لخّصلي

< >أسبقية حقوق الإنسان على نشأة المعاهدات والمواثيق الدولية

إن تخصيص عصر من العصور الحديثة باعتباره عصر انبعاث العناية بحقوق الإنسان، أو تخصيص مكان بأنه التربة الخصبة التي أنبتتها؛ أمر مجانب للصواب، وذلك لعدة أمور، منها: أولاً : أن التحقيق يقتضي القول بأن نشأة حقوق الإنسان كانت مع الإنسان في عهدهالأول، فعندما خلق الله آدم أب البشر - عليه السلام - وأهبطه إلى الأرض؛ أوحى إليه بشريعة تنظم له ولعقبة أمور الحياة، ولا شك أن هذه الشريعة تضمنت أصولاً كلية في حفظ حق الإنسان، وإن كنا لا ندري تفصيلاتها، وإنما قلنا بذلك؛ لأن كل شرائع الأنبياء جاءت بحفظ الأصول الكلية، كالتوحيد والعدل والحرية والمساواة، والأخلاق الفاضلة، ثم سارت بعد ذلك الحضارات والثقافات المختلفة على العناية بهذا الأصل على اختلاف وتفاوتبينها .ثانياً : أن العناية بحقوق الإنسان أمر ضروري تقره الفطرة ، ويعرفه الإنسان بعقله؛ فلا يتصور غيابه عن عقلية الإنسان ، ثم ظهوره في زمان معيَّن أو مكان مخصص ، فكل المجتمعات تشترك في الإيمان بأنه لا يمكن قيام مجتمعات لا يكون للإنسان فيها حقوق ظاهرة مكفولة ، وإنما تختلف المجتمعات والحضارات والدول ، وتتفاوت في الأخذ بهذه الحقوق بقدر ما عندها من علم بآثار النبوة والوحي الذي يرشدها إلى هذه الحقوق ، ويلزمها بصيانتها ، أو يقدر إدراكها العقلي وتجاربها المصلحية ، كما هو الحال في المجتمعات التي لا تؤمن بالله ، ولا تهتدي بوحيه.ثالثاً: أسبقية الإسلام على المواثيق المعاصرة في تطبيق مبادئ حقوق الإنسان، فلا شك أن ظهور نجم الإسلام قد سبق بانتهاكات عظيمة لحقوق الإنسان في جانب الحياة، أو الأسرة، أو المرأة، أو الطفل، وقد تناقلت الحضارات المختلفة جزءاً منها، ومن ذلك ما حكاه القرآن عن قتل البنت في الجاهلية:وَإِذَا الْمَوْءُ دَةُ سُئِلَتْ ۸ بِأَي ذَنْبٍ قُتِلَت ٩} [سورة التكوير : ۸-۹]

وما حكاه عن قتل الأولاد خشية الفقر: (وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَقٌ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطَّئًا كَبِيرًا (۳۱) [سورة الإسراء : ۳۱] وما حكاه عن حرمان المرأة من الميراث، بل وجعلها ميراثاً: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهَا } [سورة النساء: ١٩] وكذا ما حكاه عن عضل الزوجة عن الزواج: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَجَهُنَّ } [سورة البقرة:۲۳۲] وغيرها من الانتهاكات التي أبطلها الإسلام، وأنزل بدلاً منها منظومة متكاملة من الحقوق، شرحها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، وأعلن في خطبة حجة الوداع معالم أساسية من الأصول الكلية للإسلام، فعدّد جملة من الحقوق العظيمة وبالغ في تحريمها، حتى إنه ليصح أن يقال: إنها أقدم وثيقة مكتوبة - بعد كتاب الله تعالى- لحقوق الإنسان، ثم قامت خلافة راشدة على منهاج النبوة، فالتزمت عملياً بالمنهج النبوي في حفظ الحقوق، فكان ظهور الإسلام أعظم مراحل تاريخ حقوق الإنسان، كما شهد بذلك مفكروالغرب أنفسهم.وإذا كانت هذه الحقوق في الإسلام مستمدة من الوحي، فمن الطبيعي حينها أن يكون الإسلام سابقاً للمواثيق الدولية المعاصرة في إقرار منظومة حقوق الإنسان قبل إعلان الغرب لها، فالغرب لم يتنبه لحقوق الإنسان إلا متأخرًا، ولم تأتِ الإعلانات الأممية للحقوق إلا بعد أن مرت بمراحل وتطوّرات طويلة، وبعد معاناة قاسية من المظالم والمذابح والانقسامات. وإذا كان إقرار حقوق الإنسان ليس أمراً حادثاً، بل هو أمر مرتبط بتاريخ البشرية، فإنَّ الذي استجد في العصر الحديث هو وجود دعوات دولية سعت لإيجاد اتفاق على حقوق للإنسان، وعملت على تحديد مفهوم هذه الحقوق وحفظها بقوانين معينة تلتزم جميع الدول بتنفيذها من خلال معاهدات واتفاقات دولية توقع عليها الدول، كما عملت هذه الدعواتعلى إيجاد لجان ومؤسسات وهيئات تتابع مجريات هذه الحقوق.

