لخّصلي

الناس في البلاد، فحرية الاعلام اذا مشكل سياسي بالدرجة الأولى ويبدو أن هذه المشكلة كانت قائمة بصفة حادة في أوربا حتى أواخر القرن التاسع عشر ونلمس هذه الحقيقة في الوضعية التي كان يعرفها الاعلام في أوربا قبل هذا التاريخ ولابد من الاشارة الى أن الاعلام في القرون التي سبقت القرن العشرين كان مقتصرا على وسيلة واحدة وهي الصحافة اذ الوسائل الأخرى مثل الراديو والتلفزة لم تظهر الا في الربع الثاني من القرن العشرين فحديثنا يدور اذا على وضعية الصحافة في أوربا قبل ظهور نظرية حرية الاعلام.
وضعية الصحافة في أوربا
كانت الطباعة عند اكتشافها في القرن السادس عشر تتمتع بنصيب من الحرية نظرا لحداثتها وصلاحيتها غير أنه سرعان ما أصبحت موضع تخوف من طرف الحكام نظرا لقدرتها على نشر أفكارا وأراء تتناقض أو تتعارض مع مع مصلحة الحكام فبادرت السلطات بإتخاذ اجراءات وتدابير تحدد نشاط هذه الوسيلة الجديدة ففرضت قوانين تعسفية لتفادي ما قد يقع وهذه القوانين الاحتياطية هي:

ضرورة الحصول على رخصة رسمية لانشاء دار الطباعة والنشر .
اقامة رقابة مشددة مسبقا على جميع المطبوعات والصحف - وضع قائمة من العقوبات تتراوح شدتها بين السجن والاعدام لكل من خالف الاجراءات.

