خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة
وبعد التغلب على عقبات كثيرة، يتصوَّرون أنها كلها تهديهم إلى الحقيقة، ولم تصمد في النهاية إلا تلك السمات التي تثبت أنها تساعد على العلو ببناء المعرفة وزيادة قدرة الإنسان على فهم نفسه والعالم المحيط به. ونستطيع أن نتَّخذ من هذه الخصائص مقياسًا نقيس به مدى علمية أي نوع من التفكير يقوم به الإنسان، مع فارق أساسي هو أن سكان هذا البناء يَنتقلون إلى الطابق الأعلى؛ وقد يبدو هذا الوصف أمرًا طبيعيًّا بالنسبة إلى أي نوع من النشاط العقلي أو الروحي للإنسان، ولكن قليلًا من التفكير يقنعنا بأن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى أنواع متعدِّدة من هذا النشاط؛ بمعنى أن كل مذهب جديد يظهر في الفلسفة لم يكن يبدأ من حيث انتهت المذاهب السابقة، بل كان يَنتقِد ما سبقه ويتخذ لنفسه نقطة بداية جديدة. ذلك لأن افتقار المعرفة — في ميدان الفلسفة — إلى الصفة التراكمية، يجعل المشتغلين بالفلسفة يجدون في تياراتها القديمة أهمية لا تقل عن أهمية التيارات الحديثة؛ بمعنى أننا نظلُّ نتذوق الفن القديم، ولا نتصور أبدًا أن ظهور فن جديد يَعني التخلي عن أعمال الفنانين القدماء أو النظر إليها بمنظور تاريخي فحسب، بحيث لا يُمكن أن يُفْهَمَ هذا الاتجاه حق الفهم إلا في سياقه التاريخي الذي ظهر فيه، ولكن الذي يعنينا هو أن تذوُّقَنا لفنٍّ معاصر لا يمنعنا من أن نتذوق فنون العصور الماضية، ومن هنا فإن سكان البناء العلمي — كما قلنا من قبل — هم في حالة تنقُّل مُستمر، ومهما بدا في أي وقت أن العلم قد وصل في موضوع معين إلى رأي نهائي مستقر، وهكذا بدا للناس — في وقت معين — أن فيزياء «نيوتن» هي الكلمة الأخيرة في ميدانها، أو حالة من حالات نظرية أوسع منها وأعم. ولا يكون العالم — كالفيلسوف — عقلًا يبدأ طريقه من أول الشوط، ولكن إذا كانت الحقيقة العلمية نسبية على هذا النحو، بمعنى أنها لا تتجاوز نطاق الاختلافات بين الأفراد، لكي تفرض نفسها على كل عقل إنساني بوجه عام. فكيف إذن نوفِّق بين الاعتقاد — الذي قلنا إنه صحيح — بأن الحقائق العلمية مطلقة وبين ما قلناه منذ قليل من أنها نسبية؟ الواقع أن الحقيقة العلمية — في إطارها الخاص — تصدق على كل الظواهر وتفرض نفسها على كل عقل، وبهذا المعنى تكون مُطلَقة. بل نعني أية كمية من الماء على الإطلاق، بل إلى كل عقل بوجه عام، لا بمعنى أنه يتغيَّر من شخص إلى آخر، ولكنها تختلف إذا نُقِلَت إلى مجال القمر، بمعنى أن الحقيقة التي تعبر عن المستوى الحالي للعلم تظل صحيحة وتفرض نفسها على الجميع في حدود معرفتنا الراهنة، وبذلك يكون هناك تعارض بين الطابع النِّسبي للحقيقة، كما يحدث عندما نقول: إنَّ ضغط الغاز يتناسب تناسبًا عكسيًّا مع درجة حرارته مقيسة بمقياس كلفن؛ وهكذا فإن صفة «التراكمية» في التفكير العلمي تجمع بين الطابع النسبي والطابع المُطلَق للعلم دون أي تناقض. هذه السمة «التراكمية» التي يتَّسم بها العلم هي التي تقدم إلينا مفتاحًا للرد على انتقادٍ يُشبع توجيهه — في بلادنا الشرقية على وجه الخصوص — إلى العلم، وواقع الأمر أنَّ هذا ليس اتهامًا للعلم على الإطلاق، ومن ثم فإن الثبات في هذا المجال هو الذي يَنبغي أن يُعَدَّ علاقة نقص. والتغيير الذي يَتَّخذ شكل «التقدم» والتحسين المستمر هو دليل على القوة لا على الضعف، وتُفسِّر الظواهر على نطاق أوسع منها كما قلنا من قبل. ومن هنا لم يكن انتقال العلم إلى مواقع جديدة على الدوام علامة من علامات النقص فيه، ولكن في أي اتجاه يسير هذا التراكم الذي تتَّسم به المعرفة العلمية؟ إنه — في واقع الأمر — يسير في الاتجاهين؛ أعني اتجاه التعمق في بحث الظواهر نفسها، واتجاه التوسع والامتداد إلى بحث ظواهر جديدة. أما عن الاتجاه الأول — الذي نستطيع أن نُسمِّيَه اتجاهًا رأسيًّا أو عموديًّا — ففيه يعود العلم إلى بحث نفس الظواهر التي سبق له أنْ بَحَثَهَا ولكن من منظور جديد وبعد كشف أبعاد جديدة فيها؛ أي على مستوى إدراك حواسِّنا المادية، وبازدياد تقدم العلم ازداد مستوى الأبحاث في الظواهر نفسها تعمُّقًا، وانتقل البحث إلى مستوى الجزيئات والذرات، أي مستوى أدق مكوِّنات الذرة نفسها. وما زال العلم يتعمق في هذا الميدان الهام إلى مستويات تزداد دِقةً، وتُتيح لنا مزيدًا من السيطرة على العالم المادي، إذ يُمكن القول — على سبيل المثال — إن التحليل النفسي عند فرويد هو محاوَلة للتغلغل إلى أبعاد في النفس البشرية أعمق من تلك التي كان يقتصر عليها علم النفس التقليدي، ويقتنع بالتعديلات والتبريرات الواعية التي تُقدم لهذا السلوك، وأما الاتجاه الثاني — وهو الاتجاه