لخّصلي

والآن، ما رأيك بها ؟ قالت ماريلا.
كانت أن تقف في غرفتها ، ترنو باكتئاب إلى ثلاثة فساتين جديدة وضعتها ماريلا على السرير. كان أحدها بني اللون قطني النسيج، أغريت ماريلا على شرائه من بائع متجول في الصيف الماضي، وآخر كان ذا مربعات سوداء وبيضاء من قماش الساتان، وفقت به ماريلا في الشتاء أثناء تنزيلات قام بها أحد المتاجر، أما الثالث فكان من القماش الخشن الملون بظلال قبيحة الزرقة، ابتاعته في ذلك الأسبوع
من أحد مخازن كارمودي
خاطت ماريلا الفساتين بنفسها، وصممتها كلها على هيئة واحدة
تنورة واسعة عادية يفصلها عن صديرية الفستان تحديد طفيف
للخصر، مع أكمام بسيطة كبساطة تنورة الفستان وخصره، وضيقة
بقدر ما يمكن أن يكون عليه الكم من ضيق.
سأتخيل أن هذه الفساتين تروق لي أجابت أن باستسلام.
"لا أريدك أن تتخيلي هذا قالت ماريلا مجروحة المشاعر. يبدو
لي بوضوح أن هذه الفساتين لم تعجبك ما العيب فيها؟ أليست
جميعها مرتبة ونظيفة وجديدة؟
"بلى."
إذن ما الذي لم يعجبك فيها ؟"
"إنها .. إنها .. ليست.. جميلة" قالت أن بنفور.
"جميلة؟" نفخت ماريلا من منخريها. "أنا لن أجعل كل همي ينصب على التفكير بتوفير فساتين جميلة لك، ولا أحبذ مطلقاً الخيلاء
المتعطشة للارتواء يا آن. وعليك أن تستمعي جيداً لما سأقوله لك: هذه الفساتين جيدة ومعقولة وعملية كما هي عليه الآن بدون تزويقها بأية زخارف أو كشاكش، وهي كل ما ستحصلين عليه هذا الصيف. الفستان البني والفستان الأزرق سيخدمانك في المدرسة عندما تباشرين الذهاب إليها . أما فستان الساتان فسترتدينه للكنيسة والمدرسة يوم الأحد. طبعاً أتوقع منك المحافظة عليها مرتبة ونظيفة وغير ممزقة. وسأقنع نفسي بأنك ممتنة لحصولك على أي شئ بعد تلك
الأسمال البالية التي كنت تلبسينها ."
أوه، أنا ممتنة حقاً اعترضت أن "ولكني كنت سأكون أكثر امتناناً لو.. لو أنك صممت واحداً منها فقط بأكمام منفوخة. الأكمام المنفوخة دارجة جداً هذه الأيام، ومطابقة لزي العصر. وكان مجرد
ارتدائي لفستان بأكمام منفوخة سيجعل دغدغة السرور تسري في جسمي يا ماريلا.
هه، عليك أن تعيشي بدون دغدغة سرورك هذه. فلست أملك
قماشاً أبدده على الأكمام المنفوخة، بل وأراها سخيفة المنظر، وأنا أفضل عليها الأكمام البسيطة والعملية والمنطقية.
لكني أفضل أن أبدو سخيفة المنظر عندما يبدو جميع الناس كذلك، على أن أبدو بسيطة ومنطقية وحدي" أصرت أن وهي تنوح.
لا أشك أبداً أن هذا هو رأيك والآن علقي هذه الفساتين بعناية في خزانتك، ثم اجلسي وتعلمي درس مدرسة الأحد. أحضرت لك كتاب هذا الفصل من السيد بيل وستذهبين إلى مدرسة الأحد غداً
قالت ماريلا وهي تغادر نازلة السلالم وقد اعتراها حنق عظيم.
شابكت أن يديها ونظرت إلى الفساتين
لقد تمنيت أن يكون أحدها أبيض اللون ومنفوخ الأكمام
همست بصوت مهموم. بل إني صليت من أجل الحصول عليه، ولكني
لم أتوقع أن تستجاب صلاتي، فأنا لم أفترض أن لدى الله وقتاً يفرغه المعالجة مشكلة فستان بنت يتيمة. وعرفت مسبقاً أن علي الاتكال على ماريلا بهذا الشأن. مع ذلك أنا محظوظة إذ يمكنني تخيل أن أحد هذه الفساتين هو من الموسلين الناصع البياض تزينه كشاكش من
الشرائط الجميلة وله ثلاثة أكمام منفوخة.
لم تستطع ماريلا مرافقة أن إلى مدرسة الأحد في صباح اليوم التالي وذلك بسبب ما كانت تشعر به من أعراض منذرة بالصداع.
سيكون عليك الذهاب وحدك إلى منزل السيدة ليند لتصحبك معها ولتدلك على الصف المناسب لك. انتبهي وتصرفي تصرفاً لائقاً، ابقي السماع موعظة الأحد بعد الدرس، واطلبي من السيدة ليند إرشادك إلى مقعدنا في الكنيسة. وهذا سنت من أجل جمع التبرعات. لا تحملقي بالناس ولا تتململي في مكانك، وسأتوقع منك أن تعيدي على مسمعي المقاطع التي سيتلوها القس عندما تعودين إلى البيت.
غادرت أن البيت بدون إبطاء، مرتدية فستان الساتان ذي المربعات السوداء والبيضاء. كان الفستان محتشم الطول، أما تصميمه الضيق الذي أبرز كل زاوية وناحية من تفاصيل جسمها النحيل، فلم يكن بكل تأكيد عرضة لوصمه بعيب التقتير بالقماش عليه. كانت تعتمر قبعة بحارة جديدة، صغيرة ومسطحة وصقيلة. لكن بساطتها التي بلغت أقصى الحدود خيبت أمال أن كثيراً، وجعلتها تبيح لنفسها بعض الرؤى الخفية التي زودت تلك القبعة بشرائط وأزهار وهمية. وسرعان ما تحولت تلك الأزهار الوهمية إلى حقيقة بعد أن تم فعلاً تزيين القبعة بها قبل وصول أن إلى الطريق الرئيسي. ففي منتصف الدرب أباحت أن لنفسها الحرية المطلقة لتتوج قبعتها بإكليل ثخين من الورود البرية
الزاهية وحشائش أزرار الذهب التي داعبها النسيم ونور بريقها الذهبي. ورغم أنه قد يكون للناس رأي آخر بما فعلته، إلا أنها أحست
بالرضى.
وهكذا ، تابعت طريقها قريرة العين خفيفة الخطى وقد انتصب
رأسها الأحمر مفاخراً بزينته الوردية والصفراء.
لم تجد أن السيدة ليند في بيتها عندما وصلت، لكن شيئاً لم يعقها، إذ تابعت طريقها نحو الكنيسة وحدها. وفي الرواق التقت بحشد من الفتيات الصغيرات اللاتي كن كلهن، على اختلاف مشاربهن يرفلن بالفساتين البيضاء والوردية والزرقاء، ويحملقن بعيون فضولية بالغريبة التي كانت تتوسطهن وقد ازدان رأسها بتلك
الزينة الاستثنائية.
كان قد سبق لبنات أفونليا أن سمعن حكايات عجيبة عن أن. روت عنها السيدة ليند أنها ذات طبع مخيف وقال جيري بوت الصبي الأجير الذي يعمل في المرتفعات الخضراء إنها تتكلم طيلة الوقت مع نفسها أو مع الأشجار والأزهار كالمجانين. وهكذا أخذن يتفحصنها ويتهامسن عنها سراً من وراء كتبهن الفصلية. ولم تقم إحداهن بأية بادرة ودية في ذلك الحين، أو فيما بعد عندما انتهت طقوس قداس
الافتتاح ووجدت أن نفسها في صف الآنسة روجرسن.
كانت الآنسة روجر سن امرأة في منتصف العمر. واظبت على التعليم في مدرسة الأحد لمدة عشرين سنة. وكان أسلوبها التعليمي يقتصر على طرح الأسئلة الموجودة في الكتاب الفصلي، ثم النظر بصرامة من فوق حافته نحو الفتاة التي تنتقيها للإجابة على ذلك السؤال. وفي ذلك اليوم نظرت كثيراً نحو أن، التي كانت تجيبها على, الفور. وكان الفضل في ذلك يعود إلى ماريلا وتدريباتها، رغم أن
استيعاب أن للأسئلة أو للأجوبة كان مدعاة للشك.
لم تستلطف أن الآنسة روجرسن، وغمرتها تعاسة حقيقية لأن
جميع البنات في قاعة الصف كن يرتدين فساتين منفوخة الأكمام.
وشعرت أن الحياة لا تستحق أن تعاش بدون أكمام منفوخة.
أخبريني الآن، كيف وجدت مدرسة الأحد؟"
أرادت ماريلا أن تعرف عندما عادت أن إلى البيت. وبما أنها كانت قد رمت إكليل قبعتها في الطريق بعد ذبوله، أعفيت ماريلا من
معرفة حكاية ذلك الإكليل لبعض الوقت.
لم أحبها قيد أنملة. كانت بغيضة.
آن شيرلي" صاحت ماريلا معنفة.
جلست أن على الكرسي الهزاز، وأطلقت زفرة طويلة، ثم قبلت
ورقة من أوراق بوني ولوحت بيدها لشجيرة فوشية مزهرة. "لا بد أنهم شعروا بالوحشة أثناء غيابي فسرت أن سبب
تصرفها الماريلا.
والآن عن مدرسة الأحد. تصرفت كما يجب، مثلما طلبت مني. لم أجد السيدة ليند عندما وصلت، فقصدت الكنيسة وحدي. دخلتها مع العديد من البنات غيري، وجلست على طرف مقعد قرب النافذة أثناء طقوس الافتتاح. أدى السيد بيل صلاة طويلة جداً .. جداً. ولو لم أوفق
في الجلوس إلى جانب النافذة لأعياني الضجر قبل أن ينتهي. كانت تلك النافذة تطل على بحيرة المياه البراقة مباشرة، وهكذا حدقت بها
وتخيلت شتى أنواع الحكايات الرائعة.
ما كان ينبغي أن تفعلي شيئاً كهذا، كان يجدر بك الانتباه إلى
السيد بيل.
لكنه لم يكن يخاطبني احتجت أن. " كان يوجه حديثه إلى الله، رغم أنه لم يظهر اكتراثاً واضحاً بما كان يقوله. بل بدا لي أنه يظن الله بعيداً جداً لدرجة أنه لم يكلف نفسه عناء بذل أي جهد لجعل صلاته مشوقة. على كل حال قمت أنا نفسي بتلاوة صلاة صغيرة ففي الخارج عند البحيرة كانت أشعة الشمس تخترق رتل أشجار البتولا ثم تهبط .. وتهبط .. وتهبط .. لتستقر في أعماق الماء. يا الله يا ماريلا، كان ذلك المنظر أشبه بالحلم الجميل جعلني أشعر برعشة
ابتهاج عظيمة، ووجدتني أقول: أشكرك يارب على هذا الجمال. كررت
ذلك مرتين أو ثلاث مرات
ليس بصوت عال، على ما أرجو، قالت ماريلا بقلق. أوه، لا، قلت ذلك همساً. أخيراً انتهى السيد بيل، وطلبوا مني الذهاب إلى قاعة الصف مع الآنسة روجرسن. كان في قاعة الصف تسع بنات غيري، وكن كلهن يرتدين فساتين بأكمام منفوخة. وعندما حاولت أن أتخيل أن لفستاني أنا أيضاً أكماماً منفوخة، لم أقدر. لماذا لم أقدر يا ماريلا؟ كان تخيل ذلك من أسهل الأشياء علي أثناء وجودي وحدي في غرفتي، لكنه أصبح بالغ الصعوبة هناك، بين بقية البنات
اللاتي يرتدين أكماماً منفوخة حقيقية."
ما كان يجب عليك التفكير بأكمامك في مدرسة الأحد. كان ينبغي
لك الانتباه إلى الدرس وأرجو أن تكوني قد عرفت أجوبة الأسئلة.
أوه، نعم أجبت على الكثير من الأسئلة. وقد سألت الآنسة روجر سن الكثير .. الكثير منها . لكني لا أرى أن انفرادها بطرح الأسئلة كان شيئاً عادلاً. فقد كانت عندي تساؤلات كثيرة رغبت في الاستفسار عنها، غير أني فضلت ألا أفعل لأني لم أشعر أن روح الآنسة روجر سن متائمة لروحي. بعد ذلك سمعت كل بنت من البنات مقطعاً دينياً كانت قد حفظته. وأخبرتها أني لا أحفظ أي مقطع ديني ولكني أستطيع إلقاء مقطوعة كلب عند قبر سيده، إذا شاءت. وهذه المقطوعة موجودة في كتاب القراءة للصف الثالث. وهي في الحقيقة ليست دينية، لكنها حزينة جداً وكثيبة ويمكنها أن تفي بالغرض. غير أن الآنسة روجر سن قالت لي إنها غير مناسبة وطلبت مني حفظ المقطع التاسع عشر لأسمعه يوم الأحد القادم. ولقد قرأته في الكنيسة ووجدته رائعاً، وفيه على وجه الخصوص سطرين يثيرانني كثيراً :
"أنا لا أعرف ما معنى السرية أو مدين، ولكن لهذه الكلمات وقعاً بالغ المأساوية. وإني لأتحرق شوقاً بانتظار يوم الأحد القادم حتى أسمع هذه المقطوعة. وسأتدرب عليها طيلة الأسبوع. بعد انتهاء المدرسة طلبت من الآنسة روجر سن أن تدلني على مقعدكم في الكنيسة لأن السيدة ليند كانت بعيدة عني. جلست هادئة بقدر ما استطعت. والمقاطع التي اختارها القس هي: مقاطع الوحي؛ الفصل الثالث، المقطعين الثاني والثالث كانت المقاطع طويلة جداً، ولو كنت القس لاخترت مقاطع صغيرة وحيوية. أما الموعظة فكانت أكثر إضجاراً بطولها . وأظن أن القس كان مجبراً على إطالتها لتتناسب مع طول المقاطع. لكني لم أشعر أنه كان مقتنعاً بما قاله. وأعتقد أن مشكلته تكمن في افتقاره إلى الخيال. لم أهتم كثيراً بالاستماع إليه،
وتركت عقلي يحلّق بعيداً، وفكرت بأمور مثيرة جداً .
شعرت ماريلا البائسة أن عليها إعلان استنكارها الحاسم لجميع ما سمعته، لكن الحقيقة التي لا يمكن إغفالها منعتها عن التفوه بأية
كلمة.
لقد كانت هناك عدة أمور مما ذكرتها أن تعتمل في صدرها لسنوات طويلة، خصوصاً فيما يتعلق بموعظة القس وصلاة السيد بيل، لكنها بقيت دفينة في نفسها من غير أن تجد سبيلها إلى التجسد في كلمات. وبدا لها فجأة أن تلك الأفكار الانتقادية، الخفية، غير المنطوقة، أصبحت أخيراً كلمات مرئية، وأنها اتخذت صفة اتهامية شكلاً ومضموناً بوساطة هذه المخلوقة الصغيرة المنبوذ