وضع قوانين تحدد حرفة الناشر وتحدد الشروط المطلوبة للقيام بهذه
الحرفة.
وقد أقيمت هذه الاجراءات في البلدان الأروبية ثم الامريكية حسب الظروف الخاصة بكل بلد وفي أزمنة مختلفة ترتبط وتتصل بعضها ببعض نكتفي
بذكر ما وقع في انجلترا وفي فرنسا.
:انجلترا : تتمثل هذه الاجراءات فيما يعرف بقانون الرقابة (licensing) الذي وضع سنة 1662 والمعروف ان الرقابة كانت جارية المفعول في انجلترا قبل هذا التاريخ ولكنها كانت تشمل بعض الميادين من النشاط المطبعي فجاء هذا القانون ليفرض الرقابة على كل ما ينشر بدون استثناء بما في ذلك مداولات
البرلمان
و كان ذلك مساسا بحرية نشاط هذا المجلس وحذف هذا القانون في سنة 1695 نظرا للاحتجابات الكثيرة التي وقعت ضده غير ان الصحافة بقيت تخضع للرقابة وتتعرض لعراقيل مختلفة تضعف نشاطها وتمنعها من القيام بمهمتها مما جعل الصحافيين وبعض السياسيين يقومون بكفاح مرير وشاق ضد هذه القوانين في سبيل حرية الصحافة وقد تحقق جزء هام من مطالبهم عندما وافق الصحافة البرلمان سنة 1782 على قانون يدعى بقانون التحرر (Libel Act) يمنح مع ابقاء بعض الاجراءات التعسفية تتمثل في شيئين أساسيين وهما:
حريتها
J
1
تحديد دقيق للظروف والشروط الموجبة الحاق تهمة بالصحافي. 2 - وضع مكوس مرتفعة على كل نسخة مسحوبة من الجريدة وكان هذا الاجراء الاخير يمثل عقبة كبرى في تطور الصحافة اذ يثقل كاهلها بالمصاريف ويرغمها بذلك على رفع سعر بيعها وهذا من شأنه أن يقلل قراء الصحافة ولم تلغ هذه المكوس الا سنة 1853 وبذلك أصبحت الصحافة الانجليزية تتمتع بكل حريتها ووجدت الطريق أمامها مفتوحا لتطور سريع وقد استمر كفاحها لنيل هذه الحرية ما يقرب من ثلاثة قرون وكان هذا الكفاح مشكلة سياسية طغت على المجتمع الانجليزي طيلة هذه المدة.
في فرنسا كانت وضعية الصحافة في فرنسا مثل وضعيتها في النجليترا وكانت تجري بها اجراءات تعسفية شديدة كالرخصة والرقابة وفي سنة 1723 أشتد الأمر نظرا لضعف السلطة فاتخذت اجراءات أخرى قوية ووضع قانونا عاما كان يعرف بقانون المكتبة والمطبعة Code de la librairie) و مجموع بنوده تشكل عرقلة كبيرة أمام النشاط المطبعي بصفة عامة اذ فيه سلسلة من العقوبات تطبق على جنايات وهمية نذكر على سبيل المثال الحكم بالاعدام على كل من مقالا يكتب وينشر من شأنه ان يثير العقول»، واثارة العقول مفهوم عام يمكن ادراج كل شيء داخله.
وجاءت ثورة 1789 ولم تهتم بحرية الصحافة ولكنها وضعت المبادىء العامة لحماية الحرية العمومية وتمكنت الصحافة بذلك ان تخوض معركة طويلة لنيل حريتها وللتطبيق الفعلي للحريات العمومية التي جاءت بها الثورة الفرنسية كما هو معلوم بقيت حبرا على ورق وأحيانا ابطلت بعد سنوات قليلة
والتي هي
من اندلاع هذه الثورة وهكذا يمر شطر كبير من القرن التاسع عشر والأوساط السياسية والصحفية تطالب وتناضل من أجل حرية حقيقية وقد عرف هذا النضال انتصارات ونكسات عديدة ولم يؤت بثمرة الا في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر عند قيام الجمهورية الثالثة فوضع البرلمان سنة 1881 قانون حرية الصحافة la loi sur la liberté de la presse).
وبظهور هذا القانون دخلت فرنسا وصحافتها في عهد من الحرية التامة اعطى للصحافة بعثا قويا عرفت - سنوات قليلة بعد ذلك ــ بما يعرف بعهدها حيث تكاثر عدد الصحف والمجلات وتضخم عدد قرائها وتوسعت رقعة
الذهبي
انتشارها.
واننا نكتفي بما ذكرناه عن وضعية الصحافة في انجلترا وفي فرنسا لنشير إلى أن الوضع في البلدان الأوربية الأخرى كان شبيها بما ذكرناه أو اسوء مما ذكرناه وأن مطلب حرية الصحافة كان في جميع الأحوال مطلبا من المطالب السياسية وان تجسيم نظرية حرية الاعلام كانت تظهر شيئا فشيئا في الانتصارات التي كان يحققها هذا الكفاح السياسي.
وقد تمثل هذا الانتصار في بعض البنود التي ادخلت في دستور بعض البلدان وأول من فعل ذلك هو الولايات المتحدة عند بداية استقلالها اذ نجد أن البند 12 من التصريح بالحقوق لدولة فرجينيا الذي وضع سنة 1776 يقول: ان حرية الصحافة حصن منيع للحرية ولا يضطهدها الا الحكم المستبد...» وتقول المادة 11 من التصريح بالحقوق للثورة الفرنسية سنة 1789: «ان حرية أفكاره وأراءه حق نفيس للانسان كل مواطن يستطيع ان يتكلم ويكتب ويطبع بكل حرية ما لم يسمح به القانون ... وليست هذه التصريحات الا التزامات أو وعود كانت وليدة الظروف السياسية وساعدت على تبلور نظرية
التعبير عن
حرية الاعلام.
العامل الفلسفي:

2
كانت الفلسفة تربة خصبة لظهور نظرية حرية الاعلام وفي احضان الفلسفة وجدت الحرية ملجأ لها ومربيا نصوحا لنشاطها ولفطامها، وقد كان

لفائدة الحرية في المجتمع كما كان يطالب بذلك الفلاسفة والمعلوم ان النهضة الاقتصادية انطلقت من أراء ريكاردو الذي يقول ان حرية العمل le laisser) (faire - شرط أساسي للأزدهار النشاط الاقتصادي في المجتمع وان الحواجز والتدابير التي كانت تعرقل هذا النشاط يجب أن تلغى وأن تترك الفرصة لكل شخص يمارس نشاطه الاقتصادي بكل حرية حتى يقوي التنافس ويفوز الأفضل ويكثر الانتاج وتغمر الرفاهية كل فرد من المجتمع.
وقد بدأ الحكام يشعرون بهذه الضرورة ويرونها في مصلحتهم واقترنت حرية العمل بخرية التعبير وخصوصا بحرية الصحافة وقد أصبحت الصحافة في بداية القرن التاسع عشر بعد التطور التقني الذي عرفته الطباعة، ميدانا مزدهرا النشاط الاقتصادي ومجموع نشاطها يشكل جزءا هاما من النشاط الصناعي فصارت الصحافة ينظر اليها كنشاط صناعي وتجاري أكثر من كونها نشاطا سياسيا وثقافيا فأحتاجت بدورها، مع تطور الوضع السياسي، الى حرية النشاط وهكذا أصبحت الصحافة تتمتع بكامل حريتها في جزء كبير من أوربا قبل نهاية
من
القرن التاسع عشر واقترن تطورها السريع بالازدهار الاقتصادي.
وهكذا بفضل هذه العوامل الثلاثة التي ذكرناها وهي متداخلة ومتكاملة فيما بينها ظهرت نظرية حرية الاعلام وأصبحت أمرا واقعا له تبرير فيلسوف و دستوري وله ارتباط وثيق بالنشاط الاقتصادي وقد بنيت هذه النظرية على قواعد أساسية بسيطة لخصها الأستاذ بال في ثلاثة نقاط وهي:

1 - ان حرية الاعلام حرية شرعية خددها القانون ولا يمكن للآية مؤسسة اعلامية أن تتجاوز القانون ولا نشاط لها الا داخل الاطار القانوني فحرية الاعلام ليس معناها اذا الفوضى وانما هو نشاط منتظم يراعي الحدود القانونية. 2 - حرية الاعلام تقتضي أن يكون لكل مواطن الحق في انشاء صحيفة
الذي
و انشاء مؤسسة اعلامية وهذه المؤسسة تخضع للقانون العام والنظام الشرعي يتحكم فيها هو النظام الزجري (repressif لا النظام الاحتياطي كما كان من
قبل.

3 ـ ان الدولة لا تتدخل مباشرة في شؤون الصحافة وأن الاعانة التي تقدمها الدولة لهذا القطاع يجب أن توزع بكيفية تضمن للضعاف من المؤسسات
البقاء والاستمرار نظرا لكون المؤسسة الاعلامية عنصر ناشط يعمل للمصلحة العامة وبهذا يصبح الحكم القائم عونا للمؤسسة الاعلامية لا عدوا لها كما كان من قبل.
هذه القواعد الثلاثة قد تضمن للصحافة حريتها حسب هذه النظرية غير
المطلب
أنه يبدو اليوم أن هذه القواعد تضمن في الحقيقة حرية النشر فقط وهي الأساسي الذي قامت عليه النظرية قبل القرن التاسع عشر، أما بعد ذلك فقد تطورت الظروف وأظهرت ممارسة هذه الحرية عجزها أحيانا وأصبحت المطالب تتعدى حرية النشر وتؤكد على ضرورة اثبات الحق في الاعلام le droit a l'information وهذا الحق لابد أن يتمتع به الصحافي في جمع المعلومات والمواطن في الاطلاع على كل ما يجري في الوطن وفي العالم وقد لخصنا هذه المطالب في أربعة نقاط وهي: 1 - لا يجوز اخفاء المعلومات وخزنها بل يجب أن تسري بين الناس
حتى يطلع عليها الجميع.
2
للصحافي الحق في التقاط المعلومات في أي مكان كان ولا معنى
للحرية اذا كان هذا الحق غير مضمون.
—
3
للصحافي الحق في استعمال جميع طرق المواصلات بكل سهولة لا يصعب عليه نقل المعلومات وايصالها الى المواطن في أحسن الظروف وفي أقرب الأجال.
جميع
أنحاء البلاد.
4 - للصحافي الحق في اختيار الوسيلة الاعلامية التي يريدها وهذا معناه تعدد الصحف ووجودها في جميع والحقيقة أن هذه المطالب وان كانت أساسية فهي قاصرة عن اعطاء الحرية أبعادها في البلدان الغربية اذ ظروف ظهورها جعلتها تحمل في طيها بذور عجزها فلقد ربطت نفسها بالتطور الاقتصادي وأصبحت الصحافة والاعلام في الدول الغربية نشاطا تجاريا محضا وأصبح التنافس الذي كان من المفروض ان يضمن هذه الحرية خطرا عليها نظرا لكونه يعتمد على المال ورؤوس الأموال فنظرية حرية الاعلام لم تأخذ بعين الاعتبار محتوى الاعلام ولا مهمة الصحافي بل اعتنت بالمطبوع واعتبرته انتاجا تجاريا واهملت الى حد كبير الجانب الاعلامي والثقافي للنشاط الاعلامي (تيرو) وهذا العجز يظهر جليا عندما نتناول بالتحليل بعض القوانين التي وضعت في اطار حرية الاعلام.