الذي يُمكن أن يُسمى أفقيًّا — فهو اتجاه العلم إلى التوسع والامتداد إلى ميادين جديدة؛ ذلك لأن العلم بدأ بنطاقٍ محدود من الظواهر، على حين أنَّ ميادين كثيرة كانت تُعَدُّ أعقد أو أقدس من أن يتناولها العلم، مثل علم الاجتماع وعلم النفس اللذَين ظَهَرَا في القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فكانت دراسة الإنسان متروكة للتأمُّلات الفلسفية التي كانت تزودنا — بغير شك — بحقائق عظيمة القيمة عن الإنسان، ولكن هذه الحقائق كانت تتَّخذ شكل استبصارات عبقرية ولا تَرتكِز على دراسة منهجية، على أساس أن هذا هو أقرب الميادين إليه، وبعد أن تَكمل دراستُه لنفسه يُصبح لديه من النضج ما يَسمح له بدراسة العالم الخارجي، وربما كان يُعزِّز هذا الرأي أن الآداب والفلسفات والعقائد والتشريعات — التي تعد شكلًا قديمًا وهامًّا من أشكال معرفة الإنسان — قد ظهرت قبل العلم التجريبي بزمن طويل. ولكن حقيقة الأمر هي أنَّ هذا الشكل الأوَّلي الذي اتخذته معرفة الإنسان لنفسه كان بعيدًا عن الطابع العلمي، ففي العالم القديم كانت المذاهب الفلسفية الأولى مذاهب «طبيعية»، التي تركَّزت أبحاثها على العالم الطبيعي، ولم تَلحقها دراسة الإنسان علميًّا إلا بعد قرنين على الأقل، إذ إن دراسة الإنسان — وإن كانت تبدو أقرب وأسهل منالًا لأنها تتعلَّق بمعرفة الإنسان لنفسِه على نحو مباشر — هي في واقع الأمر أعقد بكثير من دراسة الطبيعة؛ ففي المحاولات الأولى التي بذَلها العقل البشري من أجل فهم الطبيعة، كان الإنسان يلجأ إلى تشبيه الطبيعة بنفسه، فيتصوَّر أن أحواله النفسية والحيوية لها نظير في حوادث الطبيعة، فبعد أن كانت الظواهر الطبيعية تفسَّر على مثال الظواهر البشرية؛ كما ظهر عند «السلوكيين» والمدارس التجريبية في علم النفس بوجه عام؛ وهكذا أصبحت الظواهر المتعلقة بكائن له حياة ونفسٌ أو روح (أعني الإنسان) تُدْرَس كأنها ظواهر تنتمي إلى الطبيعة الجامدة، بعد أن كانت ظواهر الطبيعة الجامدة — في العصور القديمة — تُفَسَّر كما لو كانت ذات حياة ونفس أو رُوح. والذي يَعنينا من هذا كله أن العلم يتوسَّع ويمتدُّ رأسيًّا وأفقيًّا، وأنه يقتحم على الدوام ميادين كانت من قبل متروكة للخرافات أو للتفسيرات اللاعقلية، فحتى القرن الثامن عشر كانت أوروبا ذاتها تنظر إلى المرض العقلي على أنه ناتج عن تسلُّط رُوح شريرة على الإنسان، وكلها تُثبِت أن العلم يتوسَّع في جميع الاتجاهات. ومرة أخرى نقول إنَّ هذا التوسع يتضمن ردًّا مفحمًا على أولئك الذين يجدون متعة خاصة في اتهام العقل البشري بالقصور، وهي أن التوسُّع في المعرفة البشرية يسير باطراد، في كل لحظة من حياتنا الواعية يستمر تفكيرنا، ويعمل عقلنا بلا انقطاع، ولكن نوع التفكير الذي نُسمِّيه «علميًّا» لا يمثل إلا قدرًا ضئيلًا من هذا التفكير الذي يظل يعمل دون توقف؛ وإنما تسير بطريقة أقرب إلى التلقائية والعفوية، ولكنه يظلُّ مع ذلك شكلًا من أشكال التفكير، ومثل هذا التفكير الطليق غير المنظَّم سهل ومريح؛ ولذلك فإننا كثيرًا ما نَستسلِم له هربًا من ضغط الحياة أو تخفيفًا لمجهودٍ قُمنا به، أما التفكير العلمي فمن أهم صفاته التنظيم؛ وكلها أمور شاقة تحتاج إلى مران خاص، ولكن إذا كان العلم تنظيمًا لطريقة تفكيرنا أو لأسلوب ممارستنا العقلية، فإنه — في الوقت ذاته — تنظيم للعالَم الخارجي؛ أي إننا في العلم لا نقتصر على تنظيم حياتنا الداخلية فحسب، بل تنظيم العالم المحيط بنا أيضًا؛ بل إنَّ مهمتنا في العلم هي أن نقوم بهذا التنظيم الذي يمكننا من أن نَنتقي من ذلك الكل المعقَّد ما يهمنا في ميداننا الخاص. ويَنطبِق ذلك على ميدان العلوم الإنسانية مثلما ينطبق على ميدان العلوم الطبيعية؛ يجد ألوفًا من الظواهر المعقدة المتشابكة؛ حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، على أنَّ التنظيم سِمة لا تبدو مُقتصرة على العلم وحده، فكل نوع من أنواع التفكير الواعي — الذي يهدف إلى تقديم تفسير للعلم — يتَّصف بنَوع من التنظيم. بل إنَّ الأساطير ذاتها تُحاول أن تُوجِد نظامًا معينًا من وراء الفوضى الظاهرية في الكون، وحين تَفترض وجود آلهة أو أرواح خفية وراء كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، فإنها تسعى — عن طريق ابتداع هذه الكائنات الشخصية — إلى إيجاد شكلٍ من أشكال التنظيم في الظواهر، وحين ظهَر الفكر الفلسفي بعد ذلك ليحلَّ محلَّ التفكير الأسطوري كانت فكرة وجود نظام في الكون من أهم الأفكار التي دارت حولها الفلسفة اليونانية. بل إنَّ نظرة اليونانيين إلى الكون — التي عبَّر عنها استخدامهم للفظ cosmos للتعبير عن الكون — كانت مبنيةً أساسًا على فكرة التوافُق والانسجام والنظام الذي يمكن فهمه بالعقل، بل إنَّ كثيرًا من علماء الكلام واللاهوتيِّين يتخذون من وجود النظام في الكون دليلًا من أدلة وجود الله ومظهرًا من مظاهر قدرته. وهكذا يستحيل تصور العالم بطريقة عشوائية أو غير منظمة ما دام الخالق قادرًا على كل شيء. فما هو الجديد الذي يأتي به العلم في هذا الصدد؟ أو على الأصح: فيم يختلف التنظيم الذي يقتضيه التفكير العلمي عن ذلك التنظيم الذي يَظهر في أنماط التفكير المُغايرة للعلم؟ على حين أن العالم — وفقًا لأنماط التفكير الأخرى — مُنظَّم بذاته؛ ففي التفكير الأسطوري وفي التفكير الفلسفي نجد النظام موجودًا بالفعل في العالم، أما في التفكير العلمي فإنَّ هذا العقل البشري هو الذي يبعث النظام في عالم هو في ذاته غير منظَّم؛ ولكن كيف يُحقِّق العلم هذا النظام في ظواهر الطبيعة المُتشابِكة والمعقَّدة والمُفتقِرة بذاتها إلى التنظيم؟ إنَّ وسيلته إلى ذلك هي اتِّباع «منهج» method — أي طريق محدَّد — يَعتمِد على خطة واعية. غير أنَّ القول بأن المنهج هو العنصر الثابت في العلم قد يُفْهَم بمعنى أن للعِلم مناهج ثابتة لا تتغيَّر،
لم يَكتسب التفكير العلمي سماته المميزة — التي أتاحت له بلوغ نتائجه النظرية والتطبيقية الباهرة — إلا بعد تطوُّر طويل، وبعد التغلب على عقبات كثيرة، وخلال هذا التطور كان الناس يُفكِّرون على أنحاء متباينة، يتصوَّرون أنها كلها تهديهم إلى الحقيقة، ولكن كثيرًا من أساليب التفكير اتَّضح خطؤها فأسقطها العقل البشري خلال رحلته الطويلة، ولم تصمد في النهاية إلا تلك السمات التي تثبت أنها تساعد على العلو ببناء المعرفة وزيادة قدرة الإنسان على فهم نفسه والعالم المحيط به. وهكذا يمكننا أن نستخلص مجموعة من الخصائص التي تتَّسم بها المعرفة العلمية، أيًّا كان الميدان الذي تنطبق عليه، والتي تتميز بها تلك المعرفة عن سائر مظاهر النشاط الفكري للإنسان، ونستطيع أن نتَّخذ من هذه الخصائص مقياسًا نقيس به مدى علمية أي نوع من التفكير يقوم به الإنسان، فما هي هذه السمات الرئيسية؟
(١) التراكمية
العلم معرفة تراكمية، ولفظ «التراكمية» هذا يَصف الطريقة التي يتطور بها العلم والتي يعلو بها صرحُه؛ فالمعرفة العلمية أشبه بالبناء الذي يشيد طابقًا فوق طابق، مع فارق أساسي هو أن سكان هذا البناء يَنتقلون إلى الطابق الأعلى؛ أي إنهم كلما شيدوا طابقًا جديدًا انتقلوا إليه وتركوا الطوابق السُّفلى لتكون مجرَّد أساس يرتكز عليه البناء.
وقد يبدو هذا الوصف أمرًا طبيعيًّا بالنسبة إلى أي نوع من النشاط العقلي أو الروحي للإنسان، ولكن قليلًا من التفكير يقنعنا بأن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى أنواع متعدِّدة من هذا النشاط؛ فقد عَرف الإنسان منذ العصور القديمة نوعًا من النشاط العقلي قد يبدو مشابهًا للمعرفة العِلمية إلى حدٍّ بعيد هو المعرفة الفلسفية، ولكن هذه المعرفة الفلسفية لم تكن تراكمية، بمعنى أن كل مذهب جديد يظهر في الفلسفة لم يكن يبدأ من حيث انتهت المذاهب السابقة، ولم يكن مُكمِّلًا لها، بل كان يَنتقِد ما سبقه ويتخذ لنفسه نقطة بداية جديدة. ومن هنا فإننا إذا استخدمنا التشبيه السابق كان في وسعنا أن نقول: إن البناء الفلسفي لا يَرتفع إلى أعلى، بل إنه يمتد امتدادًا أفقيًّا. وفضلًا عن ذلك فإن سكان هذا البناء لا يتركون طوابقه القديمة، بل يظلون مقيمين فيها مهما ظهرت له من طوابق جديدة؛ ذلك لأن افتقار المعرفة — في ميدان الفلسفة — إلى الصفة التراكمية، يجعل المشتغلين بالفلسفة يجدون في تياراتها القديمة أهمية لا تقل عن أهمية التيارات الحديثة؛ ومن ثم تظل موضوعًا دائمًا لدراستهم.
ومثل هذا يُقال عن الفن؛ فالفن ينمو أفقيًّا، بمعنى أننا نظلُّ نتذوق الفن القديم، ولا نتصور أبدًا أن ظهور فن جديد يَعني التخلي عن أعمال الفنانين القدماء أو النظر إليها بمنظور تاريخي فحسب، وبطبيعة الحال فإن هذا النمو الأفقيَّ لا يعني أن أيَّ اتجاه جديد في الفن كان يمكن أن يظهر في أي عصر سابق؛ إذ إن ظهور الاتجاهات الفنية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمجموع الأوضاع الإنسانية التي يَظهر فيها كلُّ اتجاه منها؛ أعني بالأوضاع الاجتماعية والثقافية والروحية والمادية … إلخ، بحيث لا يُمكن أن يُفْهَمَ هذا الاتجاه حق الفهم إلا في سياقه التاريخي الذي ظهر فيه، ولكن الذي يعنينا هو أن تذوُّقَنا لفنٍّ معاصر لا يمنعنا من أن نتذوق فنون العصور الماضية، وأنَّ الروح الإنسانية التي تجد متعة في أعمال فنية حديثة تجد متعة مماثلة في أعمال السابقين، ولا تُحاول أبدًا أن تنسخ القديم؛ لأن هناك جديدًا ظهر ليحلَّ محله.
