المبحث الأول: العنف اللغوي في المستويين النحويّ والصرفيّ استيقظ الإنسانُ منذ البدء على صوت العنف، حتى أضحى العنف أبرز الظواهر الاجتماعيّة لمّا كان الإنسيّ لا يتحقق وجوده إلا بالاجتماع، وهنا مركز التناول، فهل وصل الأمر إلى أن تتلطخ اللغة بالعنف بفعل أصحابها؟ أم أن اللغة في أصل تكوينها سلطة رمزية تمارس سطوتها على مستعمليها؟ بوصفه ظاهرة تأخذ مداها المُنثال في مختلف مجالات الوجود الاجتماعيّ، المادي أو الفيزيائيّ، - وستنال هذه الفكرة وضوحها في مرحلة لاحقة – من البحث. ولا تنحصر في الكلام والتواصل، وإنما تنطوي على مخاض تاريخيّ وثقافيّ، فتحتفظ بتصورات وتجارب اجتماعيّة معينة، فاللغة رموز وكلمات يستعملها مجتمع معيّن تعبر عن مفاهيمه، والعقائد السائدة فيه، واتجاهاته الفكريّة، فهل يمكن عد تلك الأحضان مشحونة تترك ندوبها في آثار اللغة، أو أن مستعملي اللغة هم من يُحملون في استعمالهم الكلمات إلى لكمات؟ هي أسئلة مطروحة، ومسألة تحتاج التحقيق فيها. أولأ: العنف في النحو العربيّ: دراسة تحليليّة نقديّة يُعدّ النحو العربي أحد أهم علوم اللغة العربيّة ومفاتيحها، إذ يهدف إلى ضبط الكلام وفهمه وفق قواعد محددة، رغم ذلك فإنّ بعض الظواهر النحوية قد تحمل في طياتها دلالات عنيفة، سواء من حيث المصطلحات المستخدمة أم القواعد المتبعة، وقد أثارت هذه الظواهر جدلًا بين اللغويين والنقاد، إذ رأى بعضهم أنها تعكس ثقافة مجتمعية قائمة على الهيمنة والسيطرة، ورأى آخرون أنها اصطلاحات لغوية لا تحمل أي دلالات أيديولوجية. ولعل التركيب النحوي للغة يعكس تفكير المتكلمين بهذه اللغة( )، ولأن النحاة هم أبناء بيئتهم، فلم يكونوا بمنأى عن مجريات عصرهم والتأثر بها، وتأثيرها في الأنظمة اللّغويّة، فهي انعكاس للبنى الاجتماعيّة والسياسيّة. لكنّها لم تكن بمنأى عن استخدام خطاب يتسم أحيانًا بالعنف اللّغوي، فالنحو نظام بشريّ، ولعل هذا العنف يعكس عادات ثقافيّة يتصف بها المجتمع الصادرة عنه تلك اللغة، يستخدم النحو العربي مجموعة من المصطلحات التي تحمل دلالات عنيفة، إذ ثمة مصطلحات ومسائل في التراث النحوي تستوقف المتأمل، - الإعراب والبناء: يُستخدم مصطلح "الإعراب" للإشارة إلى تغيير حركة آخر الكلمة حسب موقعها الإعرابي، ويُستخدم مصطلح "البناء" للإشارة إلى ثبات حركة آخر الكلمة، الذي يلزم حالة واحدة، لأنه يعطي انطباعًا بأن الكلمة المبنية هي كلمة جامدة تمثل حالة من التحجيم، إذ إن "الإعراب هو الاختلاف، ألا ترى أن البناء ضده؟ وهو عدم الاختلاف اتفاقا، ولا يطلق البناء على الحركات: وإنما جُعِلَ الإعراب في آخر الكلمة " . قد يُنظر إلى هذا على أنه تحكم في التنوع اللغوي، أو محاولة لتوحيد الخطاب من خلال تقليص الإمكانات اللغوية، من جهة أخرى، قد تكون هذه الحالة من الثبات بمثابة “عنف لغوي” موجه نحو من لا يلتزم بهذا النظام أو لا يتحدث بالطريقة الصحيحة أو المقبولة لغويًا. مما قد يشير إلى نوع من التكيف القسري. وكأن المبني يتمتع بحصانة ضد التغيير مقارنة بالمُعرب الذي يخضع للتأثيرات الخارجية. الجمود (البناء) x المرونة (الإعراب) - الناسخ والمنسوخ: يُستخدم مصطلح "الناسخ" للإشارة إلى الحكم النحوي الذي يلغي حكمًا آخر، إذ يُبطل ما كان قبله، الذي يوحي بالإقصاء والاستبعاد، قد يُستخدم الناسخ أو (العامل) عند سيبويه، مما قد يفضي إلى تهميش بعض الصيغ أو الأنماط اللغوية لصالح أنماط أخرى، فهناك أفعال وحروف تُبطل عمل غيرها أو تُزيل أثرها، مثل الحروف الناسخة: (إن وأخواتها التي تزيل تأثير المبتدأ). و(كان وأخواتها التي تؤثر على المبتدأ والخبر). هذه العمليات تشبه مفاهيم الهيمنة والإزاحة، - الإعمال والإهمال: وفي الكتاب استعمل لفظة سيبويه لفظ الإلغاء في أبواب متفرقة، وكأنه فاقد للقوة أو عاجز عن التأثير في غيره، الإهمال = عدم العمل، عنصر ضعف، دلالة على التهميش. تضبط تلك المصطلحات التي يمكن أن نذكر بعضًا منها، وذلك في جانبين: * ضمير المتكلم وليست المتكلمة، ضمير المخاطب وليست المخاطبة، ضمير الغائب، - مصطلحات نحويّة أخرى هنالك مصطلحات نحويّة متشربة من كأس الألفاظ العنيفة، يمكن ذكر منها: إذ جاء درس (كان وأخواتها) و( إن وأخواتها) وغيرها بجعل المذكر هو الأعم فهو الكل، كذلك تسمية (باب المبهمة وصفاتها) ، لماذا لم يُمارس تغليب التذكير هنا؟ - الْمُقْحَمَة: وهي" وصف للام المعترضة بين المتضايفين، في مثل: يا بؤس للحرب -والأصل يا بؤس الحرب، وفي مثل قولهم كذلك: لا أبالك، إذ أقحمت اللام بين المضاف والمضاف إليه" ، إذ يتم إدخال عناصر لغوية لا لزوم لها وفقًا لوجهة نظر معيارية. أي أنها تفتقر إلى شيء مقارنة بالأفعال الصحيحة، وهذا يتوافق مع نظرة معيارية للغة تفترض أن الشكل الكامل أو الصحيح هو الأصل، وما عداه يُصنَّف على أنه ناقص أو معتل. إلا أن استخدام مفاهيم النقصان والضعف في اللغة قد يحمل بعدًا معياريًا يعكس رؤية لغوية تمييزية. فهي تشير إلى علاقة نحويّة بين الكلمات، إذ تتبع كلمة أخرى في الإعراب، مثل: النعت، والبدل، والتوكيد، ويتبدى ذلك إذا نظرنا إلى العلاقة بين التابع والمتبوع بوصفها علاقة سلطة أو هيمنة لغوية، إذ يعتمد على المتبوع في الإعراب، مما يعني أنها فاقدة للاستقلالية النحويّة وتخضع لقواعد تحكمها، وهذا الخضوع ليس عنفًا بحد ذاته، وإنما علاقة تنظيمية في الجملة؛ على أنها تمثيل رمزي، تلمح إلى التبعية اللغوية بعدها تجسيدا لهيمنة عنصر على آخر، ولعل النحو العربي تأثر بثقافة القبيلة العربية، التي كانت قائمة على القوة والهيمنة، وانعكس ذلك في استخدام مصطلحات وقواعد نحوية تجسد هذه الثقافة. لأنه يُستخدم مع المضاف إليه وحروف الجر، الرفع الجر والنصب أقوى من الجر، وقد يسمى الوقف، إذ يعني تقييد الحرف وانقطاعه عن الحركة . - الأسماء أقوى من الأفعال، * ثبات الاسم واستقلاليته لأنه لا يظهر إلا مقترنًا بزمن، * الحروف في أدنى الهرم، لأنها لا تملك معنى بذاتها، ترتسم صورة النحو على هيئة صورة مصغّرة للطبقية الاجتماعية، إذ هناك طبقات لغوية عليا (الأسماء)، وطبقات أدنى (الأفعال)، فالنحو ليس نظامًا أفقيًا متساويًا، بل هو نظام تراتبي طبقي، وكأن الكلمات تخوض صراعًا من أجل البقاء. حتى عند الحديث عن مجموعة. إذ تُعطى الأفضلية للقوي على الضعيف، وللفرد على الجماعة. يُعطى العاقل (الإنسان) أولوية على غير العاقل (الحيوان أو الجماد)، تعكس القواعد النحوية التراتبية الاجتماعية السائدة في المجتمع العربي، وللإنسان على الحيوان. يُستخدم المذكر ليشمل الذكر والأنثى، يُعد "الكتاب" لسيبويه أهم المصادر النحوية في التراث العربي، - العنف في المصطلحات النحوية يستخدم سيبويه في "الكتاب" مصطلحات توحي بالقوة والإلزام، مثل: - مصطلحات الضبط والقسر والإجبار مثل: " واعلم أنه لا يجوز لك أن تقول. مثال: كما في قوله : "وأما يونس فيقول: أإن تأتني آتيك، إذ يُسمح بشيء ويُمنع آخر. يبدو أن سيبويه كان يُمارس دور ضابط لغوي يضع حدودًا صارمة لما هو جائز وما هو غير جائز. مثال من (الكتاب): " واعلم أن الترخيم لا يكون إلا في النداء، إذ تلتمس من هذه الصيغ (لا يجوز. التي توحي بالحتمية، أمام قانون لغوي يَحرم تجاوزه. مثال آخر: " إذا كان في أول الكلمة حرف لين، قلبت ألفًا؛ يُفرض على المتعلم قاعدة تحول دون حرية النطق، كما أن التسويغ مبني على "الاستخفاف"، - العنف في تقسيم اللغة إلى صحيح وفاسد: * قسم سيبويه اللغة إلى "مقبول" و"مردود"، مما ضيق دائرة الاستخدام اللغوي. رغم أن اللغة ظاهرة متغيرة بطبيعتها، فتجد أن في مواضيع يجيزها سيبويه وإن كانت قليلة، مثال: "وأما ما كثر في كلامهم حتى صار بمنزلة ما يجب أن يكون على ذلك، فلا يقاس عليه، لأنهم شبهوه بما يجب أن يكون عليه وليس مثله" ، يرفض سيبويه القياس على بعض الأساليب الشائعة بحجة أنها ليست أصلية، مما يدل على تشدد في تحديد ما هو "مقبول". - العنف في التعامل مع المخالفين: مثال : " وهو قول الخليل. * رفض بعض التفسيرات اللغوية حتى لو كانت منطقية، لأنها لم ترد في كلام العرب. * توجيه الأحكام النحوية بطريقة توحي بأن رأيه هو الصحيح الوحيد. فهو يرفض أسلوبًا معينًا لأنه لم يُسمع عن العرب، * تمسك باللهجات الفصحى ورفض الاعتراف ببعض التغيرات الطبيعية التي حدثت في اللغة. * جعل بعض الظواهر الصوتية حكراً على لغة قريش فحسب. مثال: "وأما لغة تميم، فإنهم يقولون في الوقف: هذا غلامُ، وهي لغة رديئة" ، إذ وصف لغة تميم بأنها "رديئة"، فتجد سيبويه يستعمل لغة حادة في الحكم على اللغات أو الأساليب اللغوية، بعبارات نحو: - "وهذا كلام خبيث يوضع في غير موضعه" . - "وهذا قبيح ، وهو قليل خبيث". كان قبيحا حتى تقول، واعلم أنه قبيح أن تقول. " . - "واعلم أن حروف الجزاء يُقبح أن يتقدَّمَ الأسماء