لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (98%)

أصدرت الحكومة الإفرنسية في 11 أيلول - سبتمبر - 1914 القانون الذي اشتهر باسم (الظهير البربري) (1) أو (قانون ليوتي). ونصت المادة الأولى منه على ما يلي: (تبقى القبائل البربرية خاضعة في إدارتها لشرائعها وعاداتها وقوانينها الخاصة، ونصت المادة الثانية على أن (تختار السلطات الإفرنسية في الوقت ذاته لكل قبيلة ما يناسبها من القوانين والأنظمة). ولقد ظهر هذا القانون بعد مرحلة من الأبحاث والدراسات والممارسات، بدأت مع بداية الغزو الإفرنسي للجزائر، واستمرت حتى قيام الثورة الجزائرية الكبرى (1954)، غير أن السبب المباشر لظهوره هو التمرد المستمر لما كان يطلق عليه اسم (بلاد
المخزن) (1) وبصورة خاصة ما وقع في (خنيفرة) في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1914 حيث تصدى رجال المخزن لرتل من القوات الإفرنسية، وقتلوا من أفراده (613) جنديا، وكان الهدف الأساسي هو (تأكيد السياسة الاستعمارية وفقا لمبدأ: فرق تسد). وفي الحقيقة فقد أثار ظهور قانون (الظهير البربري) جدلا كبيرا، في كل أنحاء العالم الإسلامي وحاولت الإدارة الاستعمارية الإفرنسية بالمقابل والأجهزة الإعلامية التابعة لها وكتابها وباحثوها وأعوانها، التقليل من أصداء هذا القانون ونتائجه. غير أن ذلك كله لم يتمكن من حجب الحقيقة، وهي أن الإدارة الاستعمارية قد أرادت من خلال هذا القانون، التأكيد على ما تزعمه من أن: (الشعب المغربي ليس شعبا عربيا) وأن هناك فارقا مميزا بين (الشعب المغربي، وأن: (الشعب المغربي الذي لم يتم تعريبه بعد يجب توجيهه للتعامل مع الحضارة الإفرنسية، وعزله عن كل تأثير عربي). وأن (المغرب الذي بقي كتلة بربرية، لم يوثر فيها الإسلام إلا تأثيرا سطحيا وضعيفا، ولم تتوغل فيها العروبة إلا بصورة جزئية ومحدودة جدا، أن تمارس دورا من أجل تحقيق فائدة عظمى لفرنسا). وكانت هذه السياسة تستند إلى معطيات قديمة قائمة على وجود لهجة بربرية، يمكن الإفادة منها لخلق واقع جديد عن طريق تكوين عقيدة بربرية جديدة. أسرع من يطلقون على أنفسهم ألقاب (علماء الأجناس - أو العروق) لوضع (نظرية عرقية) تدعم السياسة الاستعمارية، فقالوا: (إن هذا العرق البربري، ينحدر مثلنا نحن - الأوروبيين - من العرق الآري، وهو عرق مميز بمجموعة من الخصائص التي تطبع بمسيمها معظم الإفرنسيين مثل: الصراحة والإخلاص والإحساس بأهمية الروابط الاقصادية، وغياب أو ضعف النزعات العدوانية! . فهذه الكتلة البربرية هي التي جعلت من أفريقيا أهراء - مستودعا - يمون روما بما كانت تحتاجه من الحبوب والغلال. فهناك حب الحرية، فالتقاليد البربرية قد جعلت من الإنسان البربري، يعشق حريته إلى أبعد الحدود، وهو على استعداد للقتال دفاعا عنها). ولقد جعلت هذه الحريات التي تتم ممارستها إجماعيا - كأسس ديمقراطية - وإفراديا - كمواطنين أحرار - جعلت من الصعب إخضاع البربر بالقوة وحدها. النظام الاستبدادي الجائر) الذي حاولت الإدارة الإفرنسية تطبيقه سنة 1884، فكان من نصيبه الفشل الذريع. ولقد مرت على ذلك سنوات، ويجب تهنئة البربر خاصة على ما أظهروه من عدم الاهتمام بالاضطرابات السياسية ومن إرادة صلبة. فالبربري لا يحلم، ولا بالاستقلال العربي. الديمقراطيون منهم والمحافظون على حد سواء. بقوا محتفظين بفضائلهم السياسية التي يعتمدونها لإظهار الأخطاء العربية. (فإن الجهود المستمرة طوال ثلاثة عشر قرنا، لم تتمكن من إدخال البربر في الإسلام. وضاعت كل الجهود في الهواء. وليس من قبيل التعصب القول بأن العرق البربري الصافي - النقي - لم يعتنق الإسلام، فهم لا يقيمون الصلاة أبدا. وأما الأعياد الدينية بالنسبة لهم، فهي ليست أكثر من مناسبات لإطلاق القنابل، ومن المؤكد أنها تعديل للأساليب الوحشية في التعبير عن الحرية. يمكن اعتبارها وسيلة ساذجة للدجل والخداع مما تمارسه الزوايا والمساجد، وهي وسيلة عرف البربر كيف يسخرون منها، وهنا يقع دهاقنة الاستعمار - من العلماء - في تناقضاتهم خ عندما يكتشفون: (بأن البربر يجنحون للتمسك بالدين، وليس ذلك إلا تعبيرا عن استعداد البربر لتبني أية ديانة من الديانات . ما من حاجة في الحقيقة للتوقف عند مثل هذه المقولات
وأشباهها ونظائرها مما سبق ذكره أو مما سيأتي عرضه، فالشواهد التاريخية المعروفة جدا، تدحض ما تتضمنه مثل هذه المقولات الخبيثة في نصوصها واللئيمة فى أهدافها، فمن المعروف أن جيش فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير قد ضم أعدادا فخمة من مسلمي العرب والبربر على حد سواء. وقد استمر المسلمون في رفع راية الجهاد في سبيل الله قرونا طويلة في بر الأندلس وبحره، ولم تكن جيوش المرابطين والموحدين ومن جاء بعدهم، حتى الغزو الصليبي للمغرب العربي الإسلامي (من الإسبانيين ثم الإفرنسيين) بما في ذلك جيش الأمير عبد القادر، إلا جيوشا إسلامية رفعت راية الإسلام لتضم تحتها ودونما تمييز وتفريق المجاهدين من المسلمين عربا وبربرا، وسواهم سواء بسواء ويؤكد ذلك وحده افتراء المزاعم الاستعمارية للتفريق بين العرب والبرر، والتمييز فيما بينهما على أساس عرقي - قومي. التوقف عند هذه المقولات التي سيصطدم بها كل باحث تاريخي عند التعرض لما أطلقوا عليه صفة (الأدب الاستعماري في الجزائر). ذلك لأنه لا بد لكل باحث من أن يذهل لأساليب التضليل التي اتبعت من أجل اختراع الأكاذيب التي تخدم أهداف الاستعمار، ثم تضخيم هذه الأكاذيب والترويج لها حتى ظهر وكأنها ذات صلة حقيقية بالواقع. وقد أمكن بذلك خلق ما أطلق عليه اسم (الأسطورة القبلية) أو (الأسطورة البربرية) والتي تم دعمها بأبحاث عرقية، وهي ليست في حقيقتها ذات صلة (بالعلم) إلا من وجهة
خدمة (الأقوياء البيض من الأوروبيين)، شأن كل الواجهات العلمية والتقنية التي تسخرها الدول العظمى حاليا للهيمنة على الشعوب المستضعفة. هو ألا يصدم القارىء عندما يقرأ في المراجع الاستعمارية إصطلاح (برابرتنا) لإبراز ذلك الرابط المشترك بين الإفرنسيين والبربر - على ما كان يزعم ضباط الاستعمار وكتابه والعاملون في إدارته، والمنفذون لما يخططه دهاقنته وقسسه ومفكروه. ومن ذلك قولهم: (يتشابه رجال قبائلنا في أفريقيا الشمالية مع رجالنا في إقليم - أوفيرن - (1) فهل يمكن التفريق بين البربري الأصيل ذو العرق الأبيض عن مواطن أوفيرن؟ إن أكثر هؤلاء البرابرة وحشية هم الأقل ممن اتصلوا بالحضارة الخارجية المستوردة. والرشاقة في التكوين والنحول مع الصدر البارز المقبب وهي كلها من الملامح التي يشتركون فيها مع مواطنينا في أوفيرن. ويتميز هؤلاء عن سواهم - حتى بين البربر - بخصائصهم المتفوقة
