لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (63%)

وفي اطار قيم وعلاقات تحدد له هويته وهوية الناس ، وتفسر طبيعة العالم ، وتفرض عليه دوراً تجاه نفسه وتجاه المجتمع لا يستطيع تغييره . وتعبر عملية التمويه عن نفسها سلوكياً في تجسيد العلاقات الفكرية ( rectification) في سلوك يقبل الامر الواقع كما هو دون تساؤل . والتمويه هو الذي يصنع الوعي الخاطئ الذي يجعلنا نرى العالم من خلال نظارات تصنعها ثقافتنا الاجتماعية والواقع المسيطر فيها ، من هنا كانت نظرتنا الى نفسنا والى تاريخنا والى العالم نظرة خاطئة تقوم على ما تدفعنا الى رؤيته المصلحة المسيطرة ، من سياسية واقتصادية واجتماعية ، وعلى الحاجة النفسية الى تعويض الشعور بالنقص . ان التوصل الى نظرة علمية تستطيع ان تتجاوز المصالح الجزئية التي يقوم عليها الواقع الاجتماعي والسياسي ، وان تتغلب على الشعور بالنقص والخيبة ، الى رفض التمويه السائد واستعادة الثقة بالذات وذلك بامتلاك الادراك النقدي والمعرفة الذاتية . ان القول ان الناس درجات في الفهم ، وفي مقدرتهم على المعرفة والعلم ، والجهل حالة طبيعية عند الكثيرين ، وان المعرفة عملية تتطلب الوقت الكثير ، ان هذا القول هو جزء من عملية التمويه فاكثر الناس قادرون على تجاوز الوعي الخاطئ والعودة الى علاقات اجتماعية تقوم على وضوح الرؤية للأشياء والتوصل الى المعرفة والوعي الصحيح . ولو لم يكن الامر كذلك لما كان ثمة أمل في التغير والتحرر الاجتماعي ، يبدأ الجدار التمويه بالانهيار عندما يحصل في المجتمع تحرك يؤدي ببعض افراده الى التساؤل حول المعطيات الاساسية المسلم بها في المجتمع . ففي القرون الوسطى اعتبر هذا التساؤل كفرا والتي بمن تفوه به الى النار ، أما في الأزمنة الحديثة فانه اعتبر تحدياً للدولة والتي بمن قال به في السجون . ان انهيار جدار التمويه لا يؤدي مباشرة الى انبثاق الوعي وانتشار المعرفة النقدية . التي تمر فيها كل المجتمعات في سيرها من مراحل السبات التاريخي المحافظ الى مراحل التجديد والتغيير والتحديث ، ففي هذه الفترة تطغى الفوضى على كل مظاهر الحياة في المجتمع ، في اخلاقه وقيمه وسلوكه كما في مدنه ومدارسه ومؤسساته . وبرغم ان القيم والعادات والانظمة المتوارثة قد تتعرض في هذه الفترة للهجوم المباشر او غير المباشر ، فان هذا الهجوم لا يرمي الى التحطيم أو الهدم ، اذ تقدم هذه الفترة ستاراً تحتمي وراءه قوى التغيير والانتقال ، وما الفوضى التي نرى ملامحها الفكرية في التعبيرات المختلفة للوعي في مجتمعنا الا انعكاس للفوضى التي نرى تجسيدها في الاسس والعلاقات والسلوك الاجتماعية حولنا . وانني استعمل كلمة فوضى عمداً كي اعبر عن الصفتين الاساسيتين اللتين تميزان عملية التغيير الاجتماعي التي يختبرها مجتمعنا ، وهما ضخامة القوة الموضوعية المتوافرة في مجتمعنا لعملية التغيير واستقلالها عن اية ارادة ذاتية موجهة في هذه الفترة . ان عملية السيطرة على القوة الاجتماعية الفاعلة في المجتمع ، وتسييرها في اتجاه مرتبط بإرادة ذاتية موجهة بحيث تصبح الفوضى ، التي تختبرها يومياً في حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، حركة خلاقة وبناءة قادرة على تطوير المجتمع ونقله الى صعيد انساني اعلى ، ان عملية السيطرة هذه تحتاج الى الوعي المتغلب على التمويه ، والقادر على المعرفة النقدية . فتصبح الفوضى قوة اجتماعية تنبثق من صميم المجتمع الممزق لتعبر عن نفسها في نظرية شاملة مرتبطة بإرادة واعية وقادرة . لا يمكن للإرادة الذاتية ان تكون قاعدة في المجتمع اذا كان مصدرها فقط منابع خارجة عن المجتمع . فالأخذ بالنظريات والمفاهيم الواردة من الخارج يتعذر ان يؤدي الا الى تعزيز التعمية والفوضى اللتين نعانيها حالياً . وعبر عنه بإسلوبه الخاص ولغته الخاصة فاصبح وسيلة مستقلة للمعرفة والادراك . لا تصبح معرفة حقة الا عندما تمتلكها الذات الاجتماعية الشاملة ، ان كل علم وفن وفلسفة تبقى وسيلة للتمويه والكبت ما دام شكلها مستورد تعرض وتعلم في المدارس والجامعات كما تعرض السلع المستوردة وتشترى دون ادراك لماهيتها والنهج الذي اتبع في صنعها . ان العلم والفن والفلسفة المستوردة تحافظ على استمرار ذهنية الوعي الخاطئ وتقويها في المجتمع. ان النقطة الرئيسية التي اود التشديد عليها هي ان ما يقود العلم ويسيره في المجتمع هو دافع ينبثق من ذلك المجتمع ، وليست القيم والاهداف المجردة والمطلقة التي يضعها المجتمع مرمى له ولجهده الجماعي . تقول الايديولوجية الرأسمالية الليبرالية ، ان هدف المجتمع حماية الفرد والحفاظ على حريته ورفاهيته وسعادته ، بينما الواقع ان الفرد في هذا المجتمع مغترب ومستغل ومحروم ومقهور. قال الاميركيون فيتنام بالقنابل ) وقتل مئات الألوف من المدنيين الابرياء) هو الحماية الديموقراطية وه العالم الحر بينما الواقع هو أن جنوبي فيتنام كانت ديكتاتورية عسكرية رفضها الشعب الفيتنامي وعانى على ايدي قادتها المدعومين بالمال والسلاح ان قذف الاميركي أشد أنواع القهر والتعذيب . الان العلم والتكنولوجيا في الغرب ، يقومان في النظام الحاضر على العنف والدمار وليس على الخير والسعادة والسلام. وتعبر عن نفسها في علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في اوروبا وفي اميركا . ان الخبل يخيف اكثر عندما يصيب القوي والمعافى جسمياً فلا تظهر عوارضه واضحة . الذي وضعناه مثالاً نحتذي به ، ان اخذنا بهذا النموذج لا يمكنه الا ان يؤدي الى غرس التوتر ، كما حدث تماماً في المجتمعات الغربية و المتقدمة ، عندما بدأنا ندرس السلوك الاجتماعي في المجتمع العربي وعلاقته بالعائلة بنمط تربية الفرد وبالتثقيف الاجتماعي ) ، مثالاً على ذلك : الملاحظة الآتية : بعنوان " تأثير المسايرة في مقدرة الفرد الانتاجية" :
