتشابك، ففريق يرى أن القراءة في الإسلام محصورة في قراءة القرآن الكريم وعلوم الدين ولها الأولوية المطلقة، وفريق يذهب إلى أن لعلوم الدين أهلها، وعلى كل مسلم أن يقرأ منها ما يعينه على حياته وتطبيق تعاليم دين الإسلام بصحة وكفاية. وأيا ما ذهب إليه الناس والعلماء من أمر القراءة، فالقراءة غذاء للعقول وخطاب للقلوب التي تعي. تقوم القراءة على قدرة المرء على تمييز الأحرف الهجائية ووصلها ببعضها لتشكل كلمات تفضي إلى معان محددة بعينها، وتحاط بالتركيز الذي ينتج عنه بالضرورة تحليلا واستنتاجا، فالقراءة مهارة لغوية تقوم على الرؤية وعمادها البصر، وفي أثناء القراءة يستدعي القارئ معارفه وخبراته السابقة ليفهم ويعي ما يقرأ، أهمية القراءة في تعلم اللغة وبناء الإنسان تجمع القراءة بين البناء الفكري والمهارة التطبيقية وفاعلية التنفيذ، فهي سلوك ناتج عن رغبة فردية وتجربة ذاتية، وفي أدائه الجمعي باعتبارها البوابة الأولى للمعرفة والثقافة، إذ تعد القراءة -عامة- المصدر الرئيس والخطوة الأولى نحو تعلم أي لغة، فهي أداة الدراسة ووسيلة التعلم الأولى. وبالقراءة تنتقل إلينا ثمرات العقل البشري عبر العصور، فهي وسيلة للتثقيف وأداة للترفيه عن النفس، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن القراءة عملية معرفية وفكرية، وتحافظ على سلامة الدماغ وتزيد من قدرته على التركيز والتحليل والاستنتاج السليم. وأكدت الدراسات أيضا أنه كلما ازدادت معرفة المرء بتوسيع دائرة قراءاته صار أكثر قدرة على مواجهة مصاعب الحياة والتعامل معها، ومن المعلوم أن القراءة تقوي مهارات القارئ النهم في التحليل والنقد، إذ يكتسب القارئ مهارة التفكير النقدي، وذلك من خلال تطوير قدراته على ملاحظة التفاصيل والإحاطة بها، ويصبح قادرا على تمييز أساليب الكتابة ويعرف الحبكة القوية من الضعيفة، ومن جميل شأن القراءة أنها تنمي خيال المرء، فعندما يقرأ حكاية أو رواية ما فإنه يستعمل خياله في رسم الأماكن وتحديد الزمن ودرجة الإضاءة التي تحيط بالشخصيات، ويكتسب قدرة على استكشاف العوالم المختلفة من حوله والجرأة على الدخول في مغامرات وتجارب جديدة من نوعها. ما العلاقة بين القراءة والتراجع المعرفي للأجيال؟ بداية لا بد أن نسأل: هل القراءة بحد ذاتها في تراجع؟ أو أن الأجيال في تراجع معرفي؟ ولا طاقة لديه لقراءة المطولات، أقصد بالمطولات هنا مقالا قد لا تتجاوز كلماته الألف! لا بد أن نستعيد قيمة المكتبات في بيوتنا، ولا بد من تحبيب أبنائنا بالكتب وإنشاء علاقة ودية فيما بينهم وبينها، على أن تكون مشروطة بقراء كل نافع ومفيد، وألا تقتصر على قراءة ما يمتع النفس بدون أن يضيف إليها شيئا حقيقيا، فيشعر وكأنه من الوفاء بمكان أن أكمل كل ما بدأت به، فإن لم تأنس بما تقرأ خيرا فلا تكمل وتمتع براحة مطلقة في البحث عما يضيف إليك ويصقل جوهرك. إن المجتمع الذي تتعزز فيه القراءة بوصفها سلوكا بشريا جمعيا هو المجتمع الذي يبشر بالنهوض، وكلما زادت نسبة القراءة في أي مجتمع زادت فرصته في نفض غبار التخلف والعجز والتبعية،