لخّصلي

في تفسير القدّيس "يوحنّا الذّهبيّ الفمّ" لإنجيل الدّينونة الوارد لدى القدّيس متّى(25: 31-46)، يماهي المسيح ذاته، طوعيًّا، مع الفقير، والغريب، والمشرّد، والعريان، والملقى في السّجن، والمنهك. اتحاد الذّات بالفقراء كقضيّة، وكذا المرضى، والمضطهَدين، بدأ مع المسيح ومن هنا لا يمكن أن يُعزى لأيّة إيديولوجيّة كانت. الإمبراطور "يوليانوس" الجاحد يشهد أنّه في زمانه، أي في القرن الرّابع للميلاد، لم يكن المسيحيّون ليفرّقوا في توزيعهم الحسنات، بين المسيحيّين والوثنيّين. الكلّ كان، إذًا، موضوع محبّة واحدة. وهذا مؤسّس بشكل صريح على إنجيل الدّينونة الأخيرة، الّذي فيه يدين السّيّد كلّ الشّعوب، ويدعو كلّ الّذين أطعموا الجياع والمعوزين من كلّ نوع "مبارَكي أبي"(مت25: 34). على هذا نحن مدعوون للسّلوك في المحبّة الإنجيليّة تجاه الجميع(غلا6: 10). أيضًا في الرّسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي: "بَلْ كُلَّ حِينٍ اتَّبِعُوا الْخَيْرَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ وَلِلْجَمِيعِ"(1تس5: 15).
"الفكر الإنجيليّ" يضادّ العبوديّة والفقر والشّقاء. كما أنّ الإفخارستيّا تُنشىء الكنيسة، المحبّة تُعدُّ البشريّة بأكملها لأن تصير كنيسة الله.
منذ القرن الرّابع عشر، أخذ النّاس يشغفون بالاجتماعيّات. الاجتماعيّات لدينا مرتبطة بالرّعائيّات، أي بالمحبّة. من هنا أنّنا لا نستطيع أن نكوّن بشريّة حرّة فقط من خلال إصلاح البنى الاجتماعيّة والسّياسيّة فقط. كتب "بردياييف": لا معنى للوجود الإنسانيّ، سوى من خلال رفع كلّ أنواع استعباد الإنسان، والشّخص بإزاء العالم، والدّولة، والأمّة، والتّفكير المجرّد، والفكرة المجرّدة، واستعباد الكلّ داخليًّا لله.
إذًا، ما من حرّيّة بيننا وبين غير المؤمنين، وصولًا إلى التّعاون الاجتماعيّ، إلّا بروح الرّبّ خالق الحرّيّة. صحيح أنّنا كلّنا نحيا في وحدة مع الجنس البشريّ بأكمله، لكنّ السّبيل إلى هذه الوحدة لا ينحصر فقط في اجتماع الأمم البعيدة والقريبة. وإذا كان هذا الاجتماع ليتمّ من خلال ثورة ما، كما يقول لنا "بردياييف"، أيضًا فكلّ ثورة من هذا القبيل هي فاسدة.!. حتّى إنّ أيّة إعادة هيكليّة سلاميّة هي واهية بدون خضوع لله أو للقيم المسيحيّة. الوحدة، في أيّ مجال دينيّ، لكي تتحقّق، عليها أن تصبو إلى أن تكون وحدة داخليّة شخصيّة ملهمة من مثال روحيّ غير متطرّف، خالٍ من روح العصبيّة والعدائيّة.
"المحاولات الوحدويّة"، المنجزة في تلك المنطقة أو تلك، لا يمكنها أن تتحقّق فعليًّا خلوًا من روح السّلام والتّعاون بين الشّعوب كلّها مدموغةً بروح الحقّ، حتّى لو لم يكن ذلك مرتبطًا ارتباطًا مباشرًا بالإنجيل.
يتمّ ذلك لأنّ الكنيسة لا تفعل فقط في الهيكل الحجريّ، إذ ما من جدار فاصل بين المذبح والعالم. تبقى "الإفخارستيّا" إشارة إلى الزّمن المهّيء للمجيء الثّاني، والّذي يعمل خارج حدود المعبد. تذكّروا ما يقال في صلاة التّقدمة، حيث نتوجّه إلى الله بالقول: "نسجد لك في كلّ مواضع سيادتك". إذًا نور الله يشعّ في الخليقة غير المسيحيّة، وفي كلّ مجالات الفكر والفنّ، وحيثما يُكرز بالعدل.
في الكنيسة نعرف معنى الأمور وكلّ التّحوّلات الحقيقيّة والجميلة الّتي يقوم بها كلّ النّاس. الكنيسة تحبّ العالم بأسره مع بقائها حرّة من الجميع. ويمكنها أن تكون، في كلّ الحضارات، سابرة أعماقها، وتبقى حرّة من كلّ صِنْعَةٍ بشريّة. الكنيسة حرّة أيضًا من واقعها الاجتماعيّ، حرّة بإزاء الشّعوب الّتي تكوّنها، ومن بناهم الثّقافيّة. هذه الحرّيّة هي الّتي تجعل من الكنيسة "كَهَنُوتًا مُلُوكِيًّا، أُمَّةً مُقَدَّسَةً"(1بط2: 9)، إيقونةً للثّالوث القدّوس