ومن المقدمات ننتقل إلى كتاب الأدلة (الجزء الثالث حسب تقسيم الطبعات)، حيث نجده يضع القواعد العامة للنظر في الأدلة الشرعية. ومن ذلك ما قرره في المسألة الثامنة بقوله: {إذا رأيت في الذنيات أصلاً كلياً فاقبله تجده جزئيًا بالنسبة إلى ما هو أعم منه، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة وهي: الدين، ومراده من هذا الكلام أن التشريعات التي جاءت بالمدينة، فإنها تعتبر فروعًا للكليات العليا، جنيًا إلى جنب مع أصول العقيدة وأسسها. ثم بين ذلك - يكمله - بإرجاع الأصول الخمسة إلى أدلتها من القرآن المكي. وتصحيح الإيمان وتثبيته في القرآن المكي، فمسألة أشهر وأوضح من أن تحتاج إلى دليل أو مثال. حتى لقد شاع - خطأ - أن القرآن المكي لا يحتوي إلا على هذا. وهي الفكرة التي يصححها الإمام الشاطبي من خلال بيان ما اشتمل عليه القرآن المكي من قواعد وكليات تشريعية من قبل ما يلي. فقد نص عليه في كثير من الآيات المكية كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] وقوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8-9] وغيرها. وحفظ النفس يتضمن حفظ العقل. فقد جاء في المدينة بتحريم المسكرات، ومن هذا الباب أيضًا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما ضروريتان لحفظ الأصول المتقدمة، كما في الآية: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} [لقمان: 17]. وما الجهاد الذي شرع بالمدينة إلا فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعندما انتقل إمامنا أبو إسحاق، إلى موضوع "النسخ"، استصحب معه مقاصده وكلياته: فأعاد التذكير - في المسألة الأولى من مسائل النسخ - بأن القواعد الكلية هي الموضوعة أولاً، والتي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها القواعد التي وضع أصلها بمكة. وليس هذا من الشاطبي مجرد تكرار لفكرته عن التشريع بين المكي والمدني، بل إعادة تأكيد لأهميتها وربطها بمسائل النسخ وفلسفته. فنجده يعيد القول في المسألة الثانية بأن "ما تقرر من نزول القرآن بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصلية في الدين. ثم كملها بالمدينة بما يقتضيه النسخ فيها قليل لا كثير (11) . لأن النسخ لا يكون في الكليات وقوعاً وإن أمكن عقلاً. ويدل على ذلك الاستقراء التام، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات، بل إنما أتى بالبدلية ما يقوم بها ويكملها ويعضدها. وإذا كان كذلك لم يبق نسخ للكليّ البتة. ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى، فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها، والجزئيات المكتة قليلة (12). وعند تطرقه إلى الحديث عن السنة - بعد الحديث عن القرآن - وقف وقفة أخرى، في الربط بين أدلة الشريعة، وفي الربط بين مناحي البناء الشرعي بكلياته وجزئياته. فكما أنه يكمله - لاحظ أن القرآن المدني بتفصيلاته، قد بني على القرآن المكي وكلياته لاحظ أيضًا - وبين أن السنة قد بنيت بشكل تام - على القرآن الكريم، فإني الآن لا أجد بدًا من نقل هذا النص الطويل الرائع المفصل، وهو كتاب المقاصد! ومبنية عليه، ففي سياق تعداد هذه الأوجه وبيانها، قال: وأنه موجود في السنة على الكمال، والتحسينيات، ويلحق مكملاتها، وإذا نظرت إلى السنة وجدتها لا تزيد على تقرير هذه الأمور. فالكتاب آتي بأصول يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعًا على الكتاب وبيانًا لما فيه منها. فأصله في الكتاب، وبيانه في السنة، وهي: الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب، وتلافي النقصان الطارئ في أصله، وأصل هذه في الكتاب وبيانه في السنة على الكمال. وحفظ النفس: حاصله في ثلاثة معانٍ، وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود. من جهة المآكل والمشرب (وذلك ما يَحفَظه من داخل)، والملبس والمسكن (وذلك ما يَحفظه من خارج). وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة، ومكمله ثلاثة أشياء: وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى، وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم، ومكمله: دفع العوارض، وحفظ العقل بتناوله ما لا يفسده، وهو في القرآن، ومكمله: شرعية الحد أو الزجر، وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض، فله في الكتاب أصل، وإذا نظرت إلى الحاجيات: اطرد النظر أيضًا فيها على ذلك الترتيب أو نحوه، وكذلك التحسينيات. وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة، ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به، فإن دوران الحاجيات: على التوسعة، والصلاة قاعدًا، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض. وكذلك سائر العبادات، وإلا فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية. يظهر في مواضع الرخص: كإباحة الميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها. وما يأتي بالذكاة الأصلية. وجعل الطلاق ثلاثًا دون ما هو أكثر، والقرض، والشُّفعة، والمساقاة ونحوها. والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد، من غير إسراف ولا إقتار. وعن المضطر، على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والبرد وما أشبه ذلك. وكل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج، لأن أكثره اجتهادي، فُرجع إلى تفسير ما أُجمل من الكتاب. فجميع هذا له أصل في القرآن، وإنما المقصود هنا التنبيه، والعاقل يهتدي منه لما لم يُذكر، مما أُشير إليه، وبالله التوفيق (١٧). وعندما تناول مباحث الأمر والنهي، ورجّح بها آراءه الأصولية في الموضوع. ليست ذات درجة واحدة، بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزن واحد(١٨)" ومثل لهذا بما هو معلوم من تقديم الدين على النفس، وتقديم النفس على العقل. وهذا التفاوت في فهم الأوامر والنواهي الشرعية، قصد إنزال كل شيء منزلته، وتقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير، وأما إذا أهملنا هذا النظر - وقد اعتبره الشارع - فإننا سنقع في أغلاط جسيمة وحرج كبير، والمحرمات كذلك. وقد استصحب "الشاطبي" هذه الفكرة وهو يعالج موضوع البدع في كتابه "الاعتصام"، حيث قال: "إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر". فإذا كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر، ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد. فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات. وأيضًا، فإن الضروريات إذا تُؤمّلت، وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه. أو ليست تستعمر حرمة النفس في جنب حرمة الدين. ثم ينتقل من هذا التمهيد "المقاصدي" إلى موضوعه الأصل - وهو البدع - ليطبق عليه ما تقرره مقاصد الشريعة فيقول: "وإذا كان كذلك، فكذلك يتصور مثله في البدع. وما يقع في رتبة الضروريات: منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل، أو العقل، ٣٢). وفي الأوامر والنواهي الشرعية تبعًا لذلك - يقرر أن: "الفعل يعتبر شرعًا بما يكون عنه من المصالح أو المفاسد". وميّز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته فجعلته ركنًا، وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين وأصوله، وما عظّم أمره في المنهيات،