لخّصلي

إن القراءة المتأنية لتاريخ مهنتي القضاء والمحاماة في مصر تكشف لنا واقع المجتمع القانوني في مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن تجعلنا ندرك المراحل التي مر بها المجتمع القانوني في مصر.
و إن قراءة تاريخ تعليم القانون في مصر لا يقل أهمية عن قراءة تاريخ المجتمع القانوني، فإذا كان تاريخ تعليم القانون يخبرنا بالتطورات التي حدثت خلال تلك الفترة منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الان فإنه و بالضرورة أيضاً، يدفعنا لأن نضع نصب أعيننا أهمية تطوير تعليم القانون.
و لا يمكن أبداً قراءة تاريخ تعليم القانون بمعزل عن قراءة تاريخ المجتمع القانوني في مصر، ذلك أن كل منهما يؤثر و يتأثر بالأخر.
و من بين الأبحاث الرائعة التي كتبت عن تاريخ مهنة المحاماة في مصر ذلك البحث الرائع الذي كتبته " د. أماني الطويل" ( بعنوان المحامون بين المهنة و السياسة دراسة في تاريخ النخبة المصرية – الطبعة الأولى 2007 – دار الشروق ) و الذي قامت فيه باستعراض تاريخ و تطور المجتمع المصري في بداية القرن العشرين مع التركيز على مهنتي القضاء و المحاماة ، حيث بدأت بحثها بالكتابة عن تحديث المجتمع المصري و نشأة مهنة المحاماة في مجتمعٍ كان يغلب عليه الطابع الزراعي حيث لعب ظهور التعليم و تطوره في تلك الفترة و ما سبقها على يد الرعيل الأول من المفكرين أمثال محمد عبده و رفاعة الطهطاوي و غيرهم من العلماء الأجانب الذين جاءوا إلى مصر مع الاحتلال الإنجليزي و الاحتلال الفرنسي ، والذين وضعوا اللبنة الأولى للتعليم بصفة عامة في مصر و التعليم القانوني بصفة خاصة .
فقد شهد التعليم في عصر الخديوي إسماعيل نقلة نوعية حيث تم وضع أول نظام تعليم مدني على يد علي باشا مبارك، وذلك بإحياء ديوان المدارس عام 1863.
و قد صاحب ذلك ظهور المدارس المتخصصة و العليا مثل مدرسة الحقوق التي أنشئت عام 1868 تحت مسمى مدرسة الإدارة و الألسن ثم سميت مدرسة الحقوق الخديوية العليا عام 1886 .
و قد استقبلت مدرسة الحقوق التلاميذ من المدارس الثانوية الحكومية و الأزهرية حتى عام 1893 ، بعد ذلك اقتصر القبول بها على المدارس الحكومية التايعة لنظارة المعارف دون المدارس الأزهرية كشرط للطالب الذي يريد أن يقيد بجداول المحامين أمام المحاكم الوطنية .
و قد ساهم ذلك في بلورة جيل جديد من المحامين ، تلقى تعليمه داخل المدارس الحكومية المدنية ، و الذين فيما بعد التحقوا بمدرسة الإدارة و الألسن و التي لاحقاً سميت بمدرسة الحقوق ، وقد كان أول عميد لها هو الدكتور " فيدال باشا " و هو عميد فرنسي ، و لقد كان لهذا الجيل الأول الفضل في وضع أسس مهنتي المحاماة و القضاء في مصر ، وهو ما ساهم في نشوء مجتمع قانوني قوي كان له الفضل ليس فقط في تأسيس مهنتي المحاماة و القضاء و لكن امتد أيضاً إلى إنشاء البرلمان المصري ، كذلك كان له الفضل في وضع التشريعات القانونية الهامة ، كما صاحب ذلك إنشاء المحاكم مثل ( محكمة مصر ) و التي كانت قمة الهرم القضائي أنذاك ، حتى تم إنشاء محكمة النقض و الإبرام لاحقاً .
و قد صاحب إنشاء دور المحاكم ظهور حركة قوية للترجمة القانونية ، حيث تم ترجمة مجموعة قوانين نابليون في ثلاثة مجلدات سنة 1866 بواسطة رفاعة الطهطاوي و عبدالله أبو السعود ، كما قام أخرون بترجمة قوانين الإجراءات الجنائية و العقوبات من الإيطالية و الفرنسية .
كما كان للبعثات الخارجية التي دشنها محمد علي للدراسة في أوروبا أثر بالغ في نقل العلوم القانونية من وروبا إلى مصر على يد رفاعة الطهطاوي و محمد عبده ثم لاحقاً على يد عبدالرازق السنهوري .
و قد كان لنوبار باشا ( وزير الحقانية ) دور بارز في إصلاح النظام القضائي ، حيثُ قام بإعداد تقرير مفصل عن القضاء و عن ضرورة إنشاء المحاكم المختلطة رفعه إلى الخديوي إسماعيل و لقى هذا التقرير معارضة في بادئ الأمر إلا أنه لاحقاً أستطاع الحصول على موافقة إنجلترا و ألمانيا و النمسا و إيطاليا و روسيا ، حيث تم عقد لجنة دولية في 28 أكتوبر عام 1869 للنظر في مشروع نوبار ، ولاحقاً أنضمت فرنسا و تمت الموفقة على إنشاء المحاكم المختلطة ، و قد كانت أحكام المحاكم ، ولقد كانت أحكام المحاكم الأجنبية قبل ظهور المحاكم المختلطة تصدر باللغات الأجنبية مثل الإنجليزية أو الفرنسية ، و لكن مع ظهور المحاكم المختلطة أصبحت الأحكام تكتب أيضاً باللغة العربية إلى جانب اللغة الأجنبية . و قد ساهم ذلك في نقل خبرات القضاة الأجانب إلى القضاة المصريين .
وقد تم إفتتاح الحاكم المختلطة في 28 يونيو عام 1875 ، ثم قامت فرنسا بتقديم تعديلات للإصلاح القضائي ، و قامت المحاكم المختلطة بتطبيق القوانين الفرنسية التي وضعها الأستاذ مونو ري و كانت عبارة عن ستة قوانين تستند إلى مجموعة قوانين نابليون بعد معالجتها لتتناسب مع الوضع الإجتماعي و الإقتصادي في مصر .
و في عام 1881 تم إفتتاح المحاكم الأهلية في عهد حسين فخري باشا ناظر الحقانية ، وقد ظل الإستعانة بخبرة القضاة الأجانب الذين عملوا في المحاكم المختلطة مثل " فاشير " النائب العمومي و " موريوندو" الإيطالي ، و قد تم إعداد مجموعة من القوانين الأهلية المنقولة عن القوانين التي كان يعمل بها أمام المحاكم المختلطة مع إجراء بعد التعديلات ، حتى انتظم العمل بالمحاكم الأهلية و أصبح في مصر عدد من المحاكم الابتدائية بالإضافة إلى محكمة الاستئناف ، ثم لاحقاً محكمة النقض و الإبرام