أما نجاح العمل فيتوقف على بذل القوى في محالِّها وأوقاتها الملائمة بالحكمة وحسن التدبير، واعتُسف العمل اعتسافًا تذهب القوى ضياعًا، وينقضي العمل بلا ثمرة، فلكي ينجح العمل يجب أن يكون في الظروف الملائمة له، وعلى الخصوص في الزمان والمكان اللذين يُحتاج فيهما إليه، بحيث تكون للقوة المبذولة قيمة، ولهذا ترى أن الأعمال غالبًا تنجح وتفيد في بلاد دون أخرى، فإنها في الغرب ناجحةٌ نجاحًا عظيمًا، وذووها يعدون من عظماء الأنام وكبار الموسرين وذوي الأهمية والتأثير في الهيئة الاجتماعية، وكلما حسنت الجرائد هناك أقبل الناس عليها وعادت على أصحابها بالأرباح الوافرة. وأما في الشرق فتكاد تكون الصحافة بلا أهمية، ولا ذات ربح مهما اجتهد في ترقيتها وتحسينها، فإذا أنشئت في مصر جريدة على مثال جريدة التيمس ذهبت أتعاب صاحبها أدراج الرياح؛ وسبب ذلك أن البلاد لا تحتمل جرائد عظيمة كجريدة التيمس؛ لأن قراء الصحف العربية لا يكفون للقيام بنفقات جريدة كهذه. وبناء على هذه الحقيقة لا يتاجر أحد بالآلات والأجهزة الكهربائية في القرى الصغيرة، ولا بالطرابيش في مدن أوروبا … إلى غير ذلك من الأعمال التي لا حاجة إليها حيث تُعرَضُ. تخفق مساعيهم أحيانًا وتذهب أتعابهم سدى؛ مثال ذلك: خطر لبعضهم أن ينشئ منتدى عموميًّا «قهوة» في محل جميل تحيط به المناظر الطبيعية البديعة من غياض ومياه ونحو ذلك، وقدر أكلافه ونفقاته ومكاسبه حسب فروضه وآماله، وبعد ملازمة المنتدى مدة وجد أن حالته غير منطبقة على حسابه؛ لأنه فرض أن الناس يقبلون على المنتدى لحسن موقعه وجمال المناظر الطبيعية حوله، فالمكان كان بعيدًا عن الطرق العمومية، والطريق المتصل به غير ممهد، وجدت أنه على الغالب عدم مراعاتهم الزمان والمكان اللذين تروج فيهما أعمالهم. فالواجب إذًا أن يدقق المرء في عمل ميزانية مشروعه بحيث يسندها إلى مستندات مؤكدة لا إلى فروض وأوهام لا يراها إلا في الأحلام، وأن يكون بعيد النظر يعلم جيدًا ماذا يحيط بأطراف مشروعه من الظروف، ولا يعتمد على ما يصوره له الأمل من النجاح أو الربح؛ وإذا لم يكن بُدٌّ من مراعاة أحوال الزمان والمكان، فلا بد للمرء أيضًا أن يكيف ميله حسب تلك الأحوال، فإذا كان ميالًا إلى فن التصوير مثلًا، ولكن لا رواج للتصوير حيث هو قاطن، فلا بد من أن يحول ميله إلى مهنة أخرى رائجة في بلده، فالأفضل أن يهاجر إلى حيث تروج صوره، فترى من ذلك أن على المرء أن يجتهد في التوفيق بين أمياله وأحوال الزمان والمكان؛ حتى يكون لعمله نفع له، فإذا لم يكن المكان موافقًا للمهنة التي يميل إليها، فعليه إما أن يحول ميله إلى ما يلائم المكان، أو ينتقل هو إلى مكان يلائم ميله. وتكييف الميل حسب أحوال الزمان ليس بمستحيل. ولكن الحاجة تقتضي الإقدام على الصعب، والأمل بالانتفاع يخفف الصعوبة. وبعض الناس بحذقهم وذكائهم يروِّجون من الأعمال ما لا ينتظر رواجه، فيتفننون فيه بحيث يلائم ذوق أهل الزمان والمكان، ويصبح بعد ذلك من الحاجات اللازمة لهم، وفي أوروبا وأميركا يَجِد كثيرًا من هذه التفننات والمصنوعات التي يكون الناس في غنى عنها قبل اصطناعها، وحينما يتداولونها تصبح من الحاجيات بعد إذ تكون من الكماليات التي يستغنون عنها. وإذا تحريت البضائع الأوروبية الواردة إلى بلادنا ترى أن أكثرها من هذه الاختراعات الحديثة التي متى رآها الناس شعروا بحاجتهم إليها، فالتفنن بالعمل حسبما يلائم ذوق الناس وحاجتهم أمر جوهري للنجاح،