أسباب ظهور الدعوات الحديثة لحقوق الإنسانشهد العصر الحديث اهتماماً كبيراً بموضوع حقوق الإنسان، وأصبح أمراً ضرورياً يتفق الجميع على أهميته ويرجع هذا الاهتمام الكبير بحقوق الإنسان لأسباب، أبرزها: أولاً: الانتهاكات الضخمة لحقوق الإنسانعرفت البشرية صراعات مريرة على مدى العصور السالفة، وشهدت فظائع وويلاتلم يسبق لها مثيل في منتصف القرن العشرين أفضت إلى هلاك ملايين البشر في الحرب العالمية الثانية، كل ذلك دفع الناس إلى التفكير في إيجاد نظم تحميها من تكرار تلك الفظائع، وإلى استثمار التضحيات الجسيمة في سبيل إيجاد قانون إنساني عالمي لحقوق الإنسان.ثانياً: الاتفاقيات والمؤتمرات الدوليةكثرت المؤتمرات والاتفاقات الدولية التي تنعقد لأجل حقوق الإنسان عامة، أو لقضية خاصة معينة، وطبيعة هذه المؤتمرات تقتضي مشاركة عدد كبير من الدول وتكون توصياتها في كثير من الأحيان ملزمة بما يقوي الاهتمام بموضوع حقوقالإنسان.ثالثاً: الجمعيات والهيئات والمؤسسات المتخصصة في حقوق الإنسان: لقد نشطت في هذا العصر جمعيات كثيرة متخصصة في حفظ حقوق الإنسان، ونشر ثقافة الوعي به والدفاع عن حقوق المظلومين، بما ساهم في تقوية الوعي بهذه الثقافة، وأصبحت الجمعيات والهيئات موجودة في كل النظم السياسية المعاصرة.رابعاً: تطور الوسائل الإعلامية، والتقدم التقني لقد كان لثورة الاتصالات المرئية والمسموعة أثر بيّن في نشر ثقافة حقوق الإنسان، وتوسيع دائرة الاهتمام بها، وفي التنديد بالمخالفات الواقعة عليها، فصار ما تبثه وسائل الاتصال الحديثة من انتهاكات لحقوق الإنسان، وأنها غاية في حد ذاتها يجب وقف العدوان عليها.خامساً: المحاكم القضائية المتخصصة في حقوق الإنسانتم تكوين محاكم متخصصة تنظر في قضايا معينة متعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، مما كان له الأثر الكبير في الانتشار الواسع لحقوق الإنسان في العصرالحديث.

الهيئات والمنظمات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسانمما يؤسف له واقعاً أن صوت المناديين بحقوق الإنسان، والدفاع عنها من المنظور الوضعي الخاضع للفلسفة المادية الغربية، هو الأعلى مقارنة بصوت المنادين بحقوق الإنسان من المنظور الإسلامي، بل يكاد المنظور الوضعي يكون هو المنفرد مع على شفافية ومصداقية التقارير التي تصدر عن الكثير من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، ومن هذه المنظمات والهيئاتأولاً: الأمم المتحدة:التحفظالأمم المتحدة هي منظمة دولية نشأت عقب الحرب العالمية الثانية في عام ١٩٤٥م، وشارك في تأسيسها ٥١ بلداً، ويبلغ عدد أعضائها الأن ۱۹۳ دولة، وللأمم المتحدة حسب دستورها أربعة مقاصد رئيسة هي: حفظ السلام في جميع أنحاء العالم، وتطوير علاقات ودية بين الأمم ، ومساعدة الأمم على العمل معاً لتحسين حياة الفقراء، والتغلب على الجوع والمرض والأمية، وتشجع احترام حقوق الآخرين وحرياتهم، وأخيراً أن تكون مركزاً لتنسيق الإجراءات التي تتخذها الأمم من أجل تحقيق هذه المقاصد. وتستطيع منظمة الأمم المتحدة أن تتخذ إجراءات بشأن تعزيز وحماية حقوق الإنسان من خلال عدة وسائل أهمها: التوصيات التي تصدرها في هذا الشأن، والمتابعة المستمرة لحقوق الإنسان في العالم من خلال التقارير التي ترد إليها، وكذا من خلال عقدالمؤتمرات والندوات والحلقات الدراسية وعبر الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوقالإنسان، وحث الدول على الانضمام إليها.ثانياً: منظمة العفو الدوليةهي منظمة دولية غير حكومية مقرها ،لندن ويتمثل عملها في مجال حماية حقوقالإنسان فيما يأتي:١- السعي للإفراج عن سجناء الرأي، وهم أولئك الذين يعتقلون بسبب عقائدهم، أو لونهم، أو جنسهم، أو أصلهم العرقي، أو لغتهم، أو دينهم، شرط ألا يكونوا قد استخدموا العنف، أو دعوا إلى استخدامه.٢ - العمل من أجل إتاحة محاكمات عادلة وعاجلة لجميع السجناء السياسيين. إنكار ما يقع للسجناء من معاملة قاسية أو عقوبة مهينة، أو إجراءات غيرإنسانية. وجميعأعضاء هذه المنظمة متطوعون، يكونون فيما بينهم مجموعات داخل الدول لا تقل كل مجموعة عن خمسة أعضاء، ويمتد نشاط المنظمة ليشمل أغلب دول العالم، وتحظى تقاريرها بأهمية خاصة في المحافل الدولية، وباتت تشكل أحد عوامل الضغط على الحكومات من أجل احترام حقوق الإنسان.ثالثاً: منظمة العمل الدوليةأنشئت هذه المنظمة سنة ۱۹۱۹م مستقلة بذاتها ومنتسبة لعصبة الأمم، ثم أصبحت وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، ومقرها جنيف. ويقوم عمل هذهالمنظمة على موضوعات حرية الرأي والاجتماع، ومحاربة الفقر، والحق في العمل.وقد قامت المنظمة بإعداد مجموعة كبيرة من الاتفاقيات الدولية التي تمس حقوق الإنسان، وتلتزم الدول الأطراف في تلك الاتفاقيات بأن تقدم تقارير سنوية عن الإجراءات المتخذة لتطبيقها.تلك أبرز الهيئات الدولية، وثم هبا نهور كبير إلا أنها على مستوى إقليمي مثل: اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسـراء مجلس أوروبا، والمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، وكذا اللجنة الإفريقيه تسوق الإنسان والشعوب.

أبرز الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسانأولاً: الإعلان العالمي لحقوق الإنسانالإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو بيان للمبادئ يحظى بتأييد دولي. يقسم الإعلان حقوق الإنسان إلى نوعين:۱- حقوق تُخَوّل صاحبها نهج سلوك معين وتتمثل في الحقوق المدنيةوالسياسية في مواجهة الدولة، ويُعبَّر عنها بالجيل الأول لحقوق الإنسان.۲- حقوق تُخَوّل صاحبها الحق في اقتضاء خدمة أساسية من الدولة، وتتمثل في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهذا هو الجيل الثاني لحقوقالإنسان.فالنوع الأول من الحقوق كان يعطي الشخص حرية مدنية وسياسية من دون أن يكون هناك التزام سياسي من الدولة في تقديم حقوق معينة للمواطنين، وأما النوع الثاني من الحقوق فيلزم الدولة بجملة من الحقوق يجب عليها أن تقدمها للمواطنين.ولما كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا يملك قوة القانون، ولا يشكل معاهدة عكفت الأمم المتحدة إلى تحويل مبادئه إلى أحكام معاهدات واتفاقيات تشكل إلزاما قانونيا للدول المصدقة عليها، يلزمها تضمينها قانونها الوطني، واحترام وتفعيل ما جاء في بنودها.وأبرز هذه المعاهدات والاتفاقيات ما يأتي:أ- العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.ب العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافيةج-اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو غير الإنسانية أوالمهينة.د اتفاقية حقوق الطفل.ه- اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.

موقف الإسلام من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسانقاعدة الشريعة في الحكم على هذه الاتفاقيات هي قبول ما فيها من حق ومصلحة نافعة، ورفض ما فيها من ضرر وباطل، فالحقوق التي لا تعارض الشريعة مقبولة، ويجب على المسلمين أن يكونوا هم السباقين في تقريرها والدفاع عنها وصيانة حرماتها، وأما ما خالف الشريعة فإنه يجب التحفظ عليه، وعدم قبوله، وتقديم أسباب قوية واضحة تخاطب النظم السياسية والهيئات الحقوقية وعامة المتابعين من مثقفين وعوام، تشرح لهم منهج الإسلام في هذه الحقوق.وليس من شرط ما يكون موافقاً للشريعة أن تأتي الشريعة بالنص عليه، بل كل مصلحة ونفع للناس مما لا يخالف الشريعة فهو معتبر شرعاً، وهذه الاتفاقيات، وإن كان كثير من تفصيلاتها لم تأت به الشريعة نصاً، فإنها تعد مصالح وحقوقاً شرعية؛ لأنها لا تخالف الشريعة.وما في هذه المواثيق والاتفاقيات مما يخالف الشريعة هو من آثار اختلاف المرجعية التي تحكم الحقوق ، فالمسلم يرجع إلى مرجعية إلهية قائمة على وحي يرشد عقل الإنسان ويقوم نظره؛ ليستفيد من المصالح والمنافع في حدود ما نهت عنه الشريعة، بينما الحقوق في المواثيق الدولية قائمة على مرجعية بشرية يحكمها عقل محض يستند إلى الحق والقانون الطبيعي.