لخّصلي

أما المكان الذي ولد فيه فهو قلعة ( تكريت ) وتكريت كاÿت بلدة قديمة أقرب إلى بغداد منها إلى
الموصل ، وقد قامت في طرفها الأعلى قلعة حصينة راكبـة علـى دجلـة ، بناهـا ملـوك الفـرس منـذ القـدم
على حجر عظيم ، وجعلوها مخازن للذخيرة ، ومرصدا لمرا قبة العدو ، ثـم افتتحهـا المسـلمون في السـنة
. وظلـت ( تكريـت) تنتقـل تحـت (١) السادسة عشرة من الهجرة أيام عمـر بـن الخطـاب رضـي ا عنـه
دول المسلمين حتى كاÿت تحـت حكـم الدولـة السـلجوقية ، واتصـل أيـوب بـن شـاذي والـد صـلاح الـدين
بأحد رجال رئاسة الشرطة السلجوقية ببغداد واسمه " مجاهد الدين بهروز " فجعـل أيـوب حاكمـا علـى
قلعة تكريت، وجعل معه أخاه " شيركوه أسد الدين " مساعدا له ، وكاÿا أشبه بحاكم ( تكريت ) وكان
هذان الأخوان قد قدما إلى العراق من قرية في أقصى حدود "أذربيجان " يقال لها : " دويـن " في ÿاحيـة
من إقليم "آران" وكاÿا من الأكراد الروادية فنزلا ( تكريت ) وعملًا في شرطة " بهروز " .
ومن عجائب القدر أن ولادة صلاح الدين كاÿـت في اليـوم الـذي أمـر فيـه " مجاهـد الـدين بهـروز "
والي بغداد نجم الدين وأخاه شيركوه بمغادرة مدينـة تكريـت ؛ لقتـل شـيركوه عـم صـلاح الـدين أحـد قـواد
القلعة ، وذلك من أجل امرأة آذاها القائد في شرفها ، فاÿتقم ( شيركوه ) للشرف والمروءة حين اسـتغاثت
به فقتله ، ولكن بهروز وقع في حيرة من ÿفسه هل يبقيهما عنده أم يأمر بمغادرتهما ؟ فإن أبقاهمـا يخشـى
عليهما من اÿتقام القواد وأن يصيبهما الأذى ، فلم يجد بدا سوى أن يأمرهما بالمغادر ة ، فجاء بهما مظهـرا
الخوف عليهما ، وطلب إليهما أن يخرجـا في ليلتـهما مـن تكريـت ، فخـرج الـرجلان يقصـدان ( الموصـل )
وقد حملا أسرتيهما ، وفي رحل نجم الدين يوسف ابنه الطفل المولود صلاح الدين .
معجم البلدان ٢ ص ٤٩١ . (١)
الصفحة (١٢ )
ّ أيوب
ويذكر صاحب " وفيات الأعيان " أن أيوب قد تشاءم بمولوده الجديد صلاح الدين، وقد هم
بقتل ولده عندما كان يصيح وهو طفل وهم خارجون مـن المدينـة ، ولكـن أحـد أتباعـه حـذره مـن هـذا
العمل قائلًا : "يامولاي ، قد رأيت ما حدث عندك من الطيرة والتشاؤم بهـذا الصـبي ، وأي شـيء لـه مـن
ذÿب ؟ وبم استحق ذلك منك وهو لا ينفع ولا يضر ، ولا يغني شيئًا ؟ وهذا الذي جرى عليـك قضـاء
من اللّه سبحاÿه وتعالى وقدر ، ثم ما يدريك أن هذا الطفل يكون ملكًا عظيم الصيت ، جليـل المقـدار ،
. (١) ولعل اللّه جاعل له شأÿًا فاستبقه فهو طفل ليس له ذÿب ولا يعرف ما أÿـت فيـه مـن الكـدر والغـم "
ولقد أثرت هذه الكلمات في ÿفس أيوب ، وسرعا ن ما رجـع إلى الحـق ، وثـاب إلى الرشـد ، واتبـع طريـق
الإسلام الصحيح .
٣ - ÿشأة صلاح الدين :
هاجر الأخوان نجم الدين أيوب وشـيركوه مـن بغـداد إلى الموصـل ، حيـث ÿـزلا عنـد (عمـاد الـدين
زÿكي ) الـذي رحـب بـالأخوين ترحيبـا عظيمـا ، وأجـرى عليهمـا المـنح والعطايـا ، ومـا هـذا الترح يـب
والإكرام إلا مكافأة على موقفهما المخلص في إÿقاذهما له من القتل أو الأسر ؛ ذلك لأن عماد الدين زÿكـي
صاحب الموصل قد حارب السلجوقية عند ( تكريـت ) أيـام كـان (بهـروز ) واليـا علـى بغـداد مـن قبـل
السلجوقيين ، وسبق أن ذكرÿا أن نجم الدين أيـوب ، وشـيركوه كاÿـا قـائمين علـى تكريـت وقلعتـها مـن قبـل
بهـروز، وكـان مـن ÿتيجـة حـرب عمـاد الـدين زÿكـي للسـلجوقيين أن انهـزم جيشـه أمـام جـيش السـلطان
 بتكريـت وأصـبحت حياتـه هـو وجيشـه في يـد
السلجوقي ، وفي أثناء اÿسحابه ورجوعه إلى الموصل مـر
نجم الدين أيوب والى تكريت يومئذ إن شاء أبقاهم أحياء ، وإن شاء ق تلهم ، ففضل نجم الدين الإحسـان
على الإساءة فقام هو وأخوه شيركوه بمساعدة عماد الدين وسهلا له أمر النجاة والسلامة حتى وصل إلى
الموصل ، فكان لهذه المعاملة الحسنة ، والموقف النبيل أكرم الأثر ، وأحسن النتـائج في بنـاء ملـك أيـوب ،
وإقامة مجد الإسلام على يد صلاح الدين .
الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة . (١)
الصفحة (١٣ )
ولما وصل الرجلان إلى الموصل لقيهما عماد الدين كما ذكرÿا بالترحاب، وجازاهما على مـا صـنعا
زين مكرمين .

من الجميل عند تكريت ، فأقطعهما أرضًا ليعيشا عنده معز
عاش نجم الدين وأخوه شيركوه ومعهما المولود صلاح الدين في رعاية عمـاد الـدين بأحسـن مظـاهر
العز والإكرام ، وأسـند إليهمـا أعمـال الجـيش ، ولمـا سـقطت ( بعلبـك ) في يـد عمـاد الـدين زÿكـي سـنة
٥٣٤ هـ عهد بها إلى نجم الدين أيوب وعينه واليا عليهـا ، وفي هـذا الاختيـار برهـان قـاطع علـى مقـدار
وثوق عماد الدين زÿكي بنجم الدين أيوب ، وتمام الإخلاص له ، وحسن الاعتماد عليه . فقضـى صـلاح
الدين في بعلبك بعض سني طفولته ، وتعتبر هذه السنوات الأولى التي قضاها في بعلبك مـن أسـعد السـنين
وأهنئها، ولاشك أÿـه درج علـى العـز ، وÿشـأ علـى الفروسـية ، وتـدرب علـى الحـرب والجهـاد ، ومـارس
السياسة وتدبير الأمور ، وكما يقول الشاعر :
وينشأ ÿاشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
أما المدة التي قضاها في دمشق بعد استيلاء ÿور الـدين بـن عمـاد الـدين زÿكـي عليهـا فكاÿـت مـن
أفضل الأيام التي أظهرت شخصية صلاح الدين الفذة ، فكان محل احترام وتقدير ، بل كان له من الاعتبار
والمكاÿة ما لابن حاكم دمشق ÿفسه ، وقد ظهر أمام ا تمع بمظهر الشاب الهادئ المهذب المتدين ، المتقد
غَيرة على الإسلام والمسلمين بما طبع في ÿفسه من أخلاق ÿور الدين الذي أÿزله لديه منزلة خاصة .
ومن المناصب التي أسندت إليه في دمشق - في عهد ÿور الدين - منصب رئاسة الشـرطة ، وقـد
قام بهذا المنصب أحسن قيام ، واستطاع أن يطهر دمشق من عبث اللصـوص ، ومـن شـرور المفسـدين ،
فأعاد الأمن والاستقرار في ربوع الشام ، وبات الناس يأمنون على أÿفسهم وأموالهم ، وينعمون بنعمة الحياة
الهادئة المطمئنة الكريمة .. ولعل حسان بن ÿُمير المعروف " بعرقلة " الدمشقي يوضح في فرحته بيوسف
صلاح الدين لتسلمه رئاسة شرطة بلده ، وذلك حيث يقول :
الصفحة (١٤ )
رويدكم يالصوص رضي ا عنهرضي ا عنهالشام فإÿي لكم ÿاصح في رضي ا  عنهرضي ا  عنهالمقال
أتاكم سمي النبي رعنهرضياعنهالكري م يوسف رب الحجا والجمال
فذلك يقطع أيدي رضي ا عنهرضي ا عنهالنساء وهذا يقطِّع أيدي رضي ا عنهرضي ا عنهالرجال
أما المدة الـتي قضـاها صـلاح الـدين في مصـر فتعـد مـن أعظـم الأيـام الـتي أظهـرت بطولتـه الفائقـة ،
وحنكته الحربية النادرة ، وذلك أن " شـاور السـعدي " عنـدما ثـار ضـد الخليفـة الفـاطمي " العاضـد "
سنة ٥٥٨ هـ توجه إلى دمشق مستنجدا بنور الدين محمود ، وبعد تردد اسـتجاب ÿـور الـدين لطلـب "
شاور " فبعث معه قائده " أسد الدين شيركوه " وكان من ضمن رجاله الأفذاذ ابـن أخيـه صـلاح الـدين
الذي أظهر البراعة العظيمة ، والعبقرية الفـذة في فنـون الحـرب والقتـال ، فبتـ دبيره وذكائـه وحسـن تصـرفه
استطاع مع عمه أسد الدين أن يضم المملكـة المصـرية إلى ÿـور الـدين محمـود ، وكـان ذلـك سـنة ٥٦٤ هــ
وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل القادم إن شاء اللّه .
نخلص مما تقدم أن صلاح الدين ÿشـأ في السـنين الأولى مـن طفولتـه ، وفي العقـد الثـاÿي والثالـث مـن
شبابه على الفضائل الكريمة ، والخصال الحميدة ، واكتسب من مجالسته للأمراء ، ومـن مصـاحبته للقـواد
العادات الأصيلة ، والمهارة الحربية ، والغيرة الإسلامية ، والشجاعة الماديـة والأدبيـة ، وهـذا مـا أهلـه -
باستحقاق وجدارة - لأن يكون الشخصية الفذة النادرة التي هزت الدÿيا وحولت مجرى التاريخ .