وأنا مكتئب النفس أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسائل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء. فألقيت به على الخوان، وتناولت عصاي وغادرت منزلي وسرت وأنا لا أعلم إلى أي مكان تقودني قدماي إلى أن وصلت محطة باب الحديد، وابتعت تذكرة، وركبت القطار للضيعة لأقضي فيها نهاري بأكمله. له عينان أقفل أجفانهما الكسل، وجلس الأستاذ غير بعيد عني، ولعل انشغالي برؤية الأستاذ منعني أن أرى الشاب ساعة دخوله. وهو يعود إلى ضيعته ليقضي أجازته بين أهله وقومه، نظرت إلى الشاب كما نظر إليَّ الشاب ثم أخرج من حافظته رواية من روايات مسامرات الشعب وهمّ بالقراءة بعد أن حوّل نظره عنِّي وعن الأستاذ، فرددناه رد الغريب على الغريب، والأستاذ يسبح وهو غائب عن الوجود والأفندي ينظر لملابسه طوراً وللمسافرين تارة أخرى، أحمر الوجه براق العينين، وكان ممسكاً بمظلة أكل عليها الدهر وشرب، وجلس أمامي وهو يتفرس في وجه رفقائه المسافرين كأنه يسألهم من أين هم قادمون وإلى أين هم ذاهبون، حتى اقترب من محطة شبرا فإذا بالشركسي يحملق فيّ ثم قال موجهاً كلامه إلىّ: كبير الشارب، له وجه به آثار الجدري تظهر عليه مظاهر القوة والجهل. جلس العمدة بجواري بعد أن قرأ سورة الفاتحة وصلى على النبي ثم سار القطار قاصداً قليوب. مكث الشركسي قليلاً يقرأ الجريدة، ثم طواها وألقى بها على الأرض وهو يحترق من الألم وقال: - وأية جناية؟ - وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجح من التعليم؟ فقطب الشركسي حاجبيه وقال بلهجة الغاضب: - وما هو؟ إن السوط لا يكلف الحكومة شيئاً، أما التعليم فيتطلب أموالاً طائلة، وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة حفظه الله كفاني مؤنه الرد فقال للشركسي وهو يبتسم ابتسامة صفراء: - صدقت يا بيه ولو كنت تسكن الضياع لقلت أكثر من ذلك. إننا نعاني من الفلاح لنكبح جماحه، ولم أطق سكوتاً على ما فاه به الشركسي، فقلت له: - الفلاح يا بيه إنسان مثلنا وحرام ألا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان فالتفت إلىّ العمدة، كأني وجهت الكلام إليه وقال: ولم يطق السكوت، - الفلاح يا حضرة العمدة . فقاطعه العمدة قائلا: - قل يا سعادة "البك لفظاً" لأني حزت الرتبة الثانية منذ عشرين سنة. - الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب لأنكم لم تعوّدوه غير ذلك، فهز العمدة رأسه ونظر إلى الشركسي وقال: فقال الشركسي: برافو،