فهو اما يحرث في حديقته واما بعد الحطب للشتاء واما يصلح سيارته واما يقرأ . فيدعو صديقاً إلى زيارته ، وان لم يجد احداً ، يتوجه الى المقهى ، وضعت دون اي تعليق ، فان المقارنة بين السلوكين تعبر من خلال العنوان عن ان صفة المسايرة التي يتميز بها سلوكنا تعرقل الانتاج الاجتماعي ، بينما نزعة العمل عند الغربيين تزيد منه . لا شك ، اذا كان الانتاج يشكل هدفاً في ذاته ، وخارجاً عن اي اعتبار اجتماعي وانساني ، فان السلوك الاميركي يجب ان يفضل على السلوك العربي . وهنا يظهر خطأنا العلمي في المقارنة ، بسبب ان العلاقات الاجتماعية التي يعيشها الغربي ، بما فيها من ارتباطات وواجبات ، هي التي تقرر نمط سلوكه في الاحوال المختلفة بما فيها وقت فراغه ، لان يعمل دائماً ، حتى في اسلوب تسليته . اما العربي فوضعه الاجتماعي والثقافي مختلف ، وبالتالي عاداته واهدافه وقيمه مختلفة ايضاً . فضيلة كبرى يعتر بها . او الذي يزيد من متعته وسعادته في الحياة . وفي كل ما نصنع ، فاصبحنا نأخذ بكل ما هو غربي ونرفض كل ما يناقضه. في ثقافتنا وفي ثقافة المجتمعات الاشتراكية . ان عملية النقد العلمي تقع على عاتق الجيل الجديد من المثقفين . ربما كان الجيل الجديد أكثر قدرة من الجيل السابق على رفض التمويه واتخاذ مواقف نقدية نحو القيم والافكار التي تبثها المدارس والجامعات ( والتي يفرضها الغرب بواسطة المجتمع الاستهلاكي القائم) ، بصفته جيل الاستقلال والثورة . له الحقوق نفسها كغيره من المواطنين الفرنسيين أن احتقارنا لذاتنا، ومحاولتنا التغلب على هذا الاحتقار بالتعويض النفسي ( بالتبجح على الغرب ، بما قدمناه الى الغرب من علم وفلسفة الخ ) ، التمويه الذي تعرضنا له ، والذي جاء به الاستعمار بواسطة مدارسه وجامعاته ومؤسساته ووسائل اعلامه ، لاقى قبولاً كلياً عندنا لشعورنا التلقائي بان كل ما هو فرنسي او انكليزي أو اميركي يتفوق على ما عندنا ولو قلنا العكس . ان هذا التمويه ذاته يلاقي الآن رفضاً ومقاومة شديدين عند الجيل الطالع الذي اخذ ينبذ ، ما يفرض عليه من الخارج . (حتى لو بقي مستسلماً له حضارياً ونفسياً ) ، يحتاج كسر الطوق ، الذي يبعدنا عن انفسنا ويحجب عنا حقيقتنا وحقيقة مجتمعنا ، الى التغلب على التمويه والتملك من ناحية المعرفة النقدية والتوصل الى المعرفة الذاتية المستقلة التي تشكل القاعدة الوحيدة للوعي الاجتماعي الصحيح . من هنا كان خطر التمويه الداخلي ، اي ذلك الذي ينبع من المجتمع ذاته ، من قيمه وعلاقاته المسيطرة التي تفرضها القوى الحاكمة فيه . يمثل المجتمع عندما يدخله الفرد طفلاً ، و مبدأ الواقع » ( reality‏ ‏principle ) بحسب تعبير فرويد : ويفرض على الطفل كل الصفات والعادات والميزات التي تجعله انسانا على صورة الانسان في مجتمعه ، ويجبره على ترك ومبدأ اللذة ( pleasure principle ) عالم السعادة الطفولي المتناقض مع عالم الواقع الراشد . وهدف كل مجتمع تجاه كل طفل ان يصهره نفسياً وذهنياً ليطابق القالب الحضاري لذلك المجتمع ، وذلك بترك عالم الطفولة ، عالم الحرية والفرح ، والانصياع لعالم الواقع ، تتم عملية الصهر أول ما تتم ضمن العائلة حيث يختبر الفرد اهم مرحلة من مراحل حياته ، ان الواقع الذي يجابه الطفل في العائلة هو واقع سلطوي (authoritarian) فنظام العائلة ، كنظام المجتمع في كل مؤسساته ، نظام هرمي يقوم على السلطة والعنف ويحتل الاب فيه المركز الرئيسي والاول ويحتل الطفل المركز الادنى . وتتميز تربية الطفل في العائلة السلطوية بالعنف والقهر المستمرين . عادل ومساحة نحو زوجته واولاده . فالمؤثر الرئيسي هو العلاقات الموضوعية التي يقوم عليها نظام العائلة ، والتي تقرر نوعية التفاعل بين الافراد وتحدد دور كل منهم ، لا طبيعة الاشخاص الذين تقوم بينهم هذه العلاقات . ويكون التصرف نحو الطفل في العائلة التي يلعب ضمنها الاب الدور المسيطر تصرفاً في غالبه سلبياً ، بحيث ينقل الى الطفل وينمي فيه الشخصية السلطوية التي تتميز بخضوعها للسلطة ، وبنزعتها المحافظة . وفي حين تزرع بذور هذه الشخصية ضمن العائلة تنمي صفاتها في كل المراحل اللاحقة التي يمر فيها الفرد في المدرسة والجامعة والوظيفة والدولة .
وكما رأينا سابقاً ، فان عقل الطفل وتركيبه العاطفي ، وفي التالي مقدرته على مجابهة الواقع والتفاعل معه كعضو في المجتمع ، تتأثر تأثيراً بالغاً بأسلوب المعاملة والتربية اللتين يتعرض اليهما في السنوات الأولى من حياته . فاذا كانت المعاملة فصول سليمة والتربية صحيحة كان هدفها تثبيت الثقة بنفسه وتشجيعه في كل ما يقوم به واشباع فضوله ( بالإجابة على اسئلته اجابات صادقة وكاملة) ، وتقوية ارادته و اعتماده على نفسه ، وغمره بالمحبة والرعاية دون امتلاكه أو الحد من استقلاله الذاتي . اما اذا كانت التربية تقليدية فأنها تؤدي الى احباط عزيمة الفرد ، وتقوية اعتماده على الغير، والحد من فضوله بتجاهل اسئلته او الاستهزاء بها ، وبالقضاء على استقلاله الذاتي . حتى في افضل الاحوال يتعرض الطفل الى الاخطار العديدة التي تحيق به منذ ولادته . ففي مجتمعنا كما في مجتمعات اخرى عدة ، يقومان بدورهما بشكل غريزي ، أو بحسب ما يتذكران من اختبار طفولتيهما ، أو بحسب ما تنصح الجدة أو العمة أو الجارة ، فيكون اسلوبهما استمرار للأسلوب الذي اعتمده الجيل السابق في تربية الاطفال ، وهنا نرى حجر الزاوية الاساسي الذي تقوم عليه الحضارة في صهرها للشخصية الاجتماعية وانتقال نمط التربية وترداد تجارب الطفولة من جيل إلى جيل . جميعنا يذكر ايام الدراسة البدائي منها والجامعي ، ايام القهر والكبت والاضطهاد الفكري . وانني لا ازال اذكر الساعات الطويلة الملأى بالضجر والصمت التي عانيتها انا وزملائي ، في الجامعة الاميركية في بيروت ، ولا انسى دروس الفلسفة التي لقننا اياها اساتذتنا ، فندون ما يقوله ، ولا ازال اذكر كتاب ارنست هوكنج الذي يستعرض المدارس الفلسفية المختلفة ابتداء من الطبيعيين والتجريبين مروراً بالعقليين الى ان يصل الى مدرسة الفلسفة المثالية ، ( ومن العجيب – أو لعله من المتوقع والطبيعي - انني في اثناء دراستي الجامعية ، لم اسمع مرة واحدة ذكراً التمريض لماركس )
ان التمويه الذي تعرضنا اليه جميعاً في ايام دراستنا يمكن مع الزمن التغلب المويه عليه ، ذلك أن ما يدخل الوعي المباشر يمكن نقده وتغييره . لكن التمويه الذي يرجع الى السنوات الاولى من حياتنا يكون حاجزاً من الصعب تجاوزه . وذلك لان الضرر الذهني والعاطفي الذي تسببه طريقة تربيتنا ومعاملتنا في الفترة الاولى من حياتنا يصعب تشخيصه وابراز معالمه في وعينا المباشر وبالتالي اصلاحه وتجاوزه . والنتائج الناجمة عن هذا الاختبار التطور شخصيتنا وتكوين عقليتنا في شكل عام ، وهنا اتناول اقوال ثلاثة . وسيغموند فرويد ، كانت ميلاني كلاين ، العالمة النفسية المتخصصة في علم تحليل الاطفال دير النفسي ، على حد قولها ، ينجم ، و بحجم صغير أو كبير ، نتيجة نمط التربية الذي يصهر شخصية الطفل بحسب متطلبات قيم وعادات ثقافية اجتماعية معينة . والنقطة الاساسية في نظرية كلاين هي ان عملية كبت الجنس والنزعة البدائية عند الطفل بصاحبها عملية كبت وأفكار واشياء اخرى ترتبط بنمو الطفل الطبيعي وتطور فضوله - الذهني نحو الادراك والمعرفة . والسبب الثاني ، حسب نظريتها ، ينجم عن فرض " افكار ومعتقدات جاهزة في شكل يقدر معه الطفل ، من مستوى ادراكه غير ير الرحى المتكامل ، ان يقاوم هذه الافكار والمعتقدات أو ان يستخلص منها معاني أو – نتائج واضحة له ، فيصاب بضرر ذهني دائم
" القوى الطبيعية وقوى ما وراء الطبيعة التي يتلقنها الطفل في تربيته الدينية والأخلاقية ، والتصورات التي يستمدها من القصص والأساطير فيتلبد من جرائها حسه الواقعي ‏(reality-sense) فلا يعود يرفض ما لا يصدق بالحس والادراك ويقبل بالأشياء الخيالية فيكبت ادراكه للأشياء المحسوسة والظاهرة ومقدرات فكرية اخرى. وهنا تلتقى كلاين مع استاذها فرويد الذي قال : و ان للدين قوة كبيرة في حد الفكر ولحمه . وفي رسالة من احدى المجلات الطبية في فينا سنة ۱۹۰۷ يقول : ( اذا كان هدف المربي القضاء على مقدرة الطفل في ان يكون مستقل الفكر في اسرع وقت ممكن كي يعرس فيه السلوك الحسين فليس اجدى لتحقيق ذلك من تمويه حول الامور الجنسية . ويعلق فرويد اهمية كبرى على نتائج التمويه حول الامور الجنسية في التطور الذهني. وهو يرى ان أحد الأسباب الرئيسية للعصاب المسمى obsessive‏ ‏speculating ( بأن يصف الشخص دون التفكير في شيء معين ) هو، علي موجود اسئلة لم تعط لها اجوبة ، ولا بد من أن هذه الاسئلة اثيرت في ذهنه خلال السنوات الأولى من حياته ولم يجد لها جوابا ، اما بسبب رفض والديه للإجابة عنها واما لخوفه من ان يسألها ، فبقيت مكبوتة في اعماقه اللا واعية . ومن هنا نرى العلاقة المباشرة بين التربية العائلية والمدرسية ( الجنسية والاخلاقية ) وبين التطور والنمو الذهني في الفرد . وكانت النتيجة التي توصل اليها فرويد هي ان التربية الجنسية التي تمارسها المجتمعات المتمكنة تنتج رجالاً ضعفاء ذوي اخلاق حسنة مصيرهم الذوبان في الجماهير واتباع القادة الاقوياء ". يتجاوز موقف رايخ موقف فرويد وميلاني كلاين رابطاً مباشرة بين الكبت الجنسي وبين ضعف القدرة على النقد والتمرد عند الفرد . ويقول في كتابه " وتحليل النفسية الفاشستية " عندما يصبح الجنس محرما ينتج عن ذلك اضعاف القوى الذهنية لدى الفرد وخصوصا مقدرته على النقد والتقييم ) . ويقول ان العائلة السلطوية تشل في الفرد قدرته على التمرد والثورة بكيته جنسيا فيقول : «ان هدف الاخلاق ، وما يسمى القيم الاخلاقية ، ويتكيفون معه دون مقاومة ، ويعتقد رايخ ان الاضطهاد العائلي ، خصوصاً كما يتجسد في سطوة الاب ، يخلق في الفرد شعوراً بالنقص وتأنيب الضمير من جراء معاناته العادة الاستمناء التي تكون جزءاً لا يتجزأ من اختبار كل طفل ومراهق بلا استثناء ، وهو يرى ان النزعة المحافظة التي تميز الكثيرين من افراد الطبقة المتوسطة الصغيرة ، انما تقوم على عوامل نفسية وبيولوجية فاعلة في العائلة السلطوية كالتي ذكرتها اعلاه . وفي نظر رايخ ان قهر الفرد في سنوات الطفولة والمراهقة ، ومنعه من امتلاك استقلاله الذاتي في تسيير امور حياته ، يؤدي في من الرجولة الى اتخاذه مواقف سياسية تكون في الغالب محافظة واما لا مبالية سياسياً. وهو يرى انه كلما ازدادت شدة التربية الجنسية ازدادت مقدرة العائلة ( وبالتالي مقدرة المجتمع ) على كسر شوكة الفرد وتدجينه سياسياً . وقارن رايخ بين الاضطهاد الاقتصادي والاضطهاد الجنسي ، ووجد العلاقة بينهما جذورية ، اما الثانية ( الكبت الجنسي ) فتؤدي – بسبب ربط الجنس بالأخلاق والدين .


النص الأصلي

وفي اطار قيم وعلاقات تحدد له هويته وهوية الناس ، وتفسر طبيعة العالم ، وتركز مكانته بين الناس ، وتفرض عليه دوراً تجاه نفسه وتجاه المجتمع لا يستطيع تغييره . وتعبر عملية التمويه عن نفسها سلوكياً في تجسيد العلاقات الفكرية ( rectification) في سلوك يقبل الامر الواقع كما هو دون تساؤل . والتمويه هو الذي يصنع الوعي الخاطئ الذي يجعلنا نرى العالم من خلال نظارات تصنعها ثقافتنا الاجتماعية والواقع المسيطر فيها ، فندعم القوى التي تسيطر علينا وتستغلنا ونرفض بملء ارادتنا سبيل التحرير والانعتاق .
من هنا كانت نظرتنا الى نفسنا والى تاريخنا والى العالم نظرة خاطئة تقوم على ما تدفعنا الى رؤيته المصلحة المسيطرة ، من سياسية واقتصادية واجتماعية ، وعلى الحاجة النفسية الى تعويض الشعور بالنقص . ان التوصل الى نظرة علمية تستطيع ان تتجاوز المصالح الجزئية التي يقوم عليها الواقع الاجتماعي والسياسي ، وان تتغلب على الشعور بالنقص والخيبة ، يحتاج ، كخطوة اولى ، الى رفض التمويه السائد واستعادة الثقة بالذات وذلك بامتلاك الادراك النقدي والمعرفة الذاتية . ان القول ان الناس درجات في الفهم ، وفي مقدرتهم على المعرفة والعلم ، كما في المناصب والمراكز ، وان العلم ملك عند البعض ، والجهل حالة طبيعية عند الكثيرين ، وان المعرفة عملية تتطلب الوقت الكثير ، والجهد الكثير ، ولا يقدر عليها الا القليلون ، ان هذا القول هو جزء من عملية التمويه فاكثر الناس قادرون على تجاوز الوعي الخاطئ والعودة الى علاقات اجتماعية تقوم على وضوح الرؤية للأشياء والتوصل الى المعرفة والوعي الصحيح . ولو لم يكن الامر كذلك لما كان ثمة أمل في التغير والتحرر الاجتماعي ، ولبقي التاريخ كابوساً مظلماً لا حلم فيه ولا يقظة منه .
يبدأ الجدار التمويه بالانهيار عندما يحصل في المجتمع تحرك يؤدي ببعض افراده الى التساؤل حول المعطيات الاساسية المسلم بها في المجتمع . ويتخذ رد الفعل نحو هذا التساؤل اشكالاً مختلفة ، ففي القرون الوسطى اعتبر هذا التساؤل كفرا والتي بمن تفوه به الى النار ، أما في الأزمنة الحديثة فانه اعتبر تحدياً للدولة والتي بمن قال به في السجون .


ان انهيار جدار التمويه لا يؤدي مباشرة الى انبثاق الوعي وانتشار المعرفة النقدية . فالفترة الانتقالية ، التي تمر فيها كل المجتمعات في سيرها من مراحل السبات التاريخي المحافظ الى مراحل التجديد والتغيير والتحديث ، تتميز بظاهرة الفوضى . ففي هذه الفترة تطغى الفوضى على كل مظاهر الحياة في المجتمع ، في اخلاقه وقيمه وسلوكه كما في مدنه ومدارسه ومؤسساته . وبرغم ان القيم والعادات والانظمة المتوارثة قد تتعرض في هذه الفترة للهجوم المباشر او غير المباشر ، فان هذا الهجوم لا يرمي الى التحطيم أو الهدم ، اذ تقدم هذه الفترة ستاراً تحتمي وراءه قوى التغيير والانتقال ، فتسير عملية التغيير والتجديد بمهمتها دون مجابهة القوى المحافظة مجابهة صدامية . وما الفوضى التي نرى ملامحها الفكرية في التعبيرات المختلفة للوعي في مجتمعنا الا انعكاس للفوضى التي نرى تجسيدها في الاسس والعلاقات والسلوك الاجتماعية حولنا . وانني استعمل كلمة فوضى عمداً كي اعبر عن الصفتين الاساسيتين اللتين تميزان عملية التغيير الاجتماعي التي يختبرها مجتمعنا ، وهما ضخامة القوة الموضوعية المتوافرة في مجتمعنا لعملية التغيير واستقلالها عن اية ارادة ذاتية موجهة في هذه الفترة .
ان عملية السيطرة على القوة الاجتماعية الفاعلة في المجتمع ، وتسييرها في اتجاه مرتبط بإرادة ذاتية موجهة بحيث تصبح الفوضى ، التي تختبرها يومياً في حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، حركة خلاقة وبناءة قادرة على تطوير المجتمع ونقله الى صعيد انساني اعلى ، ان عملية السيطرة هذه تحتاج الى الوعي المتغلب على التمويه ، والقادر على المعرفة النقدية . فتصبح الفوضى قوة اجتماعية تنبثق من صميم المجتمع الممزق لتعبر عن نفسها في نظرية شاملة مرتبطة بإرادة واعية وقادرة .
المعرفة الذاتية
لا يمكن للإرادة الذاتية ان تكون قاعدة في المجتمع اذا كان مصدرها فقط منابع خارجة عن المجتمع . فالأخذ بالنظريات والمفاهيم الواردة من الخارج يتعذر ان يؤدي الا الى تعزيز التعمية والفوضى اللتين نعانيها حالياً . حتى العلم الطبيعي المستورد لا يصبح علماً حقيقياً الا اذا استوعبه الفكر الذاتي ، وعبر عنه بإسلوبه الخاص ولغته الخاصة فاصبح وسيلة مستقلة للمعرفة والادراك . ان المعرفة ، في اشكالها المختلفة ، لا تصبح معرفة حقة الا عندما تمتلكها الذات الاجتماعية الشاملة ، فتصبح تعبيراً عن واقعها وعن امكان تجاوز هذا الواقع. ان كل علم وفن وفلسفة تبقى وسيلة للتمويه والكبت ما دام شكلها مستورد تعرض وتعلم في المدارس والجامعات كما تعرض السلع المستوردة وتشترى دون ادراك لماهيتها والنهج الذي اتبع في صنعها . ان العلم والفن والفلسفة المستوردة تحافظ على استمرار ذهنية الوعي الخاطئ وتقويها في المجتمع.
ان النقطة الرئيسية التي اود التشديد عليها هي ان ما يقود العلم ويسيره في المجتمع هو دافع ينبثق من ذلك المجتمع ، فيعطيه منطقه الخاص ، وطبيعته الخاصة ، وليست القيم والاهداف المجردة والمطلقة التي يضعها المجتمع مرمى له ولجهده الجماعي . ان القيم والاهداف دائماً تبدو منطقية ( عقلانية ) ، لكن التاريخ والاختبار التاريخي يعلماننا ان الامر غير ذلك . لنأخذ مثلين احدهما داخلي والآخر خارجي . تقول الايديولوجية الرأسمالية الليبرالية ، ان هدف المجتمع حماية الفرد والحفاظ على حريته ورفاهيته وسعادته ، بينما الواقع ان الفرد في هذا المجتمع مغترب ومستغل ومحروم ومقهور. قال الاميركيون فيتنام بالقنابل ) وقتل مئات الألوف من المدنيين الابرياء) هو الحماية الديموقراطية وه العالم الحر بينما الواقع هو أن جنوبي فيتنام كانت ديكتاتورية عسكرية رفضها الشعب الفيتنامي وعانى على ايدي قادتها المدعومين بالمال والسلاح ان قذف الاميركي أشد أنواع القهر والتعذيب . بكلمة اخرى ، الان العلم والتكنولوجيا في الغرب ، يقومان في النظام الحاضر على العنف والدمار وليس على الخير والسعادة والسلام. ان الدافع الذي يحرك النظام السياسي في الغرب هو دافع القوة والسيطرة ، هو دافع غير منطقي (لا عقلاني ) ، لأنه يسير التاريخ في غير مصلحة الانسانية . وهذه الظاهرة اللا منطقية تعشش في صميم نطاقه الفكري والعلمي ، وتعبر عن نفسها في علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في اوروبا وفي اميركا . ان الخبل يخيف اكثر عندما يصيب القوي والمعافى جسمياً فلا تظهر عوارضه واضحة . والنموذج الغربي ، الذي وضعناه مثالاً نحتذي به ، هو نموذج لكائن كهذا . ان اخذنا بهذا النموذج لا يمكنه الا ان يؤدي الى غرس التوتر ، والتضارب ، والتناقض في حياتنا ، والى تفشي الكبت ، والعصاب ، والعجز النفسي في حياة الافراد فيه ، حتى لو نجحنا في تحقيق النمو والتقدم والازدهار المادي ، كما حدث تماماً في المجتمعات الغربية و المتقدمة ، و المتطورة ) ، خلال القرنين الماضيين ( منذ بعد الثورة الصناعية ) .
عندما بدأنا ندرس السلوك الاجتماعي في المجتمع العربي وعلاقته بالعائلة بنمط تربية الفرد وبالتثقيف الاجتماعي ) ، لم يدر في خلدنا اننا كنا نأخذ ، في طرحنا وتحليلنا لانماط هذا السلوك ، عن غير وعي ، انماط سلوك الغربيين نموذجا للمقارنة. وقد وجدت بين أوراقي ، مثالاً على ذلك : الملاحظة الآتية : بعنوان " تأثير المسايرة في مقدرة الفرد الانتاجية" :


" ان الرجل الاميركي اذا وجد لديه شيئاً من الفراغ ينصرف الى عمل ما ، فهو اما يحرث في حديقته واما بعد الحطب للشتاء واما يصلح سيارته واما يقرأ . أما العربي فيفتش عن سبيل الى التسلية ، فيدعو صديقاً إلى زيارته ، أو يذهب هو الى زيارة احد معارفه ، وان لم يجد احداً ، يتوجه الى المقهى ، أو الى مكان عام يفتش فيه عن احد يتساير معه .
ومع ان الملاحظة ، كما اوردتها اعلاه ، وضعت دون اي تعليق ، فان المقارنة بين السلوكين تعبر من خلال العنوان عن ان صفة المسايرة التي يتميز بها سلوكنا تعرقل الانتاج الاجتماعي ، بينما نزعة العمل عند الغربيين تزيد منه . وبهذا فان السلوك الغربي يظهر من خلال المقارنة كأنه قدوة يجب الاقتداء بها .
لا شك ، اذا كان الانتاج يشكل هدفاً في ذاته ، وخارجاً عن اي اعتبار اجتماعي وانساني ، فان السلوك الاميركي يجب ان يفضل على السلوك العربي . ولكن من المستحيل النظر الى الانتاج بتجريد عن السياق الاجتماعي وما يتضمنه من اهداف وقيم انسانية . وهنا يظهر خطأنا العلمي في المقارنة ، بسبب ان العلاقات الاجتماعية التي يعيشها الغربي ، بما فيها من ارتباطات وواجبات ، هي التي تقرر نمط سلوكه في الاحوال المختلفة بما فيها وقت فراغه ، وانه في نشأته وثقافته ونمط حياته اليومية و مدفوع ، لان يعمل دائماً ، وأن لا يهدر الوقت لان الوقت مال ) ، حتى في اسلوب تسليته . اما العربي فوضعه الاجتماعي والثقافي مختلف ، وبالتالي عاداته واهدافه وقيمه مختلفة ايضاً . ان الانتاج في حياته لا يشكل هدفاً اخيراً والعمل لا يرمز الى قيمة اساسية في منظوره الاخلاقي ولا يشكل لديه ، كما لدى الغربي ، فضيلة كبرى يعتر بها . والعكس هو الواقع اذ يستحسن لديه ان يخصص وقت الفراغ للمتعة والتسلية لا للمزيد من العمل والكد . والسؤال هنا هو : اي السلوكين افضل ، ذلك الذي يزيد مما يمتلكه الانسان ، او الذي يزيد من متعته وسعادته في الحياة .
من الخطأ ان نعتبر النموذج الغربي مثلاً يحتذى في عملية التغيير الاجتماعي التي تجابهنا اليوم . كان هذا النموذج ( ولا يزال ) مصدر الهامنا في كل ما نفكر ، وفي كل ما نصنع ، وما زلنا فريسة التمويه الذي حمله الينا مثقفونا بتقديسهم للتراث الغربي، والحضارة الغربية ، وبعجزهم عن اتخاذ اي موقف نقدي صحيح نحوها . فاصبحنا نأخذ بكل ما هو غربي ونرفض كل ما يناقضه. في ثقافتنا وفي ثقافة المجتمعات الاشتراكية .
ان عملية النقد العلمي تقع على عاتق الجيل الجديد من المثقفين . ربما كان الجيل الجديد أكثر قدرة من الجيل السابق على رفض التمويه واتخاذ مواقف نقدية نحو القيم والافكار التي تبثها المدارس والجامعات ( والتي يفرضها الغرب بواسطة المجتمع الاستهلاكي القائم) ، بصفته جيل الاستقلال والثورة . فأفراده نشأوا وترعرعوا في مرحلة الثورة على الاستعمار ، واصبحوا رجالاً في الفترة التي حققنا فيها استقلالنا واصبحنا أحراراً في كل جزء من وطننا . عاصر جيلنا السابق امثال فرحات عباس وعرف مبادئه واهدافه وما زلت اذكر مطالبه ان يرفض الجزائري هويته الجزائرية ليصبح (فرنسيا، له الحقوق نفسها كغيره من المواطنين الفرنسيين أن احتقارنا لذاتنا، ومحاولتنا التغلب على هذا الاحتقار بالتعويض النفسي ( بالتبجح على الغرب ، بما قدمناه الى الغرب من علم وفلسفة الخ ) ، تجربة مؤلمة لا يعرفها الجيل الطالع كما عرفناها نحن ، التمويه الذي تعرضنا له ، والذي جاء به الاستعمار بواسطة مدارسه وجامعاته ومؤسساته ووسائل اعلامه ، لاقى قبولاً كلياً عندنا لشعورنا التلقائي بان كل ما هو فرنسي او انكليزي أو اميركي يتفوق على ما عندنا ولو قلنا العكس . ان هذا التمويه ذاته يلاقي الآن رفضاً ومقاومة شديدين عند الجيل الطالع الذي اخذ ينبذ ، كما لم يفعل قط الجيل السابق ، ما يفرض عليه من الخارج . اذا كان الجيل السابق قادراً على ان يتغلب على الاستعمار ويقضي عليه سياسياً ، (حتى لو بقي مستسلماً له حضارياً ونفسياً ) ، فالجيل الصاعد قادر على أن يقضي عليه في الاشكال الجديدة التي اتخذها لمد سيطرته من جديد .


التمويه الاجتماعي
اذن ، يحتاج كسر الطوق ، الذي يبعدنا عن انفسنا ويحجب عنا حقيقتنا وحقيقة مجتمعنا ، الى التغلب على التمويه والتملك من ناحية المعرفة النقدية والتوصل الى المعرفة الذاتية المستقلة التي تشكل القاعدة الوحيدة للوعي الاجتماعي الصحيح . لكن المعرفة الذاتية تبقى عرضة للقوى المسيطرة في المجتمع لتحد من هذه المعرفة وتستخدمها في سبيل تأمين مقاصدها . من هنا كان خطر التمويه الداخلي ، اي ذلك الذي ينبع من المجتمع ذاته ، من قيمه وعلاقاته المسيطرة التي تفرضها القوى الحاكمة فيه .
يمثل المجتمع عندما يدخله الفرد طفلاً ، و مبدأ الواقع » ( reality‏ ‏principle ) بحسب تعبير فرويد : ويفرض على الطفل كل الصفات والعادات والميزات التي تجعله انسانا على صورة الانسان في مجتمعه ، ويجبره على ترك ومبدأ اللذة ( pleasure principle ) عالم السعادة الطفولي المتناقض مع عالم الواقع الراشد . وهدف كل مجتمع تجاه كل طفل ان يصهره نفسياً وذهنياً ليطابق القالب الحضاري لذلك المجتمع ، وذلك بترك عالم الطفولة ، عالم الحرية والفرح ، والانصياع لعالم الواقع ، عالم الكبت والقهر . تتم عملية الصهر أول ما تتم ضمن العائلة حيث يختبر الفرد اهم مرحلة من مراحل حياته ، مرحلة تكيفه الاول مع عالم الواقع (عالم والده ووالدته ، واخوته واقرانه وبداية هجرة لعالم السعادة .
ان الواقع الذي يجابه الطفل في العائلة هو واقع سلطوي (authoritarian) فنظام العائلة ، كنظام المجتمع في كل مؤسساته ، نظام هرمي يقوم على السلطة والعنف ويحتل الاب فيه المركز الرئيسي والاول ويحتل الطفل المركز الادنى . وتتميز تربية الطفل في العائلة السلطوية بالعنف والقهر المستمرين . ولا يقلل من ذلك كون الابر عادلاً . عادل ومساحة نحو زوجته واولاده . فالمؤثر الرئيسي هو العلاقات الموضوعية التي يقوم عليها نظام العائلة ، والتي تقرر نوعية التفاعل بين الافراد وتحدد دور كل منهم ، لا طبيعة الاشخاص الذين تقوم بينهم هذه العلاقات .
ويكون التصرف نحو الطفل في العائلة التي يلعب ضمنها الاب الدور المسيطر تصرفاً في غالبه سلبياً ، بحيث ينقل الى الطفل وينمي فيه الشخصية السلطوية التي تتميز بخضوعها للسلطة ، وفي الوقت نفسه بتعاليمها على من هم دونها ، وبنزعتها المحافظة . وفي حين تزرع بذور هذه الشخصية ضمن العائلة تنمي صفاتها في كل المراحل اللاحقة التي يمر فيها الفرد في المدرسة والجامعة والوظيفة والدولة .

وكما رأينا سابقاً ، فان عقل الطفل وتركيبه العاطفي ، وفي التالي مقدرته على مجابهة الواقع والتفاعل معه كعضو في المجتمع ، تتأثر تأثيراً بالغاً بأسلوب المعاملة والتربية اللتين يتعرض اليهما في السنوات الأولى من حياته . فاذا كانت المعاملة فصول سليمة والتربية صحيحة كان هدفها تثبيت الثقة بنفسه وتشجيعه في كل ما يقوم به واشباع فضوله ( بالإجابة على اسئلته اجابات صادقة وكاملة) ، وتقوية ارادته و اعتماده على نفسه ، وغمره بالمحبة والرعاية دون امتلاكه أو الحد من استقلاله الذاتي . اما اذا كانت التربية تقليدية فأنها تؤدي الى احباط عزيمة الفرد ، وضعضعة ثقته بنفسه ، وتقوية اعتماده على الغير، والحد من فضوله بتجاهل اسئلته او الاستهزاء بها ، وبالقضاء على استقلاله الذاتي .
حتى في افضل الاحوال يتعرض الطفل الى الاخطار العديدة التي تحيق به منذ ولادته . ففي مجتمعنا كما في مجتمعات اخرى عدة ، يحرم الوالدان الاعداد المسبق للقيام بدورهما ، وعندما يصبحان اباً واماً بالفعل ، يقومان بدورهما بشكل غريزي ، أو بحسب ما يتذكران من اختبار طفولتيهما ، أو بحسب ما تنصح الجدة أو العمة أو الجارة ، فيكون اسلوبهما استمرار للأسلوب الذي اعتمده الجيل السابق في تربية الاطفال ، وهنا نرى حجر الزاوية الاساسي الذي تقوم عليه الحضارة في صهرها للشخصية الاجتماعية وانتقال نمط التربية وترداد تجارب الطفولة من جيل إلى جيل .
وما أن يتحرر الفرد من عنو الاب السلطان حتى يقع تحت سلطة المعلم الديكتاتور. جميعنا يذكر ايام الدراسة البدائي منها والجامعي ، ايام القهر والكبت والاضطهاد الفكري . وانني لا ازال اذكر الساعات الطويلة الملأى بالضجر والصمت التي عانيتها انا وزملائي ، في الجامعة الاميركية في بيروت ، بالاستماع الى محاضرات اساتذتنا التي لم يكن لها نهاية . ولا انسى دروس الفلسفة التي لقننا اياها اساتذتنا ، والاسلوب الذي كانوا يتبعونه في التعليم ... فكان الاستاذ يدخل الى القاعة ويبدأ بالتكلم دون انقطاع ، فندون ما يقوله ، أو نتظاهر بذلك ) وكثيراً ما كنا نرسم في الدفتر بدل أن نكتب ) ، وعندما يحين الامتحان نحاول ان نستعيد اقواله . ولا ازال اذكر كتاب ارنست هوكنج الذي يستعرض المدارس الفلسفية المختلفة ابتداء من الطبيعيين والتجريبين مروراً بالعقليين الى ان يصل الى مدرسة الفلسفة المثالية ، وكان استاذنا يأخذ المدارس مدرسة مدرسة ، فيفند مزاعم كل منها الى ان يصل الى المثالية . فيسندها ويدعمها فتخرج من الصف مثاليين . ( ومن العجيب – أو لعله من المتوقع والطبيعي - انني في اثناء دراستي الجامعية ، لم اسمع مرة واحدة ذكراً التمريض لماركس )
ان التمويه الذي تعرضنا اليه جميعاً في ايام دراستنا يمكن مع الزمن التغلب المويه عليه ، ذلك أن ما يدخل الوعي المباشر يمكن نقده وتغييره . لكن التمويه الذي يرجع الى السنوات الاولى من حياتنا يكون حاجزاً من الصعب تجاوزه . وذلك لان الضرر الذهني والعاطفي الذي تسببه طريقة تربيتنا ومعاملتنا في الفترة الاولى من حياتنا يصعب تشخيصه وابراز معالمه في وعينا المباشر وبالتالي اصلاحه وتجاوزه . لذلك نبقى سجناء وشخصياتنا فلا تتغير مهما طال العمر وتراكمت التجارب
كي نكون صورة واضحة عن طبيعة الضرر الذهني والعاطفي في مثل الظروف التي اختبرناها ضمن العائلة السلطوية في مجتمعنا السلطوي ، والنتائج الناجمة عن هذا الاختبار التطور شخصيتنا وتكوين عقليتنا في شكل عام ، من المستحسن أن نرجع الى ما يقوله علماء النفس الاخصائيون حول الموضوع . وهنا اتناول اقوال ثلاثة . من العلماء النفسيين : ميلاني كلاين ، وسيغموند فرويد ، وفيلهلم رايخ ، وبهذا نعود الى نقطة التساؤل الذي ابتدأنا به هذه الدراسة .
كانت ميلاني كلاين ، العالمة النفسية المتخصصة في علم تحليل الاطفال دير النفسي ، أول من اشار الى ان الكثيرين من الاطفال الذين يظهرون في صغرهم (حتى السن السادسة ذكاء ومقدرة غير طبيعيين ، يصبحون في - كبرهم اعتياديين وغير متفوقين من حيث مقدرتهم وذكاؤهم ، والى ان سبب هذا التأخر ، على حد قولها ، ينجم ، و بحجم صغير أو كبير ، عن ضرر يتعرض له الطفل في ناحية من نواحي نموه الذهني . وتقول كلاين ان دافع الفضول والمعرفة عند الطفل كثيراً ما يتعطل من سببين رئيسيين : السبب الأول هو كبت ورفض لما تسميه كلاين العامل الجنسي والعامل البدائي في حياة الطفل ، نتيجة نمط التربية الذي يصهر شخصية الطفل بحسب متطلبات قيم وعادات ثقافية اجتماعية معينة . والنقطة الاساسية في نظرية كلاين هي ان عملية كبت الجنس والنزعة البدائية عند الطفل بصاحبها عملية كبت وأفكار واشياء اخرى ترتبط بنمو الطفل الطبيعي وتطور فضوله - الذهني نحو الادراك والمعرفة . والسبب الثاني ، حسب نظريتها ، ينجم عن فرض " افكار ومعتقدات جاهزة في شكل يقدر معه الطفل ، من مستوى ادراكه غير ير الرحى المتكامل ، ان يقاوم هذه الافكار والمعتقدات أو ان يستخلص منها معاني أو – نتائج واضحة له ، فيصاب بضرر ذهني دائم
" القوى الطبيعية وقوى ما وراء الطبيعة التي يتلقنها الطفل في تربيته الدينية والأخلاقية ، والتصورات التي يستمدها من القصص والأساطير فيتلبد من جرائها حسه الواقعي ‏(reality-sense) فلا يعود يرفض ما لا يصدق بالحس والادراك ويقبل بالأشياء الخيالية فيكبت ادراكه للأشياء المحسوسة والظاهرة ومقدرات فكرية اخرى.
وهنا تلتقى كلاين مع استاذها فرويد الذي قال : و ان للدين قوة كبيرة في حد الفكر ولحمه . وبصر فرويد على ان التحريف الذهني الذي يلحق بالعمل بعد السنة السادسة يعود الى اسباب مختلفة أهمها نمط التربية العالمية ، وخصوصاً ما يتعلق منها بالتربية الجنسية . وفي رسالة من احدى المجلات الطبية في فينا سنة ۱۹۰۷ يقول : ( اذا كان هدف المربي القضاء على مقدرة الطفل في ان يكون مستقل الفكر في اسرع وقت ممكن كي يعرس فيه السلوك الحسين فليس اجدى لتحقيق ذلك من تمويه حول الامور الجنسية . وذلك بإرهابه بالأفكار الدينية
ويعلق فرويد اهمية كبرى على نتائج التمويه حول الامور الجنسية في التطور الذهني. وهو يرى ان أحد الأسباب الرئيسية للعصاب المسمى obsessive‏ ‏speculating ( بأن يصف الشخص دون التفكير في شيء معين ) هو، علي موجود اسئلة لم تعط لها اجوبة ، في ذهنه اللا واعي . ولا بد من أن هذه الاسئلة اثيرت في ذهنه خلال السنوات الأولى من حياته ولم يجد لها جوابا ، اما بسبب رفض والديه للإجابة عنها واما لخوفه من ان يسألها ، فبقيت مكبوتة في اعماقه اللا واعية . ومن هنا نرى العلاقة المباشرة بين التربية العائلية والمدرسية ( الجنسية والاخلاقية ) وبين التطور والنمو الذهني في الفرد . وكانت النتيجة التي توصل اليها فرويد هي ان التربية الجنسية التي تمارسها المجتمعات المتمكنة تنتج رجالاً ضعفاء ذوي اخلاق حسنة مصيرهم الذوبان في الجماهير واتباع القادة الاقوياء ".
وعالج هذه الناحية معالجة صافية وعميقة فيلهلم رايخ أشهر تلاميذ فرويد وربما الأكثر تأثيراً في الفكر الثوري المعاصر .
يتجاوز موقف رايخ موقف فرويد وميلاني كلاين رابطاً مباشرة بين الكبت الجنسي وبين ضعف القدرة على النقد والتمرد عند الفرد . ويقول في كتابه " وتحليل النفسية الفاشستية " عندما يصبح الجنس محرما ينتج عن ذلك اضعاف القوى الذهنية لدى الفرد وخصوصا مقدرته على النقد والتقييم ) . ويقول ان العائلة السلطوية تشل في الفرد قدرته على التمرد والثورة بكيته جنسيا فيقول : «ان هدف الاخلاق ، وما يسمى القيم الاخلاقية ، تنمية اشخاص خانعين يتقبلون النظام السلطوي وقيمه دون تردد ، ويتكيفون معه دون مقاومة ، رغم الالم والاهانة اللذين يكبدهم اياهما هذا النظام وقيمه ".
ويعتقد رايخ ان الاضطهاد العائلي ، خصوصاً كما يتجسد في سطوة الاب ، يخلق في الفرد شعوراً بالنقص وتأنيب الضمير من جراء معاناته العادة الاستمناء التي تكون جزءاً لا يتجزأ من اختبار كل طفل ومراهق بلا استثناء ، وهو يرى ان النزعة المحافظة التي تميز الكثيرين من افراد الطبقة المتوسطة الصغيرة ، انما تقوم على عوامل نفسية وبيولوجية فاعلة في العائلة السلطوية كالتي ذكرتها اعلاه . وفي نظر رايخ ان قهر الفرد في سنوات الطفولة والمراهقة ، ومنعه من امتلاك استقلاله الذاتي في تسيير امور حياته ، يؤدي في من الرجولة الى اتخاذه مواقف سياسية تكون في الغالب محافظة واما لا مبالية سياسياً. وهو يرى انه كلما ازدادت شدة التربية الجنسية ازدادت مقدرة العائلة ( وبالتالي مقدرة المجتمع ) على كسر شوكة الفرد وتدجينه سياسياً .
وقارن رايخ بين الاضطهاد الاقتصادي والاضطهاد الجنسي ، ووجد العلاقة بينهما جذورية ، وان اختلفت النتائج الصادرة عن كل منهما : « ان النتائج المترتبة على القهر الاجتماعي (الاستغلال الاقتصادي) تختلف اختلافاً كبيراً عن النتائج الناجمة عن القهر الجنسي . الحالة الأولى ( القهر الاقتصادي) تختلف اختلافاً كبيراً عن النتائج الناجمة عن القهر الجنسي . الحالة الاولى القهر الاقتصادي تؤدي الى قيام الثورة ضد الاضطهاد والاستغلال ، اما الثانية ( الكبت الجنسي ) فتؤدي – بسبب ربط الجنس بالأخلاق والدين .
إلى شلل نفسي بقتب القدرة على التمرد والثورة ضد الاضطهاد الاجتماعي والاضطهاد الجنسي على السواء )
من هنا كان رايخ اكثر جذرية في نقده للتربية الجنسية والاخلاقية ، بربطه هذه التربية بدوافعها الاجتماعية . وكان أول من نادى بضرورة التحرير الجنسي كشرط اساسي لتحقيق التحرير السياسي . فيصبح تحرير المرأة . يحشر هدفاً اساسياً في التحرير الشامل .
ان التغلب على التمويه اذا شرط اساسي للتغلب على القهر والاضطهاد في الفرد وفي المجتمع على السواء .


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

خاتمة مجلة الع...

خاتمة مجلة العلوم الإنسانية في ختام هذه الورقة البحثية تؤكد على أن ظاهرة الإسلاموفوبيا للأسف أصبحت...

High-risk babie...

High-risk babies or children from regional hospitals are routinely referred to the Metabolic Divisio...

ينتسب الأعشى إل...

ينتسب الأعشى إلى قبيلة بكر بن وائل الكبيرة التي كانت تمتد فروعها وبطونها في شرقي الجزيرة من وادى الف...

كانت مساله تجري...

كانت مساله تجريم بعض الاعمال الموسومه بالانتهاكات الخطيره ووضع نظام لقمع هذي الانتهاكات من الجوانب ا...

Bioreactors off...

Bioreactors offer the ability to create a controlled cellular microenvironment, enabling precise con...

أمام الملك: ( ي...

أمام الملك: ( يتقدم الحارس ووراءه الناس يتلامح على وجوههم الخشوع و الخوف و الارتباك كلما تقدموا داخل...

Integration of ...

Integration of stem cell sources with organ-on-chip systems enhances preliminary drug screening by p...

The antimicrobi...

The antimicrobial preservative efficacy of the eye-drops challenged with E. coli, S. aureus and P....

يتاثر سلوك الزب...

يتاثر سلوك الزبون بالعوامل الاجتماعي مثل الجماعات المرجعية و الاسرة و الادوار المكانة الاجتماعية . و...

الكربون يمتلك خ...

الكربون يمتلك خصائص فريدة مثل رباعية التكافلية والتسلسل الكربوني والايزوميرية والمجموعات الوظيفية، و...

يستكشف "علم نفس...

يستكشف "علم نفس صنع القرار" العمليات المعقدة الكامنة وراء الاختيارات البشرية، ويدمج النظريات من علم ...

حيث هدف البحث إ...

حيث هدف البحث إلى تحليل تطورات سعر الصرف في جمهورية مصر العربية في الفتره (۲۰۱۵): (۲۰۱۹) ، أثر تقلبا...