لخّصلي

إن ثمة مغزى بعيداً يكمن وراء المحتوى الظاهري للنص، فمقارعة الأقدار لا تكون إلا إذا كانت الأقدار قوية مستحكمة ، ومن ثم فلابد من مقارعة القدر على نحو ما تلاحظ ذلك المعنى ، في قصيدة أبي القاسم الشابي ( إرادة

الحياة ) :

إذا الشعب يوما أراد الحياة

ولأبد لليل أن ينجلي

فلابد أن يستجيب القدر

ولابد للقيد أن ينكسر

وغالبا ما نلاحظ . في الأدب عامة أن القدر هو مصدر شقاء الإنسان ، وعليه ألا يستسلم لذلك القضاء . ) وهي رؤية تتباين مع رؤية شعراء الأدب

الإسلامي ) .

فإذا كان ميزان عدالة الوجود دخله خلل بيد الإنسان ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) ، إلى حد يفقد الإنسان فيه إرادته وحريته فعليه أن يسترد حريته . بإرادة مضادة . ليمتلك وجوده ومصيره - كما فعل وفضلاً عن ذلك فإن ثمة فكرة أبناء الثورات العربية في الألفية الثالثة جوهرية في النص لابد من توكيدها لتستقيم دلالات النص ورموزه، وهي أن السد الذي يحجب ذلك القدر الهائل من (الماء) الذى يمتد ويتسع كالصحراء ، يختزن قوة كفعل ( الطوفان ) ، إنها قوة الحياة الهائلة الكامنة وراء (السد)، فالسد الذي يعزل المدينة عن الماء المخترن / طاقة الحياة ، إنما يهدف إلى إماتتها / حرمانها من الحياة .

إنَّ السد المذكور لا يفصح النص عن أغراضه ، أو الغرض الذي أقيم من أجله وعمن أقامه ، لكن النص يربط بين ( الطوفان والفجر ) ، وهما يتضمنان دلالة رمزية واضحة ، فالطوفان قوة التغيير الكامنة ، والفجر هو الحياة ، مقارنا بالليل النوم / غياب الحركة / السكون ) وهي دلالات تتفق مع دلالة (الموت)؛ بمعنى أن أهل المدينة (موتى) لأنهم عاجزون عن إحداث آية حركة ، أو جلبة أو ضوضاء ، إنهم أضأل شأناً من الحجر؛ لأن الحجر ، هنا، يمتلك الشعور / الوعى ، ومن ثم الإرادة والفعل . أما وصف المدينة بالبياض (المدينة البيضاء) فإنه يحتمل دلالة الموت المقترنة ببياض الكفن - أتذكر كفن أوراق الغرفة (۸) لأمل دنقل ؟ - ، فهى مدينة مكفنة / ميتة / عاجزة عن الفعل والحركة. وربما أحتمل البياض دلالة البراءة؛ فالبياض كثيراً ما يرمز إلى النقاء ، والخلو من الشر والفساد. ومن ثم فهو يميل إلى معنى الضحية البريئة، التي لا تستحق ما يحل بها من ظلم وأذى .

ومن هنا فإن الشاعر حين قرن الطوفان بالفجر، فإنه يؤكد الدلالة الايجابية لفعل الحجر المتمرد على حقارة الوجود وظلم الأقدار من خلال رؤيته الذاتية التي أقام عليها منظوره وعالمه الشعري
إن ثمة مستوى دلاليا عميقاً يكمن وراء معاناة الحجر) الذي قضى عليه بالانتظام القهرى فى جسد السد ، يمكن نلمسه في وعى ( الحجر ) حقيقته الوجودية المغيبة ، مقابل حركة الحياة خارج السد وفاعليتها ، إن إدراك الكائن قيمة وجوده بالتفاعل مع الآخرين، قد جعل (الحجر) يُدرك الفارق الجوهري بينه وبين الأشياء الأخرى، التي تمارس إرادتها بحرية لتعبر عن وجودها وإن جاءت بأفعال مجازية ، كالأرض التى ) ترشف ( الماء ، والماء الذي (يروى) الحدائق فيرفدها بالحياة، أو تلك التى تشعر بقيمتها بشعورها بحاجة الآخرين إليها ، كالرخام الذي يصنع منه تمثالاً ، أو الصخرة التي تكون بناء يأوي إلية الأحياء ، أو الدر الذي تتنافس فيه الحسناوات ، إنه مغزى الوجود ومبرره ، الذي يكمن في كون الكائن طرفاً في معادلة الوجود ، المغزى الذي يعبر عن تفاعل الإيرادات الذي يُشعر الكائن بجدوى وجوده ، وضرورته في الحياة عبر شعوره بأنه موجود لغاية كونية متداخلة بين الغائية للذات والغائية للآخر فالغائية) : نظرية تقول بإن كل شيء في الطبيعة موجه لغاية معينة) . إن قيمة الحياة لا تتحقق إلا في القدرة على التأثير في الحياة وإثارة اهتمام الآخرين . فالأشياء التى تتراءي أمام وعى (الحجر) تمثل مركز استقطاب وجودى ( الجمال والحكمة والمضاء ( مقابل غياب قدرته على أن يكون كذلك . وهذا ما عمق معاناته وشعوره المأساوى، الذي يكمن في عدم قدرته على إثارة اهتمام الآخرين ، وهو ما جعل وجوده ها مشياً فما من أحد يعبأ بوجوده المفرغ من أى جمال ، أو حكمة ، أو مضاء ، وهو مستوى من الوجود يحايث العدم . إنه يجهل غاية وجوده التى تستلزم أن يكون فاعلاً في بناء الحياة، لا عائقاً أمام ازدهار الحياة وإثرائها ، بأن يكون عنصرًا أو جزءًا من (سد) يحجب الحياة عن (المدينة) ، لقد قضي عليه أن يكون (حجراً) في (سد) حجري سخره الليل ليبقى (المدينة) غارقة فى موتها التاريخي نومها الكهفي . ولعل هذه واحدة من الدلالات المسكوت عنها ، التي يبوح بها النص على نحو خفي ، فقد كرة وجوده المجرد من الفاعلية والتأثير ، كما كره دوره السلبي، الذي جعلته الأقدار العمياء - على حد قول الشاعر نفسه -، عنصراً في فاعلية ظلامية ، كرسها ليل طويل خيم على المدينة البائسة بظلامه قرونا . إن وعي الشقاء بداية لاستيقاظ إرادة تجاوزه وتخطيه نحو عالم أسمى، وهذا يتطلب فعلاً جريئاً لا يخلو من مخاطر وتضحيات ، لأن الاستلاب إذا كان بلا ثمن ، فإن الحرية ثمنها باهظ وأليم ، وكذلك كان فعل الحجر المتمرد الذي لم يغير فعله وجوده هو فحسب ، وإنَّما غير وجود المدينة برمتها بانقشاع الليل واستيقاظ الفجر ، الذي صاحبة إنهيار السدّ ، واستيقاظ المدينة من نومها الأزلي ، على هدير الطوفان / الحياة المقموعة منذ قرون

إن الماء الطوفان يمثل حقلاً دلالياً ينطوى على دلالات عديدة متكافئة ومتضادة ، فقد يعنى الحياة والتطهير من الخطايا والآثام في الأساطير والحكايات الخرافية في التراث الإنساني وفي الأدب، ولذا فقد جاء الماء / الطوفان عامل بعث ، وتجدد للحياة نهاية الليل / الظلام / الموت ، مبشراً بولادة جديدة ، ذلك أن فتح الفجر أجفانه ، هو بداية حياة مشرقة وانطلاقة يقظة شاملة ، أيقظت الحياة وأهل المدينة من سُبات طويل، ولذا يمكننا القول: إن النص من خلال بنيته الرمزية ، هو سبر لدور الوعى والإرادة في اجتياز محنة الوجود وبؤسه ، واختراق لظلاميته بفعل التمرد والتضحية.