يصف الكواكبي المستبد بقوله: “هو من يتحكَّم في شؤون النّاس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من النَّاس يسدُّها عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمطالبته”. وهو مستعدٌّ بالطّبع للشّر والمستبدّ: يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً. ومن أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النّفس على العقل، ويُسمّى استبداد المرء على نفسه، وذلك أنَّ الله جلّتْ نعمه خَلَقَ الإنسان حرّاً، فكفَرَ وأبى إلا أنْ يكون عبداً قائده الجهل” [1]. والاستبداد -كما يقول في سياق آخر – هو ” أعظم بلاء؛ لأنَّه وباء دائم بالفتن وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وقصة سوء لا تنتهي” [2]. لقد مارست الأنظمة العربية الشمولية الاستبداد السياسي مفهوماً وممارسة، في أكثر أشكاله ضراوة وتوحشاً، وبلغ هذا الاستبداد في بعض الدول أعلى مراتبه التي يصفها عبد الرحمن الكواكبي بأنه “حكومة الفرد المطلق، الحائز على سلطة دينية”. وقد أضفت الأنظمة على قادتها صفات القداسة والتعظيم، ووظف مختلف المؤسسات التربوية في ترسيخ هذه الصورة، ولاسيما المساجد والمدارس والنقابات والمؤسسات العسكرية ووسائل الإعلام، وتجسد ذلك في مقولات: القائد الخالد، وعلى هذه الصورة بدأت الأنظمة السياسية العربية الشمولية بتغييب مفهوم الديمقراطية الاجتماعية والسياسية، والسؤال هو كيف يمكن الحديث عن ديمقراطية لا يوجد فيها غالبا إلا قائد واحد ينتخب على مدى الحياة، ويمتلك السلطات المطلقة في مختلف شؤون الحياة في الدولة والمجتمع. تمثلاً لقول معاوية: الأرض لله. وتمثلا لقول أبو جعفر المنصور عندما خاطب الناس بقوله: ” أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة، إن شاء أن يفتحني لإعطائكم وإن شاء يقفلني” ([4]). وهذا هو مطلق الاستبداد السياسي والاجتماعي الذي عرفناه في سورية. وأمام هذا الاستبداد تسقط كل قيم الديمقراطية وما ينطوي عليه هذا المفهوم من دلالات إنسانية تؤكد على الحرية وتداول السلطة. لقد عملت أنظمة الاستبداد في بلادنا، على تحويل المواطنين إلى رعايا وعبيد، إلى أفراد يدينون بالولاء الأعمى لنظام الفساد والقهر والاستبداد، والمواطنة في منظور النظام السياسي المستبد لا تعدو أن تكون ولاء المحكوم للحاكم ورضوخه لإرادة النظام، إذ يشكل الخضوع المطلق للحاكم المستبد مبتدأ المواطنة والإذلال خبرها ومنتهاها، وذلك هو حال الأنظمة التربوية في البلدان الاستبدادية التي تُدجن البشر على مفاهيم العبودية، وتلقنهم أساليب الخضوع والمذلة، وتدفعهم إلى تقديس رموز النظام، كما تدفعهم إلى تأليه الحاكم الصائر صنماً للعبادة، هذه الأنظمة علمتنا وما زالت تعلم أطفالنا، بأن كرامة المواطن تكون قبل كل شيء في الخضوع للحاكم وتقديس رموزه.