قع معنى «الأربعين» و مفهومه -في جميع هويّاته المتفاوتة و مصاديقه الخارجيّة- محطّا للبحث و النظر، بين سائر الأقوام و الملل المختلفة و الأديان منذ قديم الزمان؛ و لكلّ قوم و أمّة من حيث ثقافتها أنس خاصّ بهذا المصطلح -تقريبا- و ألفة معيّنة معه. و حسب قول الخواجة الشيرازيّ: فهذا المصطلح قد ترك بصماته على مساحة واسعة جدّا؛ وصولا إلى أعلى اللطائف و أدقّ الإشارات و أحذقها، و ذلك ضمن عبارات أصحاب المقام الرفيع من ذوي الكشف و أهل المعنى و العرفان. هناك آثار تكوينيّة و تشريعيّة لعدد الأربعين في الثقافة الإسلاميّة و في الثقافة الإسلاميّة أيضا، كان لهذه الكلمة مكانة خاصّة في موارد متعدّدة -سواء في المسائل و الأحكام الفقهيّة، أم المباحث الأخلاقيّة و المطالب العرفانيّة أو المباني الاعتقاديّة- بنحو يمكن أن يدّعى وجود نوع ارتباط تكوينيّ و تشريعيّ لهذا المفهوم في الثقافة الإسلاميّة، و بعبارة أخرى: إنّ حقيقة هذا المفهوم و عينيّته الخارجيّة تحاكي عمليّة الإفاضة و النزول إلى عالم الكثرة و التربية، قد أبرزها الشارع المقدّس بصورة سلسلة من الأحكام و القوانين التكليفيّة أو السلوكيّة و التربويّة النفسانيّة. فبالنسبة لخلقة آدم أبي البشر، جاءت هذه الحقيقة كمبيّن للحيثيّات الاستكماليّة و الفعليّة لمقام خلافته الإلهيّة، كما في كتاب إحياء العلوم حيث يروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ الله خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحا[1]. و كذلك ما جاء برواية مرصاد العباد: فمن التراب كوّنه و أربعين صباحا خمّر طينته‏ ليبعد بالتخمير أربعين صباحا بأربعين حجابا من الحضرة الإلهيّة، كلّ حجاب هو معنى مودع فيه، إذا، و شرّف طينته بأن عمل على إعدادها مدّة أربعين يوما، و صار جامعا بين نقطتي الأحديّة و الواحديّة. و مع عين القرب و الانمحاء و الفناء في الذات البحتة و الصرفة للحضرة الأحديّة، صار متّصفا باجتماع الآثار المتكثرة و مجمعا لصفات حضرة ربّ الأرباب. و بذلك، صار هبوطه مبرّرا، و ذلك بعد بلوغه سنّ الأربعين من العمر في عالم الدنيا، و القرآن الكريم يشير إلى هذه المسألة فيقول: ﴿حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾‏[4]. تعتبر هذه الآية الشريفة أنّ بلوغ الإنسان مرتبة الرشد العقليّ و الاستقامة النفسيّة في جادّة التدبير، و رعاية المصالح و المفاسد، إنّما يتحقّق في سنّ الأربعين من العمر. و لهذا يروي في الخصال عن الإمام الصّادق عليه السلام فيقول: فإذا بلغ أربعين سنة أوحى الله عزّ و جلّ إلى ملائكته: إنّي قد عمّرت عبدي عمرا فغلّظا و شدّدا و تحفّظا، و اكتبا عليه قليل عمله و كثيره و صغيره و كبيره‏[5]. أي إنّ العبد يقع محلّا لعفو مولاه و مغفرته حتّى سنّ‏ الأربعين؛ و وصوله إلى مرحلة بلوغه العقلي، شدّدا و غلّظا عليه و اضبطا كلّ شي‏ء يصدر منه كثيره و قليله. و ورد نظير هذه الرواية أيضا في كتاب الخصال عن الإمام الصّادق عليه السلام: إذا بلغ العبد ثلاثا و ثلاثين سنة فقد بلغ أشدّه، و إذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه‏[6]. و حيث أنّه لم يحصّل على استعداد الصلاح و الهداية إلى سنّ الأربعين، فسوف يصعب عليه بلوغ مرحلة الفوز و السعادة؛ إذا بلغ الرجل أربعين سنة و لم يتب مسح الشيطان وجهه بيده و قال: بأبي وجه من لا يفلح![7] لا تقبل صلاة شارب الخمر حتّى أربعين يوما كذلك هناك رواية عن الإمام الرضا عليه السلام قد أوردها المرحوم الصدوق في كتاب علل الشرائع: عن الحسين بن خالد قال: قلت للرّضا عليه السلام: إنّا روينا عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: أنّ من شرب الخمر لم تحسب صلاته أربعين صباحا. فقال: صدقوا، فقلت: و كيف لا تحسب صلاته أربعين صباحا لا أقلّ من ذلك و لا أكثر؟ قال: لأنّ الله تبارك و تعالى قدّر خلق الإنسان فصيّر النطفة أربعين يوما، و هكذا إذا شرب الخمر بقيت في مثانته على قدر ما خلق منه، و نستفيد من هذا البيان: أنّ عمليّة هضم المأكولات و جذبها في بدن الإنسان، ثمّ مرحلة دفعها، و حيث أنّ وظيفة الكلية دفع الموادّ الزائدة عن حدّ الاستفادة و كذلك بعد الاستفادة، فإنّ هذه المواد بواسطة عمل الكلى‏ تتجمّع في المثانة، ثمّ تتمّ عمليّة الجمع و الدفع بشكل تدريجيّ؛ من يغتب مسلما لا تقبل صلاته و لا صومه إلى أربعين يوما و كذلك نقل نظير هذه الرواية في جامع الأخبار عن رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل الله تعالى صلاته و لا صيامه أربعين يوما و ليلة إلّا أن يغفر له صاحبه‏[9]. من قرأ الحمد أربعين مرّة في الماء ثمّ يصبّ على المحموم، شهادة أربعين مؤمن على جنازة المسلم توجب المغفرة له‏ كان في بني إسرائيل عابد فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أنّه مراء، اللهم إنّا لا نعلم منه إلّا خيرا و أنت أعلم به منّا فاغفر له! قال: فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: ما منعك أن تصلّي عليه؟ فقال داود: بالذي أخبرتني من أنّه مراء، قال: و كذلك يمكن أن نشاهد خصوصيّة آثار هذا العدد في المسائل الأخلاقيّة و الآداب الشرعيّة و الحقوق الإسلاميّة، كما يروي المرحوم الكلينيّ بإسناده إلى الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: حدّ الجوار أربعون دارا من كلّ جانب: من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله‏[13]. و في رواية أخرى يروي عقبة بن خالد عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال: قال أمير المؤمنين: حريم المسجد أربعون ذراعا و الجوار أربعون دار من أربعة جوانبها[14]. و أمّا على صعيد الأمور العباديّة و المسائل السلوكيّة و الروحانيّة، و كيفيّة تأثير العدد في الارتقاء المعنويّ و كسب الفضائل الروحيّة، و العبور عن مقامات النفس، فهناك مطالب لا تسعها طاقة هذا الكتاب المختصر، و لكلّ من الفريقين آراء و أحاديث و إشارات تتعلّق بذلك، و سوف نشير إلى بعضها فيما يأتي. .. إلى المحلّ الذي يقول فيه: انقطاع الوحي عن رسول اللّه مدّة أربعين يوما و نحن نسأله عن مسائل، فإن أجابنا عنها علمنا أنّه صادق، و إن لم يخبرنا علمنا أنّه كاذب، فقال أبو طالب: سلوه عمّا بدا لكم، و لم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما حتّى اغتمّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و شكّ أصحابه الذين كانوا آمنوا به . 15]. لذلك فإنّ الله تعالى قطع الوحي عن رسول اللّه أربعين يوما، و هذه الرواية تفيد أنّه حتّى مع كون النفس المباركة لرسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم قد وصلت إلى مرحلة الوحي، فانقطاع الوحي مدّة أربعين يوما، كان في الواقع تنبيها و إيقاظا للنبيّ، أو يشعر بالوساطة و الشراكة مع الله، و ذلك بشكل انقطاع للوحي، و من هنا عاد الوحي يتدفّق ثانية من سرّه المبارك، و تجدّد نزول المعارف الربوبيّة و لطائف أسرار عالم الغيب على روحه و سرّه، بقي حضرة النبيّ يونس عليه السّلام في بطن الحوت أربعين يوما فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾. و زعمه بأنّ إرادتنا القاهرة و مشيئتنا المتقنة لا تناله و لا تصل إليه -و أنّ خصومتنا و غضبنا لا ينزل إلّا على أهل تلك المدينة و قومه- لذلك وضعناه في بطن الحوت . و أرفع من كلّ أفكارنا و خيالنا و وهمنا و إدراكنا لحقيقة الذات المجلّلة، و عقلنا الضعيف و حسب سعتنا الوجوديّة المحدودة، و الحال أنّك أنت أشرف و أعلى ممّا تناله أوهامنا، و أخرجناه من غمّ عالم الاعتبار و كدورته و آلامه، و كذلك نفعل و نجازي كلّ المؤمنين و الصالحين . في هذه الحادثة، يكشف الله تعالى النقاب عن شي‏ء من الأسرار التوحيديّة، و كيفيّة نفوذ مشيئته الذاتيّة، و يبدي غيرته بالنسبة إلى إرادته المطلقة، و المستوية بين جميع مخلوقاته، و يفصح عن عدم انحصار الإرادة الذاتيّة و مشيئته، و لم يكن حضرة النبيّ يونس عليه السلام قد بلغ هذه النكتة، و أنّه قد طبع عليهم ختم الزوال و الهلاك، و كان يخال أنّ حالهم بلغ حدّا جعلهم يتمرّدون على أوامر رسول اللّه تعالى المبعوث إليهم و ينالون من دستوراته، و أصبح هو موردا للطعن و عدم الاحترام و الاستخفاف، و ليس هناك سبيل آخر لله، و لا خيار لهؤلاء القوم و هؤلاء العباد. وضعه الله في بطن الحوت، و ببركة هذه الأربعينيّة، علّة تنبيه الله النبيّ لأجل ترقّيه و هو لا ينافي العصمة و لأجل توضيح هذه المسألة، يجب الالتفات إلى أنّ ما ذكر عن عصمة الأنبياء عليهم السلام، و ينبغي أن لا يرتكب أيّ معصية أو خطيئة، و كذلك ينبغي أن لا يخالف قوله الواقع المتحقّق خارجا؛ و بعبارة أخرى: لا بدّ و أن يكون النبيّ محفوظا من الخطأ في ثلاث مراحل: تلقّي الوحي، و إبلاغه، فيكون مصونا عن الخطأ و الزلل في كلّ ذلك. و أمّا في ما هو أعلى من عالم الظاهر و المثال -أي عوالم الملكوت و السرّ و النفس و الروح- فليس من اللازم أن يكون خاليا من أيّ نوع من القلق و التردّد أو إدراك الخلاف، فهذا غير ثابت، بل الثابت من خلال الشواهد و الآثار العقلية و النقلية و الشهودية هو خلاف ذلك، إذ من الممكن أن يكون لنبيّ من الأنبياء مراتب عديدة، من خلال الآيات الشريفة و الروايات الشيعيّة، و هذا المختصر لا يتحمّل التحقيق و البحث في ذلك. الروايات تصرّح بتأثير عدد «الأربعين» على بزوغ الاستعدادات‏ هناك رواية ينقلها المرحوم الكلينيّ عن الإمام الباقر عليه السلام، ما أخلص العبد الإيمان بالله عزّ و جلّ أربعين يوما (أو قال: ما أجمل عبد ذكر الله عزّ و جلّ أربعين يوما) إلّا زهّده‏ الله عزّ و جلّ في الدنيا، و بصّره داءها و دواءها، و أنطق بها لسانه‏[17]. و كذلك في إحياء العلوم ينقل عن كتب العامّة فيقول: قال رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم: ما من عبد يخلص لله العمل أربعين يوما، إلّا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه‏[18]. و قد ورد مثل هذه الرواية في كتب العامّة مع تغيير مختصر في كيفيّة تعبيرها. و لا مناص للسالك عن ذلك و لا مفرّ له. كلام المرحوم السيّد بحر العلوم فيما يتعلّق بعدد «الأربعين» يقول المرحوم السيّد مهدي بحر العلوم رضوان الله عليه في رسالة السير و السلوك المنسوبة إليه: في ظهور القابليات و تتميم الملكات و في طيّ المنازل و قطع المراحل. إلا أن في كل منزل منها مقصدا؛ و مع زيادة المراحل، فإنّك إذا دخلت في هذه المرحلة فقد أتممت عالما[19]. كما أنّ زمن طيّ عالم الدنيا و ظهور القابلية و نهاية التكميل في هذا العالم إنّما يتمّ في أربعين سنة، حيث ورد أنّ عقل الإنسان يكمل في سنّ الأربعين حسب قابلية ذلك الإنسان. ثم إن بدنه يقف في هذا العالم عشر سنين، فإن هو أتمّ الأربعين انتهى سفره في عالم الطبيعة، و في كلّ يوم و في كلّ سنة يطوي مسافة من ذاك السفر، و يحزم مقدارا من حمولته و يرحل عن هذا العالم. و تضمحلّ قوّته سنة بعد سنة، و يتناقص نور سمعه و بصره، و البدن يسير نحو الذبول؛ و تأويل ذلك في المناسبة و الجوار من جهات القوى الأربعة: العقليّة، و الوهميّة، و الغضبيّة.