لخّصلي

النقد تحليل القطع الأدبية وتقدير ما لها من قيمة فنية . ولم تأخذ الكلمة هذا المعنى الاصطلاحي إلا منذ العصر العباسي ، أو قبل ذلك فكانت تستخدم بمعنى الذم والاستهجان. واستخدمها الصيارفة في تمييز الصحيح من الزائف فى الدراهم والدنانير ، ومنهم استعارها الباحثون في النصوص الأدبية ليدلوا بها على الملكة التي يستطيعوان بها معرفة الجيد من النصوص والردىء والجميل والقبيح وما تنتجه هذه الملكة في الأدب من ملاحظات وآراء وأحكام مختلفة .
وواضح أن الأدب يوجد أولا ، ثم يوجد نقده ، لسبب بسيط وهو أن النقد يتخذه موضوعاً له ، ومن هنا ينشأ الفرق البين بينهما ، فالأدب موضوعه الطبيعة والحياة الإنسانية ، والنقد موضوعه الأدب ، فهو فن مشتق من غيره ، أو متوقف على غيره ، إذ لا يوجد بدون أدب يشتق منه قواعده، ويسلط عليه مقاييسه ، ويصور فيه رضاه وسخطه.
من جهة ثانية . أما تاريخ الأدب فيتضح من كلمة و تاريخ و المقترنة به أنه جزء من التاريخ العام ، تاريخ حضارة الأمة ، غير أنه لا يؤرخ حياتها السياسية والاجتماعية ، إنما يؤرخ حياتها العقلية والشعورية .
ويتسع مدلول ( تاريخ الأدب ، عند الغربيين فشمل كل ما ينتجه العقل والشعور في ديارهم ، حتى لو لم يقصد به إلى الجمال الفني مثل الكيمياء والطبيعة ، ومن أجل ذلك كانوا يعنون في كتبهم التي تؤرخ للأدب بكل نتاجهم الحضارى وخاصة الفلسفة . ولعل في هذا ما يدل على أننا لم نضع بعد فى لغتنا كتاب : تاريخ الأدب العربي ، بهذا المعنى الواسع ، وهو ليس معنى غريباً عنا ، فقد كان العباسيون يفهمون الأدب هذا الفهم ، إذ كان فى رأيهم الأخذ من كل علم وفن بطرف .
على كل حال تاريخ الأدب غير النقد ، فالأول يتناول كل الآثار العقلية والشعورية عند الأمة متعقباً لها مع دورات التاريخ ، واضعاً كل أديب في مكانه أو مدرسته إذا كانت له مدرسة . أما النقد فلا يحاول هذا التاريخ الكبير، إذ حسبه أن يقف عند الأدباء وما صاغوه من آثار فنية ليحللها ويقومها ، مفسراً مواطن الجمال والقبح فيها ، ومستكشفاً مواضع القوة والضعف .
ومر بنا آنفاً أن النقد من لأن الناقد يقصد إلى الأداء الفني الجميل ، أما البلاغة فإلى أن تكون علماً أقرب منها إلى أن تكون فنا ، إذ تتناول مجموعة متفقاً عليها بين أهلها من القواعد والرسوم الشبيهة بالقواعد والرسوم العلمية ، أو هى فن ، ولكن لا على أنها من الفنون الجميلة ، وإنما على أنها من الفنون العملية النافعة . وهى من أجل ذلك قابلة لأن تصبح شيئاً غناً لا غناء فيه ولا منعة ، وخاصة حين تتحول إلى أعداد وأرقام كما هو معروف عن البلاغة العربية في عصورها المتأخرة .

كثيرا ما يحضرني مشهد ممتع ورائع يحيي حقي ( قنديل ام هاشم ) عندما يخبر الطبيب اهل الحي عن العلم و الطب و ان ما يفعلونه من التبرك و العلاج بضريح و زيت قناديل ام هاشم هو جهل مطبق فيلتفون حوله و يرمقونه بنظرة تملأها الغضب تارة و التكذيب تارة اخرى و العجز عن الرد لانهم جهالا لا يملكون الا الخرافات ثم فجأة بعد لحظات صمت يصيح احدهم من شدة عجزه عن محاورة الطبيب و يقول : مددددد يا ام العواجز مددد فيهتف الناس خلفه و يجد الطبيب نفسه وحيدا يعوم ضد التيار فلا هو حقق مراده من تطبيق العلم و لا رحم نفسه من بغضهم له .....
لقد كانت رواية «قنديل أم هاشم» جديدة في حينها كل الجدة، من حيث البساطة التي وسمتها، والموضوع الذي خاضت فيه موضحة كافة ظواهره، وملمة بكل جوانبه، مع الطبائع والأنماط البشرية في حي السيدة» وعموم المملكة المصرية آنذاك، والحل الإصلاحي الذي وضعته في ختام الأحداث، كل هذا يؤكد لنا أننا أمام عين راصدة لأديب نبيل، كان يتمتع بالثقافة والذكاء وفهم المجتمع الذي يعيش فيه والرغبة الصادقة في إصلاحه وحكاية قنديل أم هاشم) لا تبدأ من بطل القصة «إسماعيل»، بل من كاتبها «يحيى» الذي استعار اسم أخيه في رواية تضع أمامنا معالم شبابه، وتوضح فيم كان يفكر وكيف كان يفكر، وإلى أي شيء هداه تفكيره وبالطبع ليست هذه الرواية سيرة ذاتية للكاتب، ولكنها تحمل روحه وعقله، وتبين لنا كيف كان يعيش في حي «السيدة زينب» الذي ولد فيه عام (١٩٠٥م).
(قنديل أم هاشم تلك الرواية الصغيرة المبكرة، لم يسبقها في عالم الرواية العربية إلا (عبث الأقدار) لنجيب محفوظ، وهي الرواي التي خرجت إلى النور عام (۱۹۳۹م). والتي تبدو لنا الآن وكأنها إرهاصة لما سوف يلاقيه كاتبها من روايته الأشهر أولاد حارتنا، فقد اعترض البعض على العنوان فما كان من نجيب محفوظ إلا أن عدله جاعلاً إياه (عجب الأقدار). ويمكن تلخيص الرواية في أن صراعاً دار بين «إسماعيل» الشاب العائد من ألمانيا»، بعد أن درس هناك طب العيون وبين أهل منطقته الذين يعالجون مرضاهم بوضع زيت قنديل أم هاشم في أعينهم، مما يزيدها تلفاً ويصعب من علاجها ويضعفها كثيراً بل قد يصل بها إلى العمى الكامل
كان «إسماعيل» قبل مغادرته البلاد إلى ألمانيا يؤمن بالخرافات شأنه شأن كل أبناء الحي، وفي المقابل كان والده الذي يؤمن بالخرافات أيضاً يحلم بإدخاله كلية الطب ومراده من ذلك أن يحدث نوع من الحراك الاجتماعي) لتنتقل أسرته من خلال ولده الشاب إلى شريحة أعلى من الطبقة المتوسطة، وحين فشل الرجل في إدخال ابنه كلية الطب المصرية، قرر في عزم وتصميم على بلوغ الهدف أن يبيع فدان الأرض الذي يملكه ومحصوله الذي كان في انتظارالحصاد ليجمع ثمن تذكرة السفر، حتى يدرس ابنه الطب في أوروبا
وهكذا سافر «إسماعيل» إلى «ألمانيا» وعاد ليجد أمه تعالج حبيبته وبنت عمه فاطمة النبوية بزيت قنديل أم هاشم). والبعض لا يعرف من هي أم هاشم، برغم أنه شاهد الفيلم السينمائي المأخوذ عن الرواية مرات عدة على شاشة التلفزيون، ولهؤلاء نقول إن أم هاشم هي السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب التي يعتقد أن لها ضريحاً في القاهرة، وكان الناس يتبركون بزيت القنديل الذي يضيء مسجدها، ويعالجون به مرضاهم لاعتقادهم أن فيه البركة والشفاء ولما رأى الطبيب الشاب ما يحدث من التداوي بالزيت، وهو الأمر الذي لم يتعلمه في أوروبا أخذ ابنة عمه اليتيمة التي رباها والده، والتي كانت أسرته قد قررت أن يتزوجها عقب عودته من «ألمانيا، وجعل يفحص عينيها ليكتشف أن الزيت أتلفهما جداً، ويعلو صوت «إسماعيل» وهو يندد بما فعلته أمه، ويخبرها أن الزيت لا علاقة له بعلاج العيون، وأن بركة القنديل خرافة لا يقرها الدين

وهكذا تحمس «إسماعيل» لدور نضالي ضد الخرافة، وهو الدور الذي فرض عليه أن يواجه أهل منطقته كلهم بمن فيهم أسرته، وحين رأى الشاب نفسه محاصراً من الجميع، ورأى حماسته في رفض الخرافة» دون أي تأثير ولا تصل به إلى المطلوب بل إنها جعلته منبوذاً وأبعدته عن غايته في اجتذاب أهل الحي إلى «العيادة كما أبعدته عن «فاطمة» التي كان على مسافة خطوات يسيرة من الزواج بها، جلس مع نفسه ورتب أفكاره وأعاد حساباته، ثم قرر أن يتحلى بنوع من المرونة والدبلوماسية وأن يدخل مقر عيادته حاملاً زيت القنديل ليعلن أمام ناسه أنه ليس ضد (البركة)، وأنه مثلهم يؤمن بكرامات أم هاشم)، ليعيد أهل الحي علاقتهم به وتحدث حالة من الود والصفاء، ويتوافد الزبائن فيعالجهم بالعلم وحده، ثم يتزوج «فاطمةوينجب منها خمسة أولاد وست بنات
نحن هنا أمام يحيى حقى نفسه فالمعروف أنه عمل بالسلك الدبلوماسي المصري، وأنه سافر إلى الخارج ورأى الحضارة الغربية عن كتب وقبل هذا كله فإنه من أبناء منطقة السيدة زينب. وبذلك يضع أمامنا تجربته ورؤيته في رؤية عالمين عالم متحضر وتاب يحتل موقع الصدارة كل يوم باكتشافاته العلمية واختراعاته التقنية ودولة نامية بحاجة ماسة إلى رؤية إصلاحية منجزة ليتحقق نموها الذي تسعى إليه وهذه الرؤية الإصلاحية تكمن في إيمان المثقف بوطنه وعدم تعاليه على أهله وناسه، بل عليه أن يتعايش مع التقاليد والعادات، وأن يخاطب الناس بلغتهم وفي المقابل يزرع داخلهم بهدوء ودون أي تحد أو استفراز لقيمة الإقبال على العلم وتقدير جهود العلماء، وما كان هذا الأسلوب إلا انعكاساً الأخلاق الأديب (يحيى حقي) وهو المعروف بالهدوء والبساطة والتواضع الجم، وكان كل من يتعامل معه يصفه بأنه، طيب القلب حلو المعشر، وفي طبعه اللين والسماحة. وتطبيقاً لهذه الرؤية الإصلاحية عند (حقي). رأيناه يكتب العديد من المقالات التي يضع فيها الحل المناسب من وجهة نظره لأوجه القصور والخلل التي رأها في المجتمع، وكان في مقالاته ينفر من (الأستاذية) ويجعل من القارئ صديقاً له، فهو يمازحه ويحكي له ويشركه في الحديث بلفت نظره، ويستمر في مخاطبته بروحه اللطيفة مظهراً أقصى درجات الود
وبالطبع كانت رواية (قنديل أم هاشم التي حملت هدوء صاحبها ومرونته صيدا يقبل عليه مخرجو السينما، وهكذا أخرج لنا كمال عطية فيلماً يحمل اسم الرواية كما هو دون تعديل وكان السيناريو والحوار للكاتب (صبري موسى) رحمه الله، وظهر الفيلم على شاشات السينما عام (١٩٦٨م) وكان لا بد أن ينجح، فكاتب الرواية الأصلية هو أحد أهم رواد الثقافة المصرية والعربية وأبرز من كتبوا القصة القصيرة في تاريخ السرد العربي ومؤلف السيناريو هو الأديب الصاعد في ذلك الوقت صبري موسى أما أبطال الفيلم فهم شكري سرحان، سميرة أحمد عبد الوارث عسر، أمينة رزق، عزت العلايلي، سعد أردش، محمد توفيق ماجدة الخطيب والفنانة الألمانية م. كوليكوفسكي). ومن الواضح بالطبع أن بعض الأسماء المذكورة من أسباب نجاح أي فيلم، فإذا أضفت إلى ذلك متانة السيناريو والحوار وقوة أداء الممثلين، فإن مسألة نجاح الفيلم باتت أمراً طبيعياً.