أما في حالة المعرفة العلمية، فإن الأمر يختلف؛ إذ إنَّ كل نظرية علمية جديدة تحلُّ محل النظرية القديمة، والوضع الذي يَقبله العلماء في أي عصر هو الوضع الذي يُمثِّل حالة العلم في ذلك العصر بعينه لا في أي عصر سابق، والنظرية العلمية السابقة تُصبح — بمجرد ظهور الجديد — شيئًا «تاريخيًّا»؛ أي إنها تهمُّ مؤرِّخ العلم لا العالم نفسه، ومن هنا فإن سكان البناء العلمي — كما قلنا من قبل — هم في حالة تنقُّل مُستمر، ومقرُّهم هو أعلى الطوابق في بناء لا يكفُّ لحظة واحدة عن الارتفاع.
وتكشف لنا سمة «التراكمية» هذه عن خاصية أساسية للحقيقة العلمية، هي أنها نسبية؛ فالحقيقة العلمية لا تكفُّ عن التطور، ومهما بدا في أي وقت أن العلم قد وصل في موضوع معين إلى رأي نهائي مستقر، فإنَّ التطور سرعان ما يتجاوز هذا الرأي ويستعيض عنه برأي جديد.
وهكذا بدا للناس — في وقت معين — أن فيزياء «نيوتن» هي الكلمة الأخيرة في ميدانها، وأنها تُعبِّر عن حقيقة مُطلَقة، ودام هذا الاعتقاد ما يقرب من قرنين من الزمان، ثم جاءت فيزياء أينشتين فابتلعت فيزياء نيوتن في داخلها، وتجاوزتها وأثبتَت أن ما كان يُعَدُّ حقيقة مطلقة ليس في الواقع إلا حقيقة نسبية، أو حالة من حالات نظرية أوسع منها وأعم.
هذا المثل يكشف لنا عن طبيعة التراكم المميِّز للحقائق العلمية؛ ففي بعض الحالات تحل النظرية العلمية محل القديمة وتنسخها أو تلغيها، ولكن في معظم الحالات لا تكون النظرية الجديدة بديلًا يلغي القديمة، وإنما توسعها وتَكشِف عن أبعاد جديدة لم تستطع النظرية القديمة أن تُفسِّرها أو تعمل لها حسابًا. وهكذا يكون القديم متضمنًا في الجديد، ولا يكون العالم — كالفيلسوف — عقلًا يبدأ طريقه من أول الشوط، وإنما يستمد نقطة بدايته من حيث توقف غيره.
ولكن إذا كانت الحقيقة العلمية نسبية على هذا النحو، فكيف جاز للبعض أن يصفوها بأنها «مطلقة»؟ إننا نَصِف مشاعرنا الانفعالية وأذواقنا الفنية بأنها «نسبية»، ونعني بذلك أنها تختلف من فرد لآخر، وأنه ليس من حق أحد أن يفرض ذوقه — مثلًا — على الآخرين، ولكننا نقول عن الحقيقة العِلمية إنها «مطلقة»، بمعنى أنها لا تتجاوز نطاق الاختلافات بين الأفراد، ولا تتقيَّد بظروف معينة، بل تتخطى الحدود الجزئية لكل عقل على حدة، لكي تفرض نفسها على كل عقل إنساني بوجه عام. وهذه التفرقة بين طريقة حكمنا على عمل فني وطريقة اقتناعنا بالحقيقة العلمية هي تفرقة صحيحة، فكيف إذن نوفِّق بين الاعتقاد — الذي قلنا إنه صحيح — بأن الحقائق العلمية مطلقة وبين ما قلناه منذ قليل من أنها نسبية؟
الواقع أن الحقيقة العلمية — في إطارها الخاص — تصدق على كل الظواهر وتفرض نفسها على كل عقل، وبهذا المعنى تكون مُطلَقة. فحين نقول: إنَّ الماء يتكون من أكسجين وهيدروجين بنسبة ١ إلى ٢، لا نعني بذلك كمية الماء التي أجرينا عليها هذا الاختبار، بل نعني أية كمية من الماء على الإطلاق، ولا نُوجِّه هذه الحقيقة إلى عقل الشخص الذي أُجْرِيَ أمامه هذا الاختبار فحسب، بل إلى كل عقل بوجه عام، ولكننا قد نكتشف في يوم ما أملاحًا في الماء بنِسبة ضئيلة، أو نصنع «الماء الثقيل» (المُستخدَم في المجال الذري) فيُصبح الحكم العلمي السابق نسبيًّا، لا بمعنى أنه يتغيَّر من شخص إلى آخر، بل بمعنى أنه يصدق في إطاره الخاص، وإذا تغيَّر هذا الإطار كان لا بد من تعديله، وهذا الإطار الخاص قد يكون هو المجال الذي تَصدُق فيه الحقيقة العلمية، كما هي الحال في أوزان الأجسام، التي يظل مقدارها صحيحًا في إطار الجاذبية الأرضية، ولكنها تختلف إذا نُقِلَت إلى مجال القمر، كما قد يكون هذا الإطار زمنيًّا، بمعنى أن الحقيقة التي تعبر عن المستوى الحالي للعلم تظل صحيحة وتفرض نفسها على الجميع في حدود معرفتنا الراهنة، وبذلك يكون هناك تعارض بين الطابع النِّسبي للحقيقة، وبين قولنا إنها مطلقة، بل إنَّ الحقيقة المطلقة كثيرًا ما يعبَّر عنها بعبارات نسبية، كما يحدث عندما نقول: إنَّ ضغط الغاز يتناسب تناسبًا عكسيًّا مع درجة حرارته مقيسة بمقياس كلفن؛ ﻓ «النسبة» ذاتها تصبح في هذا القانون مطلقة، وإن كانت قيَم الضغط والحرارة مختلفة فيها باستمرار. وهكذا فإن صفة «التراكمية» في التفكير العلمي تجمع بين الطابع النسبي والطابع المُطلَق للعلم دون أي تناقض.
هذه السمة «التراكمية» التي يتَّسم بها العلم هي التي تقدم إلينا مفتاحًا للرد على انتقادٍ يُشبع توجيهه — في بلادنا الشرقية على وجه الخصوص — إلى العلم، وهو الانتقاد الذي يستغل تطور العلم لكي يتَّهم المعرفة العلمية والعقل العلمي بالنقصان؛ فمن الشائع أن يحمل أصحاب العقليات الرجعية على العلم لأنه متغيِّر، ولأن حقائقه محدودة، ولأنه يعجز عن تفسير ظواهر كثيرة، وهم بذلك يفتحون الباب أمام أنواع أخرى من التفسير الخارجة عن نطاق العلم أو المُعادية له، وواقع الأمر أنَّ هذا ليس اتهامًا للعلم على الإطلاق، فإذا قلتَ: إنَّ العلم متغيِّر، كنت بذلك تُعبِّر بالفعل عن سمة أساسية من سمات العلم، وإذا اعتبرت هذا التغيُّر علامة نقص فإنك تُخطئ بذلك خطأً فاحشًا؛ إذ تَفترض عندئذ أن العلم الكامل لا بد أن يكون «ثابتًا»، مع أن ثبات العلم في أية لحظة، واعتقاده أنه وصل إلى حد الاكتمال، لا يعني إلا نهايته وموته؛ ومن ثم فإن الثبات في هذا المجال هو الذي يَنبغي أن يُعَدَّ علاقة نقص. إن العلم حركة دائبة، واستمرار حيويته إنما هو مظهر من مظاهر حيوية الإنسان الذي أبدعه، ولن يتوقف هذا العلم إلا إذا توقفت حياة مبدعه ذاته. والتغيير الذي يَتَّخذ شكل «التقدم» والتحسين المستمر هو دليل على القوة لا على الضعف، ومن المؤكد أن هذا هو طابع التغير العلمي، بدليل أن النظرية الجديدة في كثير من الحالات تَستوعِب القديمة في داخلها وتتجاوَزها، وتُفسِّر الظواهر على نطاق أوسع منها كما قلنا من قبل.
ومُجمَل القول أنَّ المعرفة العلمية متغيِّرة حقًّا، ولكن تغيُّرها يتَّخذ شكل «التراكم»؛ أي إضافة الجديد إلى القديم؛ ومن ثم فإن نطاق المعرفة التي تنبعث من العلم يتسع باستمرار، كما أن نطاق الجهل الذي يُبدِّده العلم ينكمش باستمرار. ومن هنا لم يكن انتقال العلم إلى مواقع جديدة على الدوام علامة من علامات النقص فيه، بل إن النقص إنما يَكمُن في تلك النظرة القاصرة التي تتصوَّر أن العلم الصحيح هو العلم الثابت والمُكتمل.
ولكن في أي اتجاه يسير هذا التراكم الذي تتَّسم به المعرفة العلمية؟ إنه — في واقع الأمر — يسير في الاتجاهين؛ الرأسي والأفقي، أعني اتجاه التعمق في بحث الظواهر نفسها، واتجاه التوسع والامتداد إلى بحث ظواهر جديدة.
أما عن الاتجاه الأول — الذي نستطيع أن نُسمِّيَه اتجاهًا رأسيًّا أو عموديًّا — ففيه يعود العلم إلى بحث نفس الظواهر التي سبق له أنْ بَحَثَهَا ولكن من منظور جديد وبعد كشف أبعاد جديدة فيها؛ فالبحث الفيزيائي والكيميائي في المادة — مثلًا — بدأ بخصائص المواد كما نتعامل معها يوميًّا؛ أي على مستوى إدراك حواسِّنا المادية، وبازدياد تقدم العلم ازداد مستوى الأبحاث في الظواهر نفسها تعمُّقًا، فكُشِفَت مستويات جديدة للمادة ألقت مزيدًا من الضوء على ظواهر العالم الفيزيائي والكيميائي، وانتقل البحث إلى مستوى الجزيئات والذرات، ثم إلى مستوى دون الذري؛ أي مستوى أدق مكوِّنات الذرة نفسها. وما زال العلم يتعمق في هذا الميدان الهام إلى مستويات تزداد دِقةً، وتُتيح لنا مزيدًا من السيطرة على العالم المادي، ويَنطبِق هذا على العلوم الإنسانية بدورها؛ إذ يُمكن القول — على سبيل المثال — إن التحليل النفسي عند فرويد هو محاوَلة للتغلغل إلى أبعاد في النفس البشرية أعمق من تلك التي كان يقتصر عليها علم النفس التقليدي، الذي كان يتناول سلوك الإنسان وفقًا لمظاهرِه الخارجية، ويقتنع بالتعديلات والتبريرات الواعية التي تُقدم لهذا السلوك، دون أن يُدرك أن من وراء هذا التبرير «الواعي» دوافع لا شعورية خفية، لا يريد الإنسان أن يفصح عنها، وإنما تُستخلص بعملية تحليل متعمقة.
وأما الاتجاه الثاني — وهو الاتجاه الذي يُمكن أن يُسمى أفقيًّا — فهو اتجاه العلم إلى التوسع والامتداد إلى ميادين جديدة؛ ذلك لأن العلم بدأ بنطاقٍ محدود من الظواهر، هي وحدها التي كان يُعتقد أنها خاضعة لقواعد البحث العلمي، على حين أنَّ ميادين كثيرة كانت تُعَدُّ أعقد أو أقدس من أن يتناولها العلم، وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى أن آخر العلوم في ترتيب الظهور كانت مجموعة العلوم التي تدرس الإنسان بطريقة منهجية، مثل علم الاجتماع وعلم النفس اللذَين ظَهَرَا في القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فكانت دراسة الإنسان متروكة للتأمُّلات الفلسفية التي كانت تزودنا — بغير شك — بحقائق عظيمة القيمة عن الإنسان، ولكن هذه الحقائق كانت تتَّخذ شكل استبصارات عبقرية ولا تَرتكِز على دراسة منهجية، والسبب الرئيسي لذلك هو الاعتقاد الذي ظلَّ سائدًا طويلًا بأن العلم لا يستطيع أن يقترب من مجال الإنسان، وأن هذا المجال له حركته وقداسته الخاصة التي لا يصحُّ أن «تُنتهك» بالدراسة العلمية.
والواقع أن مسألة الترتيب الذي ظهرت به العلوم الطبيعية والإنسانية هو موضوع له من الأهمية ما يجعله جديرًا بأن نستطرد فيه قليلًا؛ ذلك لأن أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد، هو أن الإنسان عندما يبدأ في ممارسة المعرفة العلمية يبدأ بمعرفة نفسِه، على أساس أن هذا هو أقرب الميادين إليه، وهو الميدان الذي تكون فيه الملاحظة مُباشرةً بحق، وبعد أن تَكمل دراستُه لنفسه يُصبح لديه من النضج ما يَسمح له بدراسة العالم الخارجي، وربما كان يُعزِّز هذا الرأي أن الآداب والفلسفات والعقائد والتشريعات — التي تعد شكلًا قديمًا وهامًّا من أشكال معرفة الإنسان — قد ظهرت قبل العلم التجريبي بزمن طويل.
ولكن حقيقة الأمر هي أنَّ هذا الشكل الأوَّلي الذي اتخذته معرفة الإنسان لنفسه كان بعيدًا عن الطابع العلمي، ولم يكن من الممكن بالفعل أن يبدأ العلم بدراسة الإنسان، بل كان المعقول أن يبدأ بدراسة الطبيعة الخارجية، ولقد كان هذا هو ما حدث بالفعل في التاريخ؛ ففي العالم القديم كانت المذاهب الفلسفية الأولى مذاهب «طبيعية»، ولم تظهَر المذاهب التي تتناول الإنسان إلا في وقتٍ مُتأخِّر، وهكذا بدأت الفلسفة بالمدرسة الأيونية والذرية … إلخ، التي تركَّزت أبحاثها على العالم الطبيعي، قبل أن يظهر السفسطائيون وسقراط وأفلاطون، الذين جعلوا الإنسان موضوعًا هامًّا لفلسفاتهم. وفي العصر الحديث بدأت النهضة العلمية بدراسة الطبيعة بطريقة مكثَّفة، ولم تَلحقها دراسة الإنسان علميًّا إلا بعد قرنين على الأقل، وهذا أمر غير مُستغرَب؛ إذ إن دراسة الإنسان — وإن كانت تبدو أقرب وأسهل منالًا لأنها تتعلَّق بمعرفة الإنسان لنفسِه على نحو مباشر — هي في واقع الأمر أعقد بكثير من دراسة الطبيعة؛ لأنها تمس أمورًا نعتبرها مقدسة في كياننا الداخلي، ولأنَّ العلاقة بين الأسباب والنتائج فيها شديدة التعقيد والتشابك، على عكس الحال في دراسة الطبيعة؛ حيث تسير هذه العلاقة دائمًا في خطٍّ واحد قابل للتحديد.
وعلى أية حال فإنَّ التطور في الاتجاهَين — أعني اتجاهَي دراسة الطبيعة ودراسة الإنسان — كان متداخلًا، ولم يكن الفاصل بين الميدانَين قاطعًا؛ ففي المحاولات الأولى التي بذَلها العقل البشري من أجل فهم الطبيعة، كان الإنسان يلجأ إلى تشبيه الطبيعة بنفسه، وفهمها من خلال ما يحدث في داخله، فيتصوَّر أن أحواله النفسية والحيوية لها نظير في حوادث الطبيعة، وكأن الطبيعة تسلك كما يسلك الإنسان، وفي العصر الحديث دار الزمن دورة كاملة؛ فبعد أن كانت الظواهر الطبيعية تفسَّر على مثال الظواهر البشرية؛ أصبحت دراسة الإنسان — في كثير من الاتجاهات الحديثة — تتمُّ على مثال الطبيعة، وظهر ذلك في تصور «أوجست كونت» وخلفائه للظواهر الاجتماعية كما لو كانت ظواهر طبيعية، كما ظهر عند «السلوكيين» والمدارس التجريبية في علم النفس بوجه عام؛ حيث يفسَّر السلوك الإنساني كما لو كان سلسلة من ردود الأفعال الطبيعية. وهكذا أصبحت الظواهر المتعلقة بكائن له حياة ونفسٌ أو روح (أعني الإنسان) تُدْرَس كأنها ظواهر تنتمي إلى الطبيعة الجامدة، بعد أن كانت ظواهر الطبيعة الجامدة — في العصور القديمة — تُفَسَّر كما لو كانت ذات حياة ونفس أو رُوح.
والذي يَعنينا من هذا كله أن العلم يتوسَّع ويمتدُّ رأسيًّا وأفقيًّا، وأنه يقتحم على الدوام ميادين كانت من قبل متروكة للخرافات أو للتفسيرات اللاعقلية، فحتى القرن الثامن عشر كانت أوروبا ذاتها تنظر إلى المرض العقلي على أنه ناتج عن تسلُّط رُوح شريرة على الإنسان، وكانت تُعامل المريض بقسوة شديدة بهدف إخراج هذه الروح الشريرة منه، وفي كثير من الحالات كانت هذه القسوة تؤدِّي إلى موته.
وبالتدريج أخذ العلم يَقتحِم هذا الميدان بدورِه — ميدان العقل البشري في صحَّته وفي مرضه — وامتدَّت رقعة المعرفة العلمية إلى أرض جديدة كانت محرَّمة على العلم من قبل، والأمثلة على ذلك عديدة، وكلها تُثبِت أن العلم يتوسَّع في جميع الاتجاهات.
ومرة أخرى نقول إنَّ هذا التوسع يتضمن ردًّا مفحمًا على أولئك الذين يجدون متعة خاصة في اتهام العقل البشري بالقصور، على أساس أن هناك ميادين كثيرة لم يستطع هذا العقل حتى الآن أن يَقتحمها؛ ذلك لأن هؤلاء لو تأملوا مسار العقل في تاريخه الطويل بنظرة شاملة — لا تقتصر على اللحظة التي يعيشون فيها وحدها — لأدركوا أن عصورًا كثيرة قبلنا كانت تؤمن إيمانًا قاطعًا بعجز العقل العلمي عن اقتحام ميادين معيَّنة، ولكن التطور سرعان ما أثبت لهم خطأهم، وهذا درس ينبغي أن يستخلصوا منه عبرة بليغة؛ وهي أن التوسُّع في المعرفة البشرية يسير باطراد، وأن كثيرًا من الميادين التي نتصور اليوم أنها بعيدة عن متناول العلم سوف تُصبح موضوعًا للدراسة العلمية المنظَّمة في المستقبل القريب أو البعيد.
(٢) التنظيم
في كل لحظة من حياتنا الواعية يستمر تفكيرنا، ويعمل عقلنا بلا انقطاع، ولكن نوع التفكير الذي نُسمِّيه «علميًّا» لا يمثل إلا قدرًا ضئيلًا من هذا التفكير الذي يظل يعمل دون توقف؛ ذلك لأن عقولنا في جزء كبير من نشاطها لا تعمل بطريقة منهجية منظمة، وإنما تسير بطريقة أقرب إلى التلقائية والعفوية، وكثيرًا ما يكون نشاطُها مجرد رد فعل على المواقف التي تواجهها دون أي تخطيط أو تدبر، بل إننا حين ننفرد بأنفسنا ونتصور أننا «نُفكِّر»، كثيرًا ما نَنتقل من موضوع إلى موضوع بطريقة عشوائية، وتَتداعى الأفكار في ذهننا حرة طليقة من أي تنظيم، فنُسمِّي هذا شرودًا أو حلم يقظة، ولكنه يظلُّ مع ذلك شكلًا من أشكال التفكير، ومثل هذا التفكير الطليق غير المنظَّم سهل ومريح؛ ولذلك فإننا كثيرًا ما نَستسلِم له هربًا من ضغط الحياة أو تخفيفًا لمجهودٍ قُمنا به، أو نجعل منه «فاصلًا» مريحًا بين مراحل العمل العقلي الشاق.
أما التفكير العلمي فمن أهم صفاته التنظيم؛ أي إننا لا نترك أفكارنا تسير حرةً طليقة، وإنما نُرتِّبها بطريقة محدَّدة، ونُنظِّمها عن وعي، ونبذل جهدًا مقصودًا من أجل تحقيق أفضل تخطيط ممكن للطريقة التي نفكِّر بها، ولكي نصل إلى هذا التنظيم يَنبغي أن نتغلَّب على كثير من عاداتنا اليومية الشائعة، ويجب أن نتعوَّد إخضاع تفكيرنا لإرادتنا الواعية، وتركيز عقولنا في الموضوع الذي نبحثه، وكلها أمور شاقة تحتاج إلى مران خاص، وتَصقُلها الممارسة المستمرة.
ولكن إذا كان العلم تنظيمًا لطريقة تفكيرنا أو لأسلوب ممارستنا العقلية، فإنه — في الوقت ذاته — تنظيم للعالَم الخارجي؛ أي إننا في العلم لا نقتصر على تنظيم حياتنا الداخلية فحسب، بل تنظيم العالم المحيط بنا أيضًا؛ ذلك لأن هذا العالم مليء بالحوادث المتشابكة والمتداخلة، وعلينا في العلم أن نَستخلِص من هذا التشابك والتعقيد مجموعة الوقائع التي تُهمُّنا في ميداننا الخاص، وهذه الوقائع لا تأتي إلينا جاهزة، ولا تحتل جزءًا منفصلًا من العالم أُلصقت عليه بطاقة اسمها «الكيمياء» أو «الفيزياء»، بل إنَّ مهمتنا في العلم هي أن نقوم بهذا التنظيم الذي يمكننا من أن نَنتقي من ذلك الكل المعقَّد ما يهمنا في ميداننا الخاص.
ويَنطبِق ذلك على ميدان العلوم الإنسانية مثلما ينطبق على ميدان العلوم الطبيعية؛ فحين يؤلف المؤرِّخ كتابًا في التاريخ — وليكن مثلًا كتابًا عن تاريخ العالم العربي في القرن العشرين — تكون أمامه مهمَّة شاقة، هي أن يختار — من بين الواقع شديد التعقيد — ما يهمُّه في مجال بحثه؛ ذلك لأن مهمَّة المؤرخ هي إعادة الحياة إلى فترة ماضية، ولكنه لا يستطيع أن يعيد الماضي كاملًا وبكل ما فيه من تعقيدات، فحين يعود بذهنه إلى وقائع حياة العالم العربي في الفترة التي يتناولها بحثه؛ يجد ألوفًا من الظواهر المعقدة المتشابكة؛ حياة الناس اليومية، طريقة ملبسهم ومأكلهم وترفيههم، عاداتهم، أخلاقهم، حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، علاقاتهم السياسية … إلخ، وعليه أن ينتقي من هذا الخضمِّ الهائل من الظواهر المختلفة ما يُهمُّه في موضوع بحثه، ويترك ما عداه جانبًا؛ أي إن عليه أن يُدخل التنظيم في واقع غير منظم أصلًا، وتلك هي مهمة العلم.
على أنَّ التنظيم سِمة لا تبدو مُقتصرة على العلم وحده، فكل نوع من أنواع التفكير الواعي — الذي يهدف إلى تقديم تفسير للعلم — يتَّصف بنَوع من التنظيم. بل إنَّ الأساطير ذاتها تُحاول أن تُوجِد نظامًا معينًا من وراء الفوضى الظاهرية في الكون، وحين تَفترض وجود آلهة أو أرواح خفية وراء كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، فإنها تسعى — عن طريق ابتداع هذه الكائنات الشخصية — إلى إيجاد شكلٍ من أشكال التنظيم في الظواهر، وحين ظهَر الفكر الفلسفي بعد ذلك ليحلَّ محلَّ التفكير الأسطوري كانت فكرة وجود نظام في الكون من أهم الأفكار التي دارت حولها الفلسفة اليونانية. بل إنَّ نظرة اليونانيين إلى الكون — التي عبَّر عنها استخدامهم للفظ cosmos للتعبير عن الكون — كانت مبنيةً أساسًا على فكرة التوافُق والانسجام والنظام الذي يمكن فهمه بالعقل، والذي يؤدِّي كل شيء فيه وظيفة لها معناها داخل الكل المنظم، ويسير بأكمله نحو تحقيق غايات محدودة، ومن هنا كان الاختلاف هائلًا بين ذلك الكون المنسَّق الذي تصوَّره اليونانيون، وبين تصوُّر العلم الحديث للكون، الذي كان في صميمه تصورًا آليًّا مضادًّا للغائية. أما في الفكر الديني فإن فكرة النظام أساسية، بل إنَّ كثيرًا من علماء الكلام واللاهوتيِّين يتخذون من وجود النظام في الكون دليلًا من أدلة وجود الله ومظهرًا من مظاهر قدرته. وهكذا يستحيل تصور العالم بطريقة عشوائية أو غير منظمة ما دام الخالق قادرًا على كل شيء.
وإذن ففكرة وجود «نظام» في العالم هي فكرة تتردَّد في كل محاولة لإيجاد تفسير للعالم، فما هو الجديد الذي يأتي به العلم في هذا الصدد؟ أو على الأصح: فيم يختلف التنظيم الذي يقتضيه التفكير العلمي عن ذلك التنظيم الذي يَظهر في أنماط التفكير المُغايرة للعلم؟
إنَّ الاختلاف الأساسي في أن التنظيم — كما يقول به العلم — يخلقه العقل البشري ويَبعثه في العالم بفضل جهده المُتواصل الدءوب في اكتساب المعرفة، على حين أن العالم — وفقًا لأنماط التفكير الأخرى — مُنظَّم بذاته؛ ففي التفكير الأسطوري وفي التفكير الفلسفي نجد النظام موجودًا بالفعل في العالم، وما على العقل البشري إلا أن يتأمَّله كما هو. أما في التفكير العلمي فإنَّ هذا العقل البشري هو الذي يبعث النظام في عالم هو في ذاته غير منظَّم؛ فالكون في نظر العلم لا يسير وفقًا لغايات، وإنما تَسود مسارَه الآلية، وكلما تقدَّمت المعرفة استطعنا أن نَبتدِع مزيدًا من النظام في مسار الحوادث العشوائي في العالم؛ أي إن الكون المنظَّم — بالاختصار — هو نقطة النهاية التي يسعى العلم من أجل بلوغها، وليس نقطة بدايته.
ولكن كيف يُحقِّق العلم هذا النظام في ظواهر الطبيعة المُتشابِكة والمعقَّدة والمُفتقِرة بذاتها إلى التنظيم؟ إنَّ وسيلته إلى ذلك هي اتِّباع «منهج» method — أي طريق محدَّد — يَعتمِد على خطة واعية. وصفة «المنهجية» هذه صفة أساسية في العلم، حتى إنَّ في وسعنا أن نعرف العلم عن طريقها، فنقول: إنَّ العلم في صميمه معرفة منهجية، وبذلك نُميِّزه بوضوح عن أنواع المعرفة الأخرى التي تَفتقِر إلى التخطيط والتنظيم، ونستطيع أن نقول إنَّ المنهج هو العنصر الثابت في كل معرفة علمية، أما مضمون هذه المعرفة والنتائج التي تصلُ إليها ففي تغير مستمر. فإذا عرَّفنا العلم من خلال نتائجه وإنجازاته كنا في هذه الحالة نقف على أرض غير ثابتة، أما إذا عرَّفنا العلم من خلال منهجه فإنا نَرتكِز حينئذٍ على أرض صُلبة؛ لأن المنهج هو الذي يظلُّ باقيًا مهما تغيَّرت النتائج.
غير أنَّ القول بأن المنهج هو العنصر الثابت في العلم قد يُفْهَم بمعنى أن للعِلم مناهج ثابتة لا تتغيَّر، وهذا فهم لا يُعبِّر عن حقيقة العلم؛ إذ إن مناهج العلم متغيِّرة بالفعل؛ فهي أولًا تتغيَّر حسب العصور؛ لأنَّ كثيرًا من العلوم غيَّرت مناهجها بتقدُّم العلم؛ فالكيمياء مثلًا تزداد اعتمادًا على الأساليب الرياضية بعد أن كانت في بدايتها علمًا تجريبيًّا خالصًا ل
تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص
يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية
يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة
نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها
تعد مهارة التواصل من المهارات المهمة التي يعتمد عليها الإنسان، سواء على الصعيد المهني او الشخصي. كما...
The doctor is very brilliant . She told us how to control the sugar , gave advices to my son and tol...
تعتبر وفيات الأطفال واعتلال صحتهم من القضايا الصحية العاجلة التي تتطلب فهمًا عميقًا للعوامل المتعددة...
القطاع الزراعي يعتبر القطاع الزراعي بشقيه الحيواني و النباتي من أهم القطاعات في السودان حيث يضم 80...
يبدو أن نهاية حقبة نتنياهو قد اقتربت فعلا هذه المرة. إدارة ترامب تعتقد أن الضربات الأخيرة على إيران ...
تؤثر الألعاب الإلكترونية بشكل سلبي على المراهقين، خاصة في حال استخدامها بشكل مفرط أو عند اختيار ألعا...
إقليم تيغراي الإثيوبي. هذه التوترات تأتي على خلفية تباين أهداف الدولتين خلال الحرب في تيغراي، حيث سع...
إيميل A FORMAL EMAIL که تحمل From: Antonio Ricci [[email protected]] The Priory Language Sch...
لم يتفق الباحثون على تعريف جامع للشيخوخة، وذلك لأنها ليست من الظواهر الثابتة التي تحدث في المراحل ال...
وتناولت دراسة (فياض، والزائدي 2009) الأزمة المالية العالمية وأثرها على أسعار النفط الخام، تناولت بش...
تعتبـــر التغذية الصحية مهمة جدا خلال الســـنتين الاولى من عمر الطفل حيث يتطور النمو العقلي والجســـ...
ﻦ ﷲ، إﻻ إﻟﮫ ﻻ ﯾﺎﻣﻮﺳﻰ: ﻗُﻞ ْ ﻗﺎل: ﺑﮫ، وأدﻋُﻮك َ أذﻛﺮُك َ ﺷﯿﺌًﺎ ﻋَﻠﱠﻤﻨﻲ ؟ ھﺬا ﯾﻘﻮﻟﻮن ﻋ ِ ﺒﺎدِك َ ﻛﻞ ﱡ ...