لخّصلي

تميزت القصائد الطوال في الشعر الجاهلي بمقدماتها، التي تتمثل في المقدمة الطللية، والمقدمة الغزلية، ومقدمة الظعائن، ومقدمة بكاء الشباب، ومقدمة وصف الطيف. وغالباً ما تكون هذه المقدمات بمختلف أنواعها وسيلة انطلاق إلى الموضوع الرئيس، كالمدح والهجاء والفخر والغزل والرثاء.

أولا : المقدمة الطللية

شغلت المقدمة الطللية الدارسين، كما شغلت الشعراء أنفسهم، وأكدوا أولية امرئ القيس في ابتداعها، لكونه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء منها: استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب ..» (1) . ويقال إن امرأ القيس حاكى شاعراً آخر في بكاء الديار، فقد أشار ابن سلام إلى ذلك من خلال قول امرئ القيس:

عوجا على الطلل المحيل لعلنا نبكي الديار كما بكى ابن جذام (2) وابن جذام هو الشاعر الذي حاكاه امرؤ القيس، ولكن القدماء لم يعرفونا بهذا الشاعر، إذ اختلفوا في اسمه، واضطربوا في أخبار حياته اضطراباً شديداً. ويورد الجاحظ بيت امرئ القيس المذكور ويعقب عليه بقوله: «من بكى في الديار قبل امرئ القيس، امرؤ القيس بن جذام... ويزعمون أنه أول من بكى في الديار (3). ولعل هذا الزعم هو الذي يجعلنا نشك في أولية هذا الشاعر، فلربما شاركه آخرون في ذلك، ويجعلنا نميل إلى أن هذه المقدمة أصحبت تقليداً جاهلياً.

ولا شك في أن الوقوف على الطلل يمثل تحولاً من الماضي إلى الحاضر على صعيد الزمن، وتحول الديار العامرة إلى أطلال، بحيث يقف الشاعر مشدوها أمام هذا ثانيا : المقدمة الغزلية

لم تكن المقدمة الطللية هي الوحيدة التي اهتم بها الشعراء، وإنما كان الاهتمام أيضاً بالمقدمة الغزلية، وقد ذهب القدماء إلى أن المهلهل بن ربيعة هو أول من قصد القصائد وأطالها وقال الغزل في أوائلها. ثم تبعه امرؤ القيس وأخذت تتكامل عند الشعراء اللاحقين من أمثال طرفة بن العبد والأعشى. وهنا ننوه إلى مسألة نراها ضرورية، وهي أن الحديث عن الطلل غالباً ما يؤدي إلى الحديث عن الغزل، ولذلك لاحظنا أن كثيراً من القصائد التي تبدأ بالطلل يتخللها حديث عن المحبوبة، أو لنقل: إن الشاعر عندما يتذكر الطلل فإنه يتذكر المحبوبة، لذلك يقوم بوصفها، وهذا يؤكد الصلة الوثيقة بين الطلل والغزل، فنحن بناء على ما أصلنا لا نتفق تماماً مع الدكتور شكري فيصل في تفريقه بين المقدمتين، إذ إنه يصف المقدمة الطللية بأنها كانت تعبيراً وجدانياً ينبعث عن هذه المظاهر الخارجية، لذلك هي أحفل بالحياة من هذا النوع من الغزل الذي لم يكن إلا تعبيراً وصفياً تصويرياً (1)، فنحن لا نوافقه الرأي فيما يخص المقدمة الغزلية، أفلم تكن هذه المقدمة تعبيراً وجدانياً أيضاً كما في المقدمة الطللية؟ وتعد المقدمة الغزلية عند الشعراء الصعاليك جزءاً أصيلاً في بناء القصيدة»(1)؛ لكونهم يستخدمونها للتخفيف من آلامهم وأحزانهم من ذلك مقدمــة عبـدة بــن الطبيب (2) التي افتتح بها لاميته، إذ تغزل بمحبوبته من خلال التعبير عن أحزانه وآلامه،

إثر رحيل المحبوبة، وقد أخفق في إقناعها بالعودة، فنسمعه يقول (3):

هل حبل خولة بعد الهجر موصول أم أنت عنها بعيد الدار مشغول ؟

صنو ذلك مقدمات قيس بن الحدادية التي افتتح بها بعض قصائده، وبخاصة

عينيته المشهورة التي أفردناها بالدراسة والتحليل.

ويتبين بعد دراسة المقدمات الغزلية في كتب المختارات الشعرية أن وجود مثل هذه المقدمات ليس قليلاً، كما أن عدد أبياتها لم يكن قصيراً كما رأينا، ويمكن تفسير ذلك بأن انتشار المقدمات الغزلية مرتبط بالواقع الاجتماعي والنفسي لكل شاعر، ولذلك جاءت هذه المقدمات تحمل شحنات عاطفية قوية تدل على شخصيات أصحابها، وإن ظهرت فيها صور مكرورة معادة، ومن اليسير أن نفسرها بأن الموقف العاطفي موقف إنساني يشترك فيه الناس جميعاً، وبأن الشعراء استمدوا هذه الصورة التي عبروا بها عن عواطفهم من واقع الصحراء، وظروف البيئة التي عاشوها، وأحبوها، وكثر حنينهم إليها»(4).

ثالثا : مقدمة الظعائن

إن الشعراء في مثل هذا النوع من المقدمات يصفون الظعائن وسيرها، ويصورون المرأة وهي في هودجها، ومن ثم فإن الشاعر في كل ذلك يعبر عن حزنه، وأسفه، وخيبة أمله نتيجة لهذه الرحلة، وهذا الفرق، أي أن الشاعر هنا يتحدث عن غير قضية في هذه المقدمة.

ويمكن هنا أن نثبت أمرين، أولهما: أن الحديث عن الظعائن ووصفها متصل بالغزل، ذلك أن معظم الأفكار التي تناولها الشعراء في الغزل (الحسي والمعنوي) نجدها في مثل هذه المقدمات، لا غرابة في ذلك لأن الدافع الرئيس وراء مثل هذا الشعر الذي يصف الهوادج والرحلة وسيرها هو المرأة الموجودة فيها، ومن هنا كان الأمران متصلين اتصالا وثيقاً.

والأمر الآخر وهو يتفق مع ما ذكرناه آنفاً في حديثنا عن عدم واقعية تلـك الصفات التي وصف بها الشعراء المرأة في جانب الغزل، فنقول إذا كانت المرأة موجودة في هذه الهوادج، وذلك يعني أنها لا تظهر للآخرين، فكيف استطاع الشاعر أن يراها، ويصفها بهذا الوصف ؟

رابعا : مقدمات بكاء الشباب
وفي مثل هذا النوع من المقدمات يصور الشعراء أحاسيسهم ومشاعرهم نتيجة ذهاب الشباب رمز القوة والفتوة، وحلول الشيب رمز الضعف والهرم محله، فليس أمام الشعراء بعد هذا الوضع الراهن إلا أن يتذكروا الأيام الماضية، فمثل هذه الأشعار التي تقال في بكاء الشباب تدخل ضمن باب الفخر الذاتي.