فيها قبل الأفعال" . فكان يُبرز الطبقات الاجتماعية والقوى الثقافية آنذاك، ووفقا لنظرية (فوكو) عن السلطة والمعرفة، إذ نجد أن النحو العربي عند سيبويه ليس أداة وصفية حسب، واستئناسًا بالمفهوم الذي طرحه (بيير بورديو)، يلوح لنا أن النحو كما أسسه سيبويه، لم يتحدد بنظام لضبط اللغة، بطريقة تجعل اللغة أداة ضبط اجتماعي وثقافي يكمن في فرض قواعد نحوية صارمة تميز بين اللهجات، - العنف في تسويغ القواعد النحوية * التركيز على التفسير المنطقي أكثر من العملي للاستعمال اللغوي. مثال: هذا التعليل المتداخل يجعل فهم القاعدة أكثر صعوبة على المتعلم. - ويتجلّى الغموض والتعقيد في الكتاب أيضًا، بتعدّد الأفكار والمصطلحات للمفهوم الواحد، إذ يذكر سيبويه أن بعض الظروف، مثل: خلف وأمام لا تستعمل أسماء غير ظروف إلا في قليل من الكلام، والقصد، والناحية، وأما الخلف والأمام والتحت فهن أقل استعمالا في الكلام أنْ تُجْعل أسماء، فحكم بأن استعمالها أسماء غير ظروف أكثر وأجرى في الكلام، مثل: القصد، والنحو، والأمام، والتحت، فتكون أسماء، وكينونة تلك أسماء أكثر وأجرى في كلامهم . وفي مسألة أخرى يستقر التضارب عند سيبويه في أكثر من موضع أن التاء في بنت وأخت للتأنيث، وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكنا . وذلك في أول (الكتاب) فى تعليله لوجود ثمانية أنواع من العلامات الإعرابية وهو يُعبّر عن مكان الإعراب ( بالمجرى)، يقول فيه (هذا باب مجارى أواخر الكلم من العربية ) ، يتضح من خلال هذه المظاهر أن كتاب سيبويه، رغم أهميته في ضبط اللغة العربية، يُجلّي نوعًا من العنف اللغوي الذي جعل النحو أكثر تعقيدًا، المصطلحات، وطريقة العرض كانت سببًا في الصعوبة التي واجهها المتعلمون، كما فعل ابن مضاء القرطبي في كتابه (الرد على النحاة . وصفوة القول، بل هو نظام تحكم وتوجيه للكلمات والجمل، فبسطت المصطلحات المستخدمة فيه أشكالًا مختلفة من القوة، والقسر، ولا مشاحة في القول، الذي يشبه فكرة ( رأس المال الثقافيّ) عند (بورديو)، في النظام الذي بناه سيبويه، إذ ليس كل متحدث بالعربيّة يملك السلطة نفسها على اللغة، فتُمنح قيمة أعلى للهجات الذين يمتلكون القدرة على الحديث بلغة السلطة التي حددها بيد من يملكها. وهي ملاحظات واستدراكات، وموضع محوج إلى فضل تأمل إلى أهل النظر، فهي تحتاج إلى رؤى فاحصة، وعمل دؤوب، وتخطيط لغويّ يطبق حلًا لما اعتاص اللغة من عنف رمزي أو ظاهر، لا يتسع الحديث للإفاضة فيها. هذا وإن الدراسة لا تعتني بالمسألة وكُليتها ولا بمعلولاتها المبسوطة على أجواء الدرس النحويّ، إذ وجدنا مظاهر هذا العنف لمستقر بين أركان أبوابها، والدراسة لا تتسع ولا تنال الكشف بجُلّه، أما الجانب الثاني، فينداح إلى رصد تمثلات العنف اللغوي المركوزة في أعطاف الأمثلة النحوية المصنوعة من ملامح متعددة تجتمع قاطبة باستعمال أمثال عنيفة، وإن هذا الجمع، لا