وهم أقل الناس تأثرا بالإسلام. لديهم كفاءة عالية في اختراع الحيل البسيطة. إنهم نموذج حقيقي للقيم الأخلاقية التي تتعارض بقوة مع القيم الإسلامية. وهكذا فإن الروح القديمة للبربر، هي ذات الروح القديمة لفلاحينا الإفرنسيين. إن حبهم للأرض هو الذي يوجه فضائلهم الحربية. لقد حرث - المسلمون - في المخزن كمن يحرث في البحر، وكان الموج دائما يعمل من ورائهم على إزالة ما يتم بناؤه على الرمال). وحتى يسهل على الاستعماريين الإفرنسيين إدارة هذه القبائل والهيمنة عليها، فقد حاولوا النفخ في بوق (ديموقراطية الشعب) لخلق خصائص مميزة بين قبائل المخزن وبين بقية مواطني الجزائر، وهو ما تبرزه المقولة التالية: (تظهر الديمرقراطية هنا - في الأطلس الأوسط - بكل أبعادها، فالشعب وحده هو القائد والشعب وحده هو الذي يتكلم، وحتى يفصل الاستعماريون بين رجال القبائل وبين الدين الإسلامي، وفقا لما تتضمنه المقولة التالية: (انحدر بربر الأطلس الأوسط من اليهود، تصورها المقولة التالية: (عداء البربر للشريعة القرآنية - الإسلامية - هو عداء ثابت، ويعتبر مميزا للعرق البربري؛ فالبربر جميعا لا يقبلون شريعة لهم إلا شريعة عاداتهم الوطنية، حتى أنه بالإمكان القول بأن البربر لا يخضعون للشرع إلا بقدر ما نخضعهم له بالقوة من أجل مساواتهم ببقية المسلمين . إن القانون الذي يحكم البربر هو قانون العرف، الذي ينسجم في كثير من الأحيان مع قوانيننا الإفرنسية بأكثر مما ينسجم مع القوانين الإسلامية. وإن من مصلحتنا جميعا استخدام عاداتهم المدنية من أجل إخضاعهم لسيطرتنا). لقد كانت السلطات الاستعمارية الإفرنسية تعرف تماما أن ما تطرحه من مقولات، وما تبذله من جهد في هذا المضمار، هو أمر يتناقض مع حقيقة الموقف في الجزائر المجاهدة، فبعد عقود من الجهد عبر سنوات الصراع الوحشي المرير، لإعادة تنظيم القضاء بهدف إضعاف الإسلام والمسلمين، ظهرت وثيقة في سنة 1930 تنص على ما يلي: (الإسلام بين هذه القبائل عميق الجذور جدا، وقد بقيت القبائل متعلقة بعاداتها المحلية في كل ما يتعلق بأمورها التي يحكمها القادة والشيوخ. وهم - أي رجال القبائل - يرجعون إلى القاضي للفصل في كل الأمور المتعلقة بأوضاعهم الشخصية). فإن السلطات الاستعمارية لم تيأس من إمكانية إبعاد المسلمين عن قواعدهم الصلبة، لتكوين (مسلمي الهوية) (1) مركزين الجهد على القبائل البررية في الأوسط الأطلسي (حيث تشكل القبائل في جبال جرجرة قلعة الاستقلال للناطقين باللغة البربرية. وحيث يمكن - أو يجب تحويل السكان في هذه المنطقة إلى فرنسيين لسانا وقلبا). عملت السلطات الإفرنسية على اختيار (قبائل الشلوح) (1) والزيانيين كأساس لتوحيد كتلة البربر وإعدادها لتكوين (جمهورية بربرية) تشمل القبائل البربرية في المغرب العربي الإسلامي، أعطيت التوصيات إلى رجال الاستعمار الإفرنسي بالجزائر: (من أجل منع الحديث باللغة العربية في وسط البربر - وتعليمهم كل شيء ما عدا العربية والإسلام). وكان يتم إعداد الضباط الإفرنسيين والإداريين المدنيين - من الإفرنسيين أيضا - في دورات تعليمية لتطبيق سياسة مستقلة خاصة بالقبائل. وكان في جملة التوجيهات الثابتة التي يلقونها على مسامع هؤلاء، ولا يتعبون من تكرارها باستمرار، يجب العمل من أجل إيقاف توغل الإسلام عميقا في نفوس أولئك الذين يعتنقون الإسلام ظاهريا - مسلمي الهوية - وعدم السماح لأولئك البربر بالتعريب عن طريق الشرع الإسلامي. وحرمان القضاة من ممارسة دورهم، كل ذلك مع دعم العادات الوطنية للبربر وبعثها. (فالسياسة الحقيقية للبربر تقوم على احترام عاداتهم وتنظيماتهم، وإحاطة هذه العادات والتنظيمات بإصلاحات نقوم بإدخالها إلى البلاد . والعمل قدر المستطاع بسرية لتعزيز الفوارق اللغوية والدينية والاجتