لخّصلي

النظام القضائي
القضاء في اللغة هو الحكم واإللزام، والقاضي معناه في اللغة القاطع لألمور
والفاصل للحكم. أما في االصطالح فالقضاء هو )الفصل بين الناس في الخصومات
للنزاع( والنظر في المسائل الشرعية كالزواج والطالق واإلرث
للتداعي وقطعاً
حسماً
وشؤون اليتامى واألرامل وما إليها.
القضاء عند العرب قبل اإلسالم:
إن اإلنسان لم يستغن عمن يفصل في قضاياه منذ وجوده على األرض، فقد
احتكم الناس إلى األعراف والقيم والعادات والتجارب السابقة. والعرب في جزيرتهم
قبل اإلسالم استفادوا من جملة قضايا في إصدار أحكامهم منها معتقداتهم الدينية
وعاداتهم وتجاربهم وبعض الخبرات التي أخذوها من دول الجوار. وكان لديهم أنواع
من القضاة فكانوا يحتكمون إلى الكهان والعرافين وشيوخ القبيلة وأهل الحل والعقد.
وفي الحواضر مثل مكة ويثرب نجح القرشيون في إرساء أعراف وقيم محددة كانت
تقوم مقام التشريعات، وأقاموا )دار الندوة( حيث يجتمع زعماؤهم للنظر في أمور
المجتمع ومنها فض المنازعات في مكة وما حولها.
ولعل أبرز ظاهرة قبيل اإلسالم هو )حلف الفضول( الذي عقده القرشيون
إلنصاف المظلوم من الظالم، والذي شهده النبي محمد صلى هللا عليه وسلم وامتدحه
بنجدة
ألنه كان يهدف إلى إنصاف الضعيف والفقير والغريب، وألزم أهل مكة جميعاً
المظلوم.
إال أن المجتمع الجاهلي ظل يعاني من مشاكل كثيرة فقد كانت عقوبة الجريمة
في المجتمع القبلي مثالً ال تقع على ذات المجرم فحسب بل تتعداه إلى جميع أفراد القبيلة
التي كانت متكافلة في السراء والضراء. ومن هنا كانت الحاجة ملحة إلى تشريع جديد
عادل يستند على قوة السلطة لتطبيقه على المجتمع وهذا ما قام به اإلسالم حين قرر أن
)ال تزر وازرة وزر أخرى( وإن المذنب وحده مسؤول عما ارتكبه.
القضاء في عهد الرسول صلى هللا علي وسلم والخلفاء الراشدين )رضي هللا عنهم(
)1 – 41هـ622/ – 661م(:
لعل أول ما يالح في فترة صدر اإلسالم أن عنصر الضبط والطاعة أعمق
مما كان عليه في المجتمع الجاهلي فلم يعد مقصوراً على نفوذ شيخ القبيلة وسلطانه،
بل تعداه إلى الشعور بما يُصطلح عليه )تقوى هللا( أي أن هللا تعالى يراقب عباده،
والشك أن هذا الشعور كان قويا العهد بالدين اإلسالمي. وقد تولى الرسول ً مع قرب
صلى هللا عليه وسلم أمر القضاء في المدينة المنورة وما حولها باإلضافة إلى سلطاته
األخرى، ويتبين ذلك من )الصحيفة( التي عقدها بين المهاجرين واألنصار واليهود
ومشركي المدينة، وقد جاء فيها: "وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو
شجار يخاف فساده فإن مرد ه إلى هللا عز وجل وإلى محمد رسول هللا". وبطبيعة الحال
60
فإن القرآن الكريم كان مصدر الرسول صلى هللا عليه وسلم في األحكام التي يصدرها،
باإلضافة إلى االجتهاد فيما لم يرد بها نص واضح في القرآن. وقد ث بت صلى هللا عليه
وسلم مبدأ "البَّينة على من ادعى واليمين على من أنكر". وكان يستشير بعض صحابته
قبل إعالنه للحكم.
وعندما دانت بعض المدن باإلسالم، أرسل الرسول صلى هللا عليه وسلم بعض
صحابته عماالً وكذلك يقومون باإلفتاء والقضاء في الوقت نفسه، ولعل أبرز مثل على
ذلك معاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن وسأله عند وداعه: "بما تقضي إن عرض لك
القضاء. قال: بما في كتاب هللا. قال فإن لم يكن في كتاب هللا، قال: بما قضى به الرسول
صلى هللا عليه وسلم قال: فإن لم يكن قال: أجتهد رأيي وال آلو. قال معاذ: فضرب على
صدري وقال: الحمد هلل الذي وفق رسول رسول هللا لما يرضي رسول هللا".
وفي زمن الخلفاء الراشدين رضوان هللا عليهم، أسند أبو بكر الصديق
11هـ632/م القضاء إلى ساعده األيمن عمر بن الخطاب، حيث قال عمر للخليفة: "أنا
أكفيك القضاء" في المدينة المنورة، ولكنه لم يتسمى بالقاضي ولم تقتصر مهامه على
القضاء. وقد استندت سياسة أبي بكر في القضاء على كتاب هللا وس نة نبيه ثم على
مشورة الصحابة وإجماعهم على الحكم المناسب ولم يحبذ االجتهاد.
أما الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب فقد شهد عهده توسع حدود الدولة
اإلسالمية باتساع نطاق الفتوحات اإلسالمية واعتناق غير العرب لإلسالم. وكان البد
أن يشهد عهده ظهور منصب القاضي بصفة رسمية وفصله عن الوالية. ومن هنا
استقل القضاء وبدأ الخليفة يعين القضاة بن فسه. كما اشتهر عمر بن الخطاب بنصائحه
لقضاته وأمرهم بالعدل، كما سمح لهم باالجتهاد في األحكام وضرورة التزام العدالة،
آخر لألحكام وهو )القياس(. وقد اشتهرت رسالته إلى قاضيه على
وأوضح كذلك أصالً
البصرة أبي موسى األشعري والتي أطلق عليها )دستور القضاء( حيث يقول ف يها:
بسم هللا الرحمن الرحيم
".. أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه ال ينفع
تكلم بحق ال نفاذ له. آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتى ال يطمع شريف في حيفك،
وال يخاف ضعيف من جورك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح
أو أحل حراما،ً وال يمنعك قضاء قضية ً ح ر
جائز بين المسلمين إال صلحا م حالالً
باألمس فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك، إن ترجع عنه إلى الحق، فإن الحق
قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم عندما يتلجلج في صدرك،
مما لم يبلغك في كتاب هللا وال في سنة النبي صلى هللا عليه وسلم، أعرف األمثال
واألشباه، وقس األمور عند ذلك، ثم أعمد إلى أحبها إلى هللا، وأشبهها بالحق فيما ترى،
أو بينة، أمد لينتهي إليه، فإن أحضر ب ينته أخذت له بحقه وإال
واجعل للمدعي حقاً غائباً
وجهت عله القضاء، فإن ذلك أتقى للشك، وأجلى للعمى وأبلغ في العذر. المسلمون
عدول بعضهم على بعض، إال جلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في
والء أو قرابة، فإن هللا قد تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات، ثم إياك والقلق
والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب هللا بها
األجر، ويحس بها الزخر، فإنه م ن يخلص بنيته فيما بينه وبين هللا تبارك وتعالى، ولو
61
على نفسه يكفه هللا ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم هللا منه خالف ذلك
هتك هللا ستره وأبدى فعله".
لقد أرسى الخليفة عمر بن الخطاب قواعد القضاء حين فصل القضاء عن
الوالية، وو سع من صالحيات القضاة في العمل باالجتهاد والقياس والمشورة. وكان
يأمر قضاته بعدم االستعجال في إصدار الحكم بقوله "ردوا الخصوم حتى يصطلحوا،
ذ فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن". كما كان يح ِرهم من الرشوة والحكم بالهوى.
على أنه لم تكن هناك دفاتر أو سجالت تد ون فيها القضايا ألن الحكم كان ينفذ إثر
صدوره.
ورغم أن منصب القضاء كان محترما،ً ولكن الكثير من الفقهاء كانوا يترددون
في قبوله تخوفاًمن مسؤوليته وتهيباًمن مغباته. وكان ألحاديث الرسول صلى هللا عليه
وسلم في خطورة مهمة القاضي أثرها في ذلك، فعن الرسول صلى هللا عليه وسلم أنه
قال "القضاة ثالثة فقاضيان في النار وقاضي في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل
عرف الحق فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل عرف الحق فجار في الحكم، ورجل
قضى على جهل فهما في النار". ولكن الرسول صلى هللا عليه وسلم قال في تبجيل
منصب القضاء: "إذا اجتهد القاضي فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر". فالرسول
صلى هللا عليه وسلم وصف مشقة هذا المنصب وحذ ر القاضي من الوقوع في الظلم
بسبب الخطأ.
وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان استمر منهج الخليفة عمر بن الخطاب في
فصل منصب القضاء عن اإلمارة، واحتف لنفسه بالقضاء في المدينة المنورة. وكان
يختار أغلب قضاة األمصار بنفسه. والمالح أن غالبية القضاة الذين ع ينهم عمر بن
الخطاب استمروا في عهدي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، والشك أن عهد
الخليفة علي بن أبي طالب شاهد على اهتمام الخليفة بأمور القضاء والتحري الدقيق في
اختيار القضاة حيث ال يعين إال من عرف بالعلم والتقوى. كما زاد من رواتبهم لكي ال
تؤثر أحوالهم المعيشية على أحكامهم. وللخليفة علي بن أبي طالب رسالة مشهورة إلى
واليه على مصر يوصيه فيها أن يختار للحكم بين الناس أفضل الناس ممن ال تضيق
به األمور وال تمحكه الخصوم وال يتمادى في الزلة، صبوراً صارماً في إيضاح الحكم.
لتقل حاجته إلى الناس.
وأن يمنحه راتباً جيداً
ويعد الخليفة علي بن أبي طالب أول من فرق بين الشهود، فكان يباعد بينهم
ويأخذ أقوال كل شاهد على حدة من أجل الوصول إلى الحقيقة.