لخّصلي

مقدمة
لقد ظلت القوة العسكرية هي الأكثر استخداما طيلة عقود طويلة من الزمن من أجل تحقيق أهداف السياسية الخارجية للدول، ويرتبط هذا الخيار ارتباطا مباشرا بالمآسي التي عاشتها البشرية ولازالت لغاية اليوم نتيجة الحروب وقد كان هذا من أهم اللأسباب التي دفعت بالقوى العظمى للبحث عن بدائل أخرى للقوة الصلبة ذات التكاليف العالية والتداعيات السلبية على مختلف الأصعدة، ومن أهم هذه البدائل تغيير نمط القوة المستخدمة من الصلبة إلى الناعمة تمارس الدول اليوم سياسات القوة الناعمة كعنصر يتكامل مع الأنشطة التي تهم مختلف البرامج التي تنفذ خارج الحدود في تواصل مباشر مع النخب والجماهير الأجنبية أو الفئات المستهدفة في إطار مساعيها الدبلوماسية أو حتى داخل حدود الدولة الواحدة سعيا للتأثير على الرأي العام المحلي، و تشمل القوة الناعمة هنا تدبير جملة من التدفقات الإعلامية والتواصلية والثقافية لإحداث تغييرات أو بناء أفكار وقناعات معينة.
من خلال هذه الورقة نسعى إلى تبيان أهم مظاهر القوة الناعمة المستخدمة في الخطاب السياسي الإعلامي كأداة للتأثير على الرأي العام محليا وعالميا.
القوة الناعمة
يرتبط مصطلح القوة الناعمة ب"جوزيف" "ناي" "Joseph Nye" في التسعينات، وقد عرف منظر القوة الناعمة هذه الأخيرة بأنها " القدرة على الجذب لا عن طريق الإرغام والقهر والتهديد العسكري والضغط الاقتصادي، ولا عن طريق
دفع الرشاوى وتقديم الأموال لشراء التأييد والموالاة كما كان يجري في الإستراتيجيات التقليدية،...، بل عن طريق الجاذبية وجعل الآخرين يريدون ما تريد.
و القوة الناعمة تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما، وسياساته، فعندما تبدو سياسة بلد ما مشروعة في عيون الآخرين تتسع قوتهم
الناعمة.
وفي كتابه " حتمية القيادة الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية أشار "ناي" بأن القوة الناعمة أيضا هي: القدرة على التأثير في الآخرين لتحسين و تعزيز الصورة أو المظهر الخارجي للدولة، و على وجه التحديد أن القوة الصلبة للدولة يمكن أن تشمل قوتها الاقتصادية أو العسكرية، بينما قوتها الناعمة تتمثل في قيمها السياسية والثقافية والأديولوجية، وقدرتها في تكوين
العادات والأعراف الدولية.
من جانبه عرفها "مايكل "آيزنشتات بأنها " استخدام الأقوال والأفعال والصور الإنفعالية في إطار حملة استرايجية للتواصل، طويلة المدى لتشكيل الحالة النفسية لبلد معاد لأمريكا مثل ايران ونلاحظ هنا بأن "أيزنشتات" وهو باحث متخصص في الدراسات الأمنية والعسكري في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، قد ربط تعريف القوة الناعمة بشكل مباشر بالولايات المتحدة الأمريكية وبالشكل الذي يراها به أعداؤها وعلى رأسهم "إيران"، وطرحه هنا يختلف عن طرح "جوزيف ناي".
موارد القوة الناعمة
يرى "جوزيف "ناي" في كتابه " القوة الناعمة وسيلة نجاح في السياسة الدولية" بأن للقوة الناعمة ثلاث موارد أساسية هي :
الثقافة، القيم السياسية والسياسات الخارجية، وتمثل هذه الموارد الثلاث نقاط القوة الناعمة التي يرتكز
عليها أي بلد.
الثقافة: عندما تحتوي ثقافة بلد ما على قيم عالمية، وتروج سياساته قيما ومصالح يشترك فيهاالآخرون، فإنه يزيد من إمكانية حصوله على النتائج المرغوبة بسبب علاقاته التي يخلقها من الجاذبية والواجب.
القيم السياسية: إن القيم التي تدافع عنها حكومة ما فتنتصر لها بسلوكها فى الداخل كالديمقراطية مثلا، وفي
المؤسسات الدولية بالعمل مع الآخرين، وفي السياسة الخارجية بتشجيع السلام وحقوق الإنسان، يمكن أن تؤثر
تأثيرا قويا على تفضيلات الآخرين.
السياسات الخارجية: إن السياسات الحكومية لبلد ما يمكنها أن تعزز قوته الناعمة أو تبددها، حيث أن السياسات التي تبدو منافقة أو غير مبالية برأي الآخرين أو القائمة على المعالجة ضيقة الأفق للمصالح قد تقوض القوة الناعمة.
معايير القوة الناعمة:
إن معايير القوة الناعمة حسب ما جاء بها جوزيف ناي مرتبطة بشكل مباشر بموارد القوة الناعمة، حيث نجد من أهم المعايير:
الجاذبية، الاقناع، الاستقطاب، المحاكات.
أي استقطاب الآخرين وجذبهم عن طريق آليات تقوم على التأطير والاقناع والجاذبية، وبالإعتماد أيضا على موارد القوة
الناعمة غير المادية التي سبق وأشرنا إليها من قبل.
الخطاب السياسي الإعلامي
يعتبر الخطاب السياسي الإعلامي أحد أبرز الأدوات التي يستخدمها القادة والسياسيون للتأثير على الرأي العام وتشكيل السياسات العامة .
ويعرف بأنه النمط اللغوي والتواصلي الذي يستخدمه السياسيون والمسؤولين الحكوميون في التواصل مع الجماهير من خلال وسائل الإعلام، بهدف نقل رؤاهم وتوجيه الرأي العام نحو سياساتهم وأهدافهم .
خصائص الخطاب السياسي الإعلامي
الهدف السياسي يهدف إلى تحقيق أهداف سياسية معينة مثل إقناع الجماهير بأفكار معينة أو دعم سياسات.
التأثير العام: يهدف إلى التأثير على الرأي العام وتوجيهه بما يخدم مصالح الجهة السياسية المتحدثة.
الاستراتيجية اللغوية: يستخدم تقنيات لغوية وإيقاعية لجذب الانتباه وإقناع الجمهور، مثل استخدام المجاملات
والتكرار.
الاستخدام الإعلامي: يعتمد على وسائل الإعلام المختلفة مثل التلفيون والإذاعة ووسائل التواصل الاجتماعي لنقل الرسائل
وتوجيهها.
التكيف مع الجمهور: يتناسب الخطاب السياسي الإعلامي مع الجمهور المستهدف من حيث اللغة والأسلوب والمحتوى.
التأثير النفسي: يسعى التأثير على مشاعر الجماهير وإثارة التفاعلات العاطفية لتحقيق الغرض المطلوب.
دور القوة الناعمة في الخطاب السياسي
التأثير على الرأي العام تُستخدم القوة الناعمة في الخطاب السياسي والإعلامي للتأثير على آراء ومواقف الجمهور تجاه القضايا المختلفة. على سبيل المثال، يمكن للدولة استخدام خطابها الإعلامي للترويج لقيمها ومبادئها، أو يمكنها دعم
المنظمات غير الحكومية التي تعمل على تعزيز حقوق الإنسان.
تعزيز مكانة الدولة: تُساعد القوة الناعمة على تعزيز مكانة الدولة على الساحة الدولية وجذب الاستثمار الأجنبي ودعم السياحة. على سبيل المثال، يمكن للدولة أن تُنظم فعاليات ثقافية عالمية، أو يمكنها دعم الرياضيين والمبدعين في المشاركة
في المنافسات الدولية.
تحسين العلاقات مع الدول الأخرى : تُساعد القوة الناعمة على تحسين العلاقات مع الدول الأخرى وتعزيز التعاون الدولي. على سبيل المثال، يمكن للدولة تقديم المساعدات الإنسانية للدول المنكوبة، أو يمكنها تبادل الطلاب والباحثين مع الدول الأخرى.
تحديات استخدام القوة الناعمة في الخطاب السياسي
يعتبر استخدام القوة الناعمة في الخطاب السياسي الإعلامي الموجه للرأي العام فعالا للغاية، لكن مع ذلك هنالك صعوبات تواجهه من بينها:
التأثير المحدود تأثير القوة الناعمة في الخطاب السياسي الإعلامي محدود مقارنة بالتأثير الذي يمكن أن تحققه القوة العسكرية أو الاقتصادية,
المقاومة والمعارضة : قد تواجه القوة الناعمة مقاومة من قبل بعض الأطراف السياسية أو الثقافية التي لا تتفق مع السياسات المتبعة.
التفسير السلبي : يمكن أن يتم استغلال القوة الناعمة في الخطاب السياسي الإعلامي بشكل سلبي من أجل تضليل الجمهور أو توجيهه نحو أجندات سياسية محددة تخدم أطرافا بعينها وليس هدفها مصلحة الرأي العام.
تلعب القوة الناعمة دورًا هامًا في الخطاب السياسي، حيث تُستخدم كأداة للتأثير على الرأي العام وتعزيز مكانة الدولة أو الفاعل السياسي على الساحة الدولية.

آليات استخدام القوة الناعمة في الخطاب السياسي الإعلامي
استخدام اللغة : تُستخدم اللغة بعناية لنقل رسائل محددة والتأثير على مشاعر الجمهور. على سبيل المثال، يمكن للسياسي
استخدام لغة قوية ومؤثرة للتعبير عن مشاعره تجاه قضية معينة، أو يمكنه استخدام لغة هادئة وموضوعية لبناء الثقة مع جمهوره.
الخطابات : تُستخدم الخطابات لإلهام الجمهور وتوحيده حول قضية معينة. على سبيل المثال، يمكن للزعيم السياسي أن يلقي خطابًا ملهما يدعو فيه إلى التغيير الإيجابي، أو يمكنه أن يلقي خطابًا عاطفيًا يحشد الدعم لقضيته
الرموز : تُستخدم الرموز لنقل معانٍ ومشاعر معينة. على سبيل المثال، يمكن للسياسي استخدام علم الدولة أو رمزًا دينيًا لخلق شعور بالوحدة الوطنية، أو يمكنه استخدام رمزًا ثقافيًا لربط نفسه بالجمهور.
السرد: تُستخدم القصص لخلق مشاعر إيجابية تجاه السياسي أو القضية التي يدافع عنها على سبيل المثال، يمكن للسياسي أن يروي طفولته أو عن تجاربه في الخدمة العامة ، أو يمكنه أن يروي قصة عن شخص تأثر بعمله.
العواطف : تُستخدم العواطف لجذب انتباه الجمهور وإثارة مشاعره على سبيل المثال، يمكن للسياسي استخدام الفكاهة أو الحزن أو الغضب للتواصل مع جمهوره على المستوى العاطفي.
يرى ميشال فوكو أن القوة الناعمة عبر الإعلام تضمن إجبارا والزاما غير مباشرين على التغيير، قد تعجز القوة الصلبة عن القيام به، لأن القوة الناعمة ليست دعاية سياسية فقط، وإنما هي سجال عقلي يهدف إلى التأثير على الرأي العام
وتحديثه.
فخطورة الإعلام تكمن في القدرة على التأثير وبلورة الفكر، الذي يتحكم في تصرفاتنا ويعدل أفكارنا ويجعلنا
نقتبس أحيانا مالا يلائمنا ولا يتوافق مع عاداتنا وتقاليدنا استجابة لطبيعة المرحلة، لذلك فالخطاب السياسي الذي
يتخذ من وسائل الإعلام قنوات له لديه أثر أكبر وقدرات إقناعية لا محدودة.

آليات عمل القوة الناعمة عبر وسائل الإعلام
التغطية الإخبارية : تُستخدم التغطية الإخبارية لنقل صورة إيجابية عن الدولة أو الفاعل السياسي، حيث يمكن لوسائل الإعلام التركيز على الإنجازات الإيجابية للدولة، أو يمكنها تجاهل أو التقليل من شأن الانتقادات.
البرامج الترفيهية: تُستخدم البرامج الترفيهية لنشر قيم ومبادئ معينة، فالأفلام والبرامج التلفزيونية تُظهر صورة إيجابية عن ثقافة الدولة أو تاريخها ، أو يمكنها الترويج لقيم مثل التسامح والاحترام.
الإعلانات تُستخدم الإعلانات للترويج لمنتجات وخدمات الدولة أو الفاعل السياسي. على سبيل المثال، يمكن للإعلانات السياحية أن تُظهر جمال المناظر الطبيعية في الدولة، أو يمكن للإعلانات التجارية للمنتجات أن
تُظهر جودتها العالية.
الدبلوماسية العامة : تُستخدم الدبلوماسية العامة لبناء علاقات إيجابية مع الجمهور الأجنبي، فيمكن للدولة إرسال برامج ثقافية إلى الدول الأخرى، يمكنها دعوة الصحفيين الأجانب لزيارة الدولة.
خاتمة
إن من بين أهم أبعاد القوة الناعمة هو دورها في تشكيل الرأي العام، حيث عمل على توجيه آراء الناس
السياسات والقرارات التي يسعى إلى أو تحقيقها رجال السياسة أو حتى نحو مواقف معينة أو تعزيز قيم وثقافات
معينة. وتستخدم الدول والمنظمات مجموعة متنوعة من الأدوات والإستراتيجيات لنشر رسائلها وتعزيز قيمها دون
اللجوء للقوة العسكرية.