1- مهمّة الداعية : لنتعرف على مهمّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يعدّ الداعية خليفة لهم في دعوتهم . ووظيفة التنفيذ والتطبيق . وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الوظائف الثلاث في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لربهما بعد فراغهما من بناء البيت : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } ( البقرة : 129 ) , أو ما يعبّر عنه في المصطلحات الدعوية المعاصرة التكوين , وإحداث تغيير جذري ومتوازن في حياتهم . " . وقد ترد إلى أذهاننا بعض النصوص القرآنية التي تحصر وظيفة الرسول في البلاغ المبين فقط دون سواها من الوظائف , وقوله سبحانه:{ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ }(النور:52). والإجابة عن هذا الوارد أنّ هاتين الآيتين وأمثالهما من الآيات التي جاءت في نفس المعنى وردت في سياق إعراض الناس عن الدعوة , فقد ربطت قصر وظيفة الرسول على البلاغ بشرط وهو إعراض من وجّهت لهم الدعوة , وفي قوله تعالى:{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ }(الشورى:45), فحين يعرض المدعوون عن الدعوة لا يكلّف الرسل إلا بالبيان والتبليغ فقط لإقامة الحجة عليهم, يكون المطلوب من الداعي تعليمهم وتزكيتهم, والعمل على تطبيق الدين في حياتهم. وتؤكد لنا وقائع السيرة النبوية قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوظائف الثلاث في دعوته لقومه , فقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في تبليغ رسالة ربه إلى أفراد قومه من خلال الاتصال بهم في الأسواق وأماكن جلوسهم وأماكن الشعائر في موسم الحج, فيجتمع بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم, كما خصّص صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة مكانا خاصا يستقبل فيه من التحق بدعوته من أفراد القبائل العربية في دورات تعليمية تربوية , ليتحقق الهدف المنشود وهو إحداث التغيير في الأنفس الذي يكون المقدمة لتغيير الله عز وجل ما بالناس , فيسطع نوره , وإدراك الداعية أن مهمّته تشمل هذه الوظائف الثلاث يجعله يسير في الطريق الصحيح, أو لأولويات دفعتهم إلى ذلك. ومنهم من ينتقدنا " . صفات الداعية ومؤهّلاته إنّ كلّ مهمّة بحسب طبيعتها تقتضي للنجاح في القيام بها أن يكون القائم بها متصفا بمجموعة من المواصفات, أو مؤهّلا بمؤهلات تمكّنه من القيام بها على أكمل وجه, ولا يصلح لمهمة أخرى, فتعجبوا من تعيينه ملكا عليهم رغم أنه لا يملك المؤهّلات لهذا المنصب الخطير في نظرهم، والتي تتمثّل أساسا في أن يكون من أكثرهم ثروة ومالا, فأخبرهم نبيهم أنّ المهمّة المنوطة به تقتضي مؤهّلات ذات صلة بها, فالقائد العسكري يشترط فيه أن تكون له دراية بفنون القتال وقدرات بدنية كبيرة واتصاف ببعض الصفات اللازمة لهذه المهمة, ولا علاقة للنجاح في هذه المهمة بكونه غنيا أو فقيرا. وقد سجّل القرآن الكريم لنا هذا النقاش في قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ, وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }(البقرة:244-245). فركّز على صفتين أساسيتين لا بد منهما للنجاح في القيام بهذه المهمّة, أسهبنا في بيان هذا المعنى, رغم ما يبدو للناظر لأول وهلة بأن هذا الأمر واضح لا يحتاج إلى بيان واستدلال, وذلك بسبب ما يلاحظه الدارس لكتب فقه الدعوة عند طرقها لموضوع صفات الداعية, واكتفاء بسرد مجموعة كبيرة من الصفات تمثّل صفات المؤمنين عامة وليست صفات خاصة يتميّز بها رجل الدعوة. فالتناول السليم لموضوع صفات الداعية يقتضي استحضار المهمة الدقيقة له, وقد أشرنا في المحاضرة السابقة إلى أن مهمة الداعية تتمثل في القيام بوظائف ثلاث: البلاغ والتزكية والتنفيذ, وكل وظيفة من هذه الوظائف تحتاج إلى نوع خاص من الكفاءات أو المؤهلات أو الصفات, يبعد أن تتوفر في شخص واحد- باستثناء الأنبياء عليهم السلام-, بل إنّ من الأنبياء عليهم السلام من كان يرى عدم توفّره على بعض المؤهّلات التي تقتضيها وظيفة من وظائفه, فسأل الله أن يعينه بمن يملك مؤهّلات قوية ذات صلة بتلك الوظيفة, فهذا موسى عليه السلام يسأل ربه أن يشدّ أزره بأخيه هارون لما يمتلكه من قدرة عالية على البيان يرى عليه السلام أنّه لا يمتلكها, كما يدلّ على ذلك قوله تعالى على لسانه:{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِداً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ }(القصص:34) . وخلاصة ما نريد قوله في هذا التمهيد أن تناول موضوع صفات الداعية ومؤهّلاته ينبغي أن لا يتمّ بمعزل عن ملاحظة مهمّته. وإذا أخذنا بالاعتبار هذه الملاحظة, يمكننا في حديثنا عن صفات الداعية أن نركّز على الصفات الأساسية الآتية: 1- المعرفة الجيدة بالإسلام : أول صفة من الصفات الأساسية التي يجب أن يتصف بها الداعية لينجح في القيام بمهمته بوظائفها الثلاث, أن تكون لديه معرفة جيدة بالإسلام. أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسوة الدعاة ومثلهم الأعلى قبل أن يؤمر بالإنذار والدعوة, أمر أولا بالقراءة, ثم إن الله عز وجل تولّى تعليمه بـما يوحي إليه , وأمره أن يسأله الزيادة في العلم في قولـه سبحانـه:{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }(طه:114). وتكسبه ملكة تقدره على إدراك كلياته ومقاصده. فبهذه المعرفة الجيدة يُعطي الداعية صورة واضحة وصحيحة عن الإسلام للناس, وبها يتمكن من الارتقاء بهم في مدارج الكمال الإنساني وهو يتولى تربيتهم وتزكيتهم بخطوات ثابتة سليمة بعيدة عن كل إفراط أو تفريط, كما يوفق بفضل هذه المعرفة إلى الوسائل والأساليب التي يجعل بها الدين واقعا في حياة الناس وأعمالهم. كما يمكن أن ندرك دور المعرفة الجيدة بالإسلام من خلال حديث: " يحمل هذا الأمر من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين" . فالقدرة على معرفة التحريف في الدين والغلو فيه لا تحصل إلا لمن كانت له معرفة دقيقة بالدين في أصوله وفروعه. 2- المعرفة الجيدة بالواقع : إن الهدف من الدعوة في نهايته هو نقل الإنسان فردا ومجتمعا من حال يكون فيها بعيدا عن قيم الدين وأحكامه إلى حال يعيش فيها منسجما مع هذه القيم والأحكام. ومن المعلوم أن هذه النقلة كما تحتاج إلى معرفة جيدة بمبادئ الدين وأحكامه, باعتبار أن له دورا في تشكيل فكره ونفسه وسلوكه. وتُبصِّرُ هذه المعرفة الداعية بالتحديات التي تحول دون الاستجابة لدعوته, وتمثّل صعوبات لتمثّل قيمها وأحكامها بعد الاستجابة لها, كما أن هذه المعرفة تمكّنه من تحديد الأولويات التي ينبغي أن يركز عليها في دعوته, ويعرف كل صغيرة وكبيرة من شؤونهم, واستثماره صلى الله عليه وسلم لتلك المعرفة في دعوته, كما تدلّ على ذلك مواقف كثيرة من دعوته صلى الله عليه وسلم, مثل نهيه لهم عن زيارة القبور وادخار لحوم الأضاحي, ثم إذنه لهم بذلك كله . وتارة ينهى, وتارة يبيح, وتارة يسكت عن الأمر والنهي. كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت, وكذلك التائب من الذنوب, لا يمكن أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم, فإنّه لا يطيق ذلك. وإن لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال. وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه عليه ابتداء, بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان, ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرّمات وترك الأمر بالواجبات, ويقدم الإمام الشاطبي للداعية ثلاث ضوابط تعينه على معرفة ما يجب عليه إبلاغه وما يجب عليه إرجاؤه أو تركه, وقد أخبر مالك عن نفسه أنه عنده أحاديث وعلما ما تكلّم فيها ولا حدّث بها, فتنبّه لهذا. فانظر مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله, فإن لم يؤدّ ذكرها إلى مفسدة, وإمّا على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ, فالسكوت عنها هو الجاري وفق المصلحة الشرعية والعقلية" . 3- قوّة الصلة بالله تعالى: يبغي أن يقوي رجل الدعوة صلته بالله تعالى , حيث يعيش دوما مع الله تعالى فيما يقوم به من عمل, والتوكل عليه والإخلاص له. حيث تظهر آثارها في كلام الداعية صدقا وتفاعلا بكل كيانه, وفي مواقفه قوة وثباتا وصبرا على المساومات والإعراض والأذى, وقد وُجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ الفترة التي سبقت بدأ نزول الوحي عليه إلى توثيق صلته بربه سبحانه, 4- حبّ الخير للناس والاهتمام بصلاحهم في الحال والمآل: من أهم الصفات التي تمكن الداعية من النجاح في مهمته أن يتجاوز في تفكيره وفي مشاعـره حدود الأنا والذات إلى الشعور القوي بالآخرين وهمومهم ومشكلاتهم, والحرص على خدمتهم, ودفع الضرر عنهم في الحال والمآل. وأصل هذه الصفة في نفسه ما يملأ قلبه من شعور بالرحمة والشفقة على عباد الله يرتقي إلى درجة رحمة الأم بولدها. وختاما برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه لقومه بقوله سبحانه :{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }(التوبة:129 ), ويثمر هذا الشعور في رجل الدعوة كما أشار النص القرآني تألما لما يكون في حياة الناس من آلام ومشكلات سببها الإعراض عن دين الله, وعملا على تخليصهم ممّا يعانونه بسلوك جميع السبل الممكنة , واستخدام كل الوسائل المشروعة. وقد يكلّف هذا الشعور الداعية بذل جهود كبيرة, ثم أخرج إلى ميدان المسجد والسوق والعشيرة والميادين العامة, وأواسي كل ذي حاجة, مدفوعا بعاطفة حبّ الناس" . 5- الجاذبية الأخلاقـية: وذلك لا يكون إلا لمن تخلق بأخلاق لا يتمكّن منها عموم الناس نذكر منها: الصدق والأمانة, الحلم والعفـو وسعة الصدر, فقـال صلى الله عـليـه وسلـم موجّـها لهـم:"إنكم لا تسعون الناس بأموالكم, فأشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن كفوا, فأرسل إليه وزاده شيئا, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت ما قلت , فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل هذا, كمثل رجل له ناقة شردت عليه, فإني أرفق بها منكم وأعلم, فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها, 6- صفات عملية: من هذه الصفات العملية نذكر الصفات التالية: