لخّصلي

وتعتمد مراكز قياس الرأي العام على استطلاع آراء عينة ممثلة لجميع تباينات المجتمع ، لكي تكون نتائجها متوافقة مع وجهات نظر جميع المواطنين إلى أقصى درجة ممكنة . وعادة ما ينقسم قياس وجهات النظر تجاه إحدى القضايا إلى ثلاث أو إلى خمس فئات ( من الآراء أو وجهات النظر ) . ففي التقسيم الثلاثي ، تنقسم وجهات النظر إلى : موافق أو مُؤَيِّد ، بغضّ النظر عن درجة الموافقة أو التأييد ؛ ورافض أو معارض ، مع تباين درجات الرفض أو المعارضة ؛ ومحايد أو لا رأي له . وفي التقسيم الخماسي ، يتم الحديث عن خمس فئات للرأي أو لوجهة النظر هي : موافق أو مؤيد بشدة ، وموافق أو مؤيد ، ومحايد أو لا رأي له ، ورافض أو معارض ، ورافض أو معارض بشدة .
( ج ) تأثير الرأي العام في النظم السياسية
ثمة علاقة طردية بين درجة ديمقراطية النظام السياسي وتأثير الرأي العام ، حيث تتزايد درجة التأثير مع ارتفاع مستوى الديمقراطية . ومن الشائع في النظم الديمقراطية أن يهتم شاغلو المناصب السياسية باتجاهات الرأي العام ، والتي تتضح في نتائج استطلاعات الرأي التي تجريها مراكز قياس الرأي العام المستقلة والمحايدة . ومن ناحية أخرى ، تهتم النخب والأحزاب السياسية المعارضة بنتائج تلك الاستطلاعات ، لتعديل توجهاتها وبرامجها الانتخابية ، كي تتمكن من إقناع الأغلبية بتلك البرامج في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أو المحلية اللاحقة .
وثمة العديد من الحالات التي اضطلع الرأي العام خلالها بدور محوري في تبني قرارات أو في العدول عنها ، أو استقالة رؤساء جمهوريات أو رؤساء وزارات أو وزراء ، بسبب عدم رضا الرأي العام عن تصرف أو سلوك محدد . ومن أشهر الأمثلة تحول المسؤولين الأمريكيين من قرار عدم المشاركة في الحرب العالمية الثانية ، إلى المشاركة الفاعلة بعد الهجوم الياباني على الأسطول الأمريكي عام 1941 ، وتراجع تأييد الرأي العام الأمريكي للحرب في فيتنام بعد تزايد أعداد القتلى في صفوف القوات الأمريكية ، و اضطرار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة عام 1974 ، قبل عامين من انتهاء فترة رئاسته الثانية ، بسبب ضغوط الرأي العام الأمريكي فيما أُطْلِق عليها " فضيحة ووترجيت " .
ولا تعرف معظم النظم غير الديمقراطية المراكز المستقلة والمتخصصة في قياس اتجاهات الرأي العام ، كما هو الحال في النظم الديمقراطية . وفي حالة وجود بعض تلك المراكز ، فغالباً ما تكون مراكز حكومية أو خاضعة لإشراف جهات حكومية . ويندر أن يتم نشر نتائج استطلاعات الرأي العام التي تجريها مراكز حكومية أو شبه حكومية ، أو يتم نشر بعض النتائج التي يرغب النظام السياسي في نشرها ، وقد يحدث " تلاعب " في النتائج المنشورة ، بضغط أو تدخل من النظام السياسي ، بحيث لا تعبِّر عن النتائج الحقيقية ، بل عن النتائج التي يرغب النظام في نشرها على المواطنين . وفي حالة السماح بوجود مراكز مستقلة لقياس الرأي العام ، لا تستطيع هذه المراكز إجراء الاستطلاعات إلا بعد الحصول على موافقات من جهات حكومية متعددة ، وفي حالة الموافقة على إجراء الاستطلاع ، يجب الحصول على موافقات أخرى لنشر نتائج الاستطلاع على المواطنين .

ومع ذلك ، فقد شهدت العقود الأخيرة ارتفاعاً مضطرداً في قدرة الرأي العام على التأثير في جميع النظم السياسية ، ولاسيما في النظم غير الديمقراطية . فمن ناحية ، أدى النمو الحضري وانتشار التعليم ووسائل الإعلام الجماهيري غير الخاضعة لسيطرة النظم السياسية ، وغيرها من مؤشرات عملية التعبئة الاجتماعية إلى تعزيز الثقافة السياسية الداعمة للمشاركة والمعزِّزة للديمقراطية . ومن ناحية أخرى ، ترتَّب على الانتشار الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي ، لاسيما في العقدين الأخيرين ، تحول بعض هذه الوسائل إلى منصات للتعبير عن وجهات النظر المتباينة إزاء إحدى القضايا ، أي عن جوهر الرأي العام ، مع تراجع قدرة النظم السياسية على مراقبة هذه المنصات أو منعها .
ومن ثم ، لم تعد النخب السياسية الحاكمة في النظم غير الديمقراطية قادرة على توجيه الرأي العام الوجهة التي تريدها ، ويتراجع إلى حد كبير انتشار نمطي الثقافة السياسية المحدودة أو البدائية والرعوية أو المتوسطة ، في حين يزداد انتشار نمط الثقافة السياسية المشاركة ، المعزِّز لدور أكبر للرأي العام في صنع القرارات المحلية والخارجية . ويتزامن مع هذه التطورات تخفيف القيود على إنشاء مراكز غير حكومية لقياس الرأي العام ، وإجراء الاستطلاعات ، و نشر نتائجها ؛ الأمر الذي يسهم في تعزيز التحول نحو الديمقراطية .