ينال تحليلا لغويا، ولو سعينا إلى تعريف جامع للعنف اللغوي ذهبت بنا المحاولة بعيدًا، إذ بادئ الأمر قد يستغرق على الواحد كيف للعنف أن يصحب اللغة وهي مسكن الوجود، استعمالًا مباشرًا أو غير مباشر، وإن كان الأثر الأكبر يقع تحت الكلمات الضمنية التي تحمل بينها تلميحات بالإقصاء أو التمييز، إذ تُستعمل الكلمات أداة للسيطرة والقهر. ويحسن أن نشير في مفهوم عنف اللّغة إلى رأي جان جاك لوسركل(J. Lecercle) ، وإن كان يركز على جانب من اللغة الذي يدعوه بـ (المتبقي) أو المقموع، وهو جزء مستلب و مستبعد من النظام اللغوي، أي ما تنبذه قواعد النحو، وزلات اللسان، والأخطاء النحويّة، وغيره، ويعادل اللاوعي لدى (فرويد)، وهذا الجانب هو الذي يرتع فيه المبدعون والشعراء، والصوفيون، ومع أن هذه الممارسات لا تسير بحسب قواعد النحو، إلا أن (لوسركل) يصل إلى استنتاج أن ذلك الجانب من اللغة الذي يدعوه بـ "المتبقي" ليس ذلك الجانب الغامض الواقع خلف حدود اللغة بل هو ظلها الملازم وجانبها الآخر، بل يعده الجزء الصادق من اللغة، فهو طرف مقهور يعاود الظهور لغويًا في عدة أشكال، ويؤكد (لوسركل) أن المتبقي هو تسلل التناقضات والصراعات الاجتماعيّة التاريخيّة إلى حرم اللغة، وأن ليس هناك ما يمكن تسميته بالاستقرار في نظام اللّغة، ويرى أنّ الإنسان يستمتع بارتكاب هذا الإثم اللغويّ؛ لأنّ هذا العنف الذي يمارسه ضدّ تراكيبها هو الذي يضفي ويضيف إليها الحيويّة، كما يؤكد (لوسيركل)، بل وإن هذا السف اللّغوي –حسب تعبيره- يُغني اللغة ويرفدها ولا ينقض عراها. فهو يرى أن اللغة هي التي تتكلم، إذ هي من تملك زمام السيطرة على متحدِثها ولو بطريقة غير شعوريّة، تفرض عليه قوانين صارمة تحد من حريته، لا اللغة من تتكلم، وذلك بخرق قواعدها وقوانينها القسرية بالعثور على لغة تخمد استبعاده. فيما يلي يمكن ذكر تلك الأشكال التي يتجلّى بها عنف لّغويّ لصيق، التي تظهر من خلال الشكل الآتي: لقد مكّننا النظر من تبين الخصائص التي تختزل ضروب العنف اللّغويّ من أشكال متعددة وإن كنا لن نخوض بجلّها إلا لِماما، إذ إن أنواع العنف اللغوي لم تقف عند حد معين، ويدمر اللغة القوميّة بمنعها على حساب لغة المستعمِر. في غياب اللغة الصمت أو إسكات الصوت، بحرمان فئة معينة من التعبير، يعكس علاقات القوة والهيمنة، مثل: غياب صوت المرأة التي تحرم من فرص ظهورها في مواقف معينة، وسنرى بمزيد من الوضوح ما تستقر عندها الفكرة في مجال وضعها من الدراسة، وسندرك أيضًا، تحيز اللغة أو ليونتها إزاء التأنيث في مواطن متعددة من مبحثي النحو والصرف. - العنف في موضوعات النحو العربي: تتضمن بعض موضوعات النحو العربي عنفًا رمزيًا، مثل: العنف اللّغويّ في مسألة التذكير والتأنيث كان غياب النماذج الأنثويّة في الأمثلة النحويّة واضحًا، فلم نجد مثلًا:(ضربت هند فاطمة)، إذ ركزت الأمثلة المستخدمة على الشخصيات الذكورية، زيد، وعمرو، وكثيرًا ما أغفلت الإناث وسرّحتهن من خطابها النحويّ، و" تبقى المرأة مع كون المعادلة موضوعاً للفعل لا ذاتًا فاعلة لأن الفعل هو للرجولة في جنسويتها" ، وإن هذا التغييب أباح هيمنة النظرة الذكوريّة في التنظير اللّغوي القديم، "فالشهادة في النحو مأخوذة من العرف وعادة أصحاب اللغة، فتبدى مِقود قيادة نظام اللغة بيده. ولم يكن النحويون وحدهم من أزاح المرأة عن بِساط أمثلتهم النحوية، بل وصل ذلك إلى قواعدهم النحوية، وأخذت مسألة التذكير والتأنيث نصيبًا ثاويًا في اللغة العربية تتسرب منها ظلال عنف لغويّ مُتأصل في تلكم المسألة التي نسترفد فيها قضية تغليب التذكير الذي نعده شكلًا من أشكال العنف اللّغوي. و يخطىء من يحصر التأنيث والتذكير في مسائل لغوية مجردة، إذ تحمل أبعادًا تتجاوز التصنيف النحوي، وجوهر الفكر لا يعلن نفسه إلا باللغة، وتشكل مسألة تغليب التذكير على التأنيث إحدى تلك الزوايا التي تعلن عن حق الولاية للتذكير دون التأنيث، فاللغة خاضعة لمقاييس المجتمع وعاداته وثقافاته، كان الإيجاب تحقيقًا للثوابت الحاضرة في عاداتهم ولغتهم، واستبهامات، وتمثيلات شتى، وقد حظي باب التذكير والتأنيث بعناية النحويين، وذلك قول أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري: " إنّ من تمام معرفة النحو والإعراب معرفة المذكر والمؤنّث؛ لأنّ من ذكّر مؤنّثا أو أنث مذكّرا كان العيب لازما له، بل عدت المعرفة بها من باب الفصاحة، وهذا ما ذكّر به السجستاني في قوله: إن أول الفصاحة معرفة التأنيث والتذكير، وإن معرفة التأنيث والتذكير ألزم من معرفة الإعراب، وكلتاهما لازمة، وتعد موضوعة التأنيث والتذكير في العربية وفي اللغات السامية وغيرها من اللغات، فقد" أشكلت ظاهرة المذكر والمؤنث على الباحثين قديماً وحديثاً؛ لأنها لا تخضع إلى منطق، كما أنه يأتيك من الأسماء ما لا يعرف لأي شيء هو. " ، وقد ذكر ابن التستري في فاتحة كتابه (المذكر والمؤنث) قوله:" ليس يجري أمر المذكر والمؤنث على قياس مطّرد ولا لهما باب يحصرهما " ، ولعل الغموض الذي أحاط بهذه المسألة قد يعود إلى التصاق التذكير والتأنيث بالتاريخ اللّغوي، ونشأة اللغة والتطور الذي طرأ على مسيرتها أمر مجهول كما قرره العلماء والباحثون، لأنه لا ينتظم وفق قانون أو قاعدة بل المعول عليه السماع والرواية، لذا تباينت الآراء حوله" ، مما جعل المستشرق (برجشتراسر Gotthelf Bergsträßer) يصرح إن" التأنيث والتذكير من أغمض أبواب النحو، ومسائلهما عديدة مشكلة ولم يوفق المستشرقون إلى حلها حلًا حازمًا" ، وباب الجنس ينفلت قواعده ويصعب حصرها واطرادها، وأغلب الظن أن الاعتياص المتحصل بسبب التأصيل اللغوي، وغياب الإجابات عما يدور في خَلَد واضعي اللغة قديمًا. على الرغم من كثرة ما سطّره السابقون، منوط بتصورات الشعوب لهذه الأشياء، فما اقترب في شكله أو صفته تربطه بالأنثى الطبيعية جعلوه مؤنثاً،