لخّصلي

بعد تولّي والدي الشیخ راشد مقالید الحكم في دبي، بدأ ُت معه أولى
زياراتي الخارجیة، حیث رافقته في زيارة إلى محمد رضا بھلوي شاه
ً
إيران، أو كما س ّمى نفسه لاحقا الإمبراطور، أو ملك الملوك
)شاھنشاه(، وعرشه ھو عرش الطاووس.

كنت في الحادية عشرة من عمري. لم أستوعب كثیرا ھذه العظمة أو ًُ
الھالة التي يفرضھا الملوك على أنفسھم لیمیزوا أنفسھم عن الرعیة، ِّ ّ
ولیغرسوا في شعوبھم الوھم بأنھم طبقة مصطفاة، ودماؤھم منتقاة، فابتعدوا عن شعوبھم حتى أبعدتھم.
لمأستوعبذلكإلاعندماحضر ُتفيعام1971الحف َلالذيأقامهملك الملوك نفسه للاحتفال بمرور 2500 عام على تأسیس الإمبراطورية
ًً
الفارسیة. 100 ملیون دولار تقريبا – وھو مبل ٌغ ضخ ٌم جدا في ذلك الوقت –
تم إنفاقھا على حفل أسطور ٍّي في مدينة برسبولیس الأثرية الإيرانیة.
دعي إلى الحفل الرؤساء والملوك من كل بقاع الأرض. غطّت 59 خیم ًة ُ
ً
أكثر من 160 فدانا، تتو ّسطھا ثلاث خی ٍم ملكیة ضخم ٍة في حديق ٍة لا مثیل
ً
لھا، ت ّم إنشاؤھا خصّیصا للحفل. أع َّد الطھاة الفرنسیون لنا صدور
طواويس، تناولناھا في أوا ٍن مصنوعة من خزف "لیموج"، وشربنا في
كؤوس بلّورية من كريستال "باكارا". آلاف الجنود ارتدوا الأزياء التاريخیة
الفارسیة لیر ِسخوا مظاھر الفخامة والأبھة الملكیة. ّ َّ
استمتع ُت بالحفل، واستمتع ُت بالعروض والتع ُّرف على الضیوف. شكّل لي ذلك الحف ُل الأسطور ُّي في سنّي الصغیرة وقف ًة مھ ّم ًة مع
ً
نفسي، ودرسا لن أنساه ما حییت. أكب ُر در ٍس ھو المقارنة بین طريقة
الشاه في الحكم وطريقتنا في دبي والإمارات، على اختلاف حجم البلدين. لقد شاھد ُت في الطريق عشرات القرى الإيرانیة الفقیرة والمتواضعة، التي لا توجد فیھا حتى الكھرباء، وشاھد ُت ھذا البذخ
الأسطوري؛ صورتان متناقضتان تجتمعان في المكان ذاته.
شاھد ُت لمح ًة عن أسلوب ملك الملوك، وابتعاده الشديد بحیاته وقصوره
الضخمة عن عموم شعبه. وكن ُت أشاھ ُد والدي يبدأ يومه في الصباح
الباكر بجولته الصباحیة مع الناس ومتابعة المشاريع بنفسه مع الع ّمال
والمھندسین، واستقباله عا ّمة الناس في مجلسه المفتوح وتناوله
ًً
غداءه الیومي مع ضیوفه، وقد خ َّصص لنفسه مكتبا متواضعا عند نقطة
جمارك خور دبي يطل على رصیف المرفأ كي يتمكن من مشاھدة ًً
النشاط في الخارج. وكان متواضعا ج ّدا في سلوكه لدرجة أن الزوار في المكتب كانوا يظنون أنه مجرد موظف، حتى إن مھندسي المشاريع كانوا يس ّمونه "الفورمن" )مراقب الع ّمال( من كثرة تردّده علیھم، ومتابعته
الیومیة لعملھم وأحوالھم. ھناك تناقض صارخ في الحیاتین.
ٍ
الحفل الأسطوري بمناسبة مرور 2500 عام على تأسیس الإمبراطورية الفارسیة | عام 1971
المُلك الله وحده، والعظمة الله وحده؛ هو ملك الملوك وهو الباقي والكلّ فان، ولا يدوم ملكٌ لمتكب ِّر، لأن الكبر الله وحده
بطبیعة الحال، كانت علاقة والدي مع الشاه جیدة، وزاره في مناسبات
عديدة. وقد عاد علینا ذلك بنفع كبیر؛ لكن المفارقة التي لم ت ِغب عن ً
فكري بعد الحفل ھي أنني لم أكن لأتخیّل أبدا الشیخ راشد يجل ُس
ً
على عرش طاووس ويضع تاجا على رأسه، لأنه أبعد ما يكون عن ذلك،
وھو أقرب للفطرة والبساطة، وأقرب للناس. نعم، السرّ في القرب من الناس، ھذا ھو أكبر درس.
تمنی ُت لو نظر الشاه حوله بقلیل من الحكمة؛ ففي آخر عشرين سنة،
ُ
ھوت عرو ٌش وأس ِقطت ملكیات ع ّدة من حوله؛ كنّا نخالھا مستقرّة؛ فقد
أزاح الجیش المصري الملك فاروق في العام 1952، وتم قتل الملك فیصل
في العراق بطريقة فظیعة مع مجموع ٍة من أفراد أسرته في العام 1958،
وتم خلع الإمام محمد البدر في الیمن عام 1962. وفي العام 1969 ُخ ِلع
الملك إدريس، ملك المملكة اللیبیة، في انقلاب عسكري قاده معمر
القذافي. تغیرا ٌت سريع ٌة مرّت بھا الشعوب لم ينتبه لھا "ملك الملوك"، ً
ًً
وتأيید الناس له، لأنه كان بعیدا عنھم، مشغولا بقصوره ومتابعة أسلوب
حیاته.
بعد ھذا الاحتفال الضخم بثماني سنین فقط، سقط "ملك الملوك" عن
عرش الطاووس باضطرابا ٍت وتظاھرات في بلده انتھت إلى ثورة ركبھا
ًّ ًًّ
الملالي وسموھا ثورة إسلامیة. غادر الشاه بلاده، لیحل ضیفا ثقیلا
على بعض الدول فیما رفضت العديد من الدول الأخرى – بما فیھا معظم دول أوروبا – استقباله، قبل أن ينتھي به المطاف في مصر.
ً
حتى الدول التي اجتاحتھا ثورات أصبح الثوار فیھا ملوكا بأثواب جديدة؛
ً
س ّموھا جمھوريات ولیست ملكیات، وشی َّدوا لأنفسھم فیھا قصورا
عظیم ًة، ابتعدوا فیھا عن شعوبھم، وجمعوا حول أنفسھم دوائر من
معتمدا على الدعم البريطاني والأمريكي له ولیس على دعم شعبه
الم ّداحین والمع ِظّمین لإنجازاتھم. ح ّدث ُتھم في عام 2004؛ قل ُت لھم: جئتم بثورا ٍت لشعوبكم، فأكملوا ثوراتكم في الاقتصاد والبناء والتعمیر وتوفیر الحیاة الكريمة لھم؛ أرجوكم تغی َّروا وإلا فسوف ُتغی َّرون، فقد رأي ُت ذلكمنقبل،وأعلم ُس َّنةالحیاةفيذلك.للأسفلميستمعوا،حتى غرقت دولھم في ثورا ٍت واضطرابا ٍت وفوضى لم تؤ ِدّ إلا إلى المزيد من الخراب. أين دولة الإمارات الیوم وأين ھذه الدول؟ وأين زايد وراشد في
القلوب وأين "ملك الملوك" وغیره في التاريخ؟
ھناك فرق جوھري بین طريقتنا في الحكم وبین ھذه الدول؛ اسمه القرب من الناس، والتواضع لھم، وخدمتھم، والعمل من أجل إسعادھم. وھذا ھو الفرق بین الازدھار والانھیار.
ال ُملك ? وحده، والعظمة ? وحده؛ ھو ملك الملوك وھو الباقي والك ّل
فان، ولا يدوم ملك لمتكبر، لأن الكبر ? وحده. وكما قال الشاعر: ٌ ِّ
أينالملو ُكذووالتیجانمنيم ٍن وأين منهــم أكاليــــــل وتیجــــــان؟
وأينماشادهش َّدا ُدفيإر ٍم
وأين ما ساسه في الفرس ساسان؟ ُ
وأين ما حازه قارون من ذھ ٍب وأين عــــــا ٌد وشـــدا ٌد وقحطان؟
يقال إ ّن ملوك الأرض أربعة؛ النمرود، وبختنصر، وذو القرنین، وسلیمان ً
وُيحكىأنرجلاًاعترضموكبمل ٍكلیكِلّمه،فمنعهالحراس.فصاحبه: أيھا الملك! إن نب َّي الله سلیمان استوقفته نمل ٌة، فوقف لیكلمھا؛ فما أنا عند الله بأحقر من نملة، وما أنت عند الله بأعز من سلیمان. فقفز الملك
من على حصانه وذھب إلیه وكلمه.