لخّصلي

وهناك مسألة أخرية عن «التعبري» يمكن عرضها بمزيد من الإيجاز.
فكثريًا ما يستخدم الناس عبارة «العمل يعبر عن ...» وكأنها حكم قيمة. فإذا كان
ِّ العمل «معبرً ً ا بوضوح» كان جيد ً ا من الوجهة الجمالية. وفي هذا الصدد نجد تشابها بني
ً «التعبري» وبني «الشكل»، الذي يستخدم بدوره لفظا معبرًا عن القيمة، ولكن يبدو في هذه
ً الحالة أيضا أن الأفضل هو استخدام اللفظ بطريقة وصفية، وبعد ذلك نميز بني «الجيد»
و«الرديء».
ً ألسنا نجد أن الأعمال الفنية الجيدة والرديئة معا معبرة من الوجهة الجمالية؟ أليست
لها كلها قيمة بسبب قدرتها التعبريية هذه؟ ولم تكون القطعة املوسيقية جيدة لأنها تعبر
ً عن الحزن مثلا؟ ألا يمكن أن تكون رديئة من الوجهة الجمالية؟
ً إن من واجب أولئك الذين يستخدمون لفظ «التعبري» استخداما تقويميٍّا — وهذا ما
يفعله معظمنا في هذه الأيام — أن يتدبروا في هذه الأسئلة إذا شاءوا أن يكون كلامهم
ً وتفكريهم عن الفن واضحا. وأغلب الظن أن هناك سببً ً ا معقولا معينًا لاستخدام لفظ
«التعبري» على هذا النحو، حتى لو لم نكن شاعرين بهذا السبب بوضوح تام. فحني يكون
العمل معبرًا، تكون له — حسب تعريفه ذاته — دلالة أعظم مما يوحى به «منظره» الحسي
وشكله. وبذلك يستحوذ العمل على اهتمامنا. وتكون الصور التي يوحي بها العمل، وكذلك
الحالة النفسية والأفكار التي يثريها، أشد استحواذًا لأنها لا تعرض بطريقة مباشرة؛
فنحن نحس «باملزيد» فيما ندركه، وهذا يؤدي إلى إثارة الخيال والانفعال والفكر، ونشعر
ً بأنفسنا أكثر انشغالا ً بما يمر في تجربتنا، وأقوى تنبها إليه، مما يحدث عادة في حالة
ً التجربة غري الجمالية؛ فحني يكون «الحد الأول» متشبعا «بالثاني»، يكتسب املوضوع
ً ثراءً زاخرا لا يمكن أن يتوافر له لو كان املوضوع مجرد علامة على شيء متميز عنه.
354
التعبري
َ ا من هذا القبيل في أذهان من يستخدمون لفظ «التعبريي»
ولا بد أن هناك شيئً
ً بوصفه لفظا معبرًا عن القيمة، ولكن لو كان الأمر كذلك، ملا كان التعبري ذاته هو معيار
ٍ القيمة الجمالية. فالتعبري تكون له عندئذ قيمة لأنه يعمل على استبقاء اهتمامنا بالعمل
ًمثلا. وفي هذه الحالة يكون الاهتمام بالعمل أو الاستغراق فيه هو معيار القيمة، أو قد
يكون التعبري ذا قيمة لأنه يسهم فيما يسميه برنسون Berenson» تأكيد الحياة»، عن
طريق إثارة ملكات الخيال والانفعال فينا. وبذلك «يشيع الأمل والحماس في إحساسنا
بالحياة، ونعيش حياة أعمق وأعظم نضارة، لا من الوجهة املادية فحسب، بل من الوجهة
ً املعنوية والروحية أيضا، ونحاول بلوغ أعلى قمم قدراتنا»21.
والواقع أن من املحال أن نفسر كيف يمكن أن يكون العمل الواحد «معبرًا» و«رديئًا»
ٍ في آن واحد ما لم يكن التعبري مختلفً ا هو ذاته عن معيار القيمة، فلو كان الأمر على خلاف
ً ذلك، لكان هذا القول متناقض ً ا. وهكذا يبني التفسري مثلا أن العمل، وإن كان معبرًا،
فإن ما يعبر عنه لا يستطيع استبقاء اهتمام املشاهد. وبعبارة أخرى فإن أولئك الذين
ً يتحدثون عن «التعبري» يفترضون مقدم ً ا معيارا للقيمة ينبغي عليهم أن يتبينوه لأنفسهم
ويصوغوه بوضوح.
هذه النتيجة ترتكز على حقيقة أخرى. فعلينا ألا ننسى أن املضمون التعبريي ليس إلا
بُ ًعد ً ا واحد ً ا للعمل الفني. والعمل الفني الكامل هو الذي يكون جيدا أو رديئًا من الوجهة
الجمالية. فعندما نعزو إليه قيمة (بمعنًى ما)، فلا بد لنا من أن نتحدث عن املادة والشكل،
بالإضافة إلى التعبري؛ ذلك لأن املضمون التعبريي لا يكون ذا قيمة إلا لأن الشكل ينظمه
ويهذبه. ولو كان الشكل مضطربً ً ا، ملا كان مجرد التعبري عن صور وانفعالات وأفكار أمرا
يثري اهتمامنا، بل لكان العكس هو الصحيح؛ ذلك لأن للمادة الحسية واملوضوع الذي
يعالجه العمل الفني أهميتهما بدورهما. وعلى ذلك فإن التعبري ليس كل شيء، فلا يمكن
إذن أن يكون هو مبدأ القيمة في الفن، ولو ظننا أنه كذلك لكان في هذا تشويه شديد
لطبيعة املوضوع الفني؛ ذلك لأنه إذا كانت دراستنا لتركيب الفن قد علمتنا شيئًا، فهو
ٌّ أن املادة، والشكل، والتعبري، متساوية في الأهمية، ويعتمد كل منهم على الآخر، وأن من
املحال فهم أي من هذه العناصر أو تقديره إلا في داخل الكيان الكلي املوحد الذي هو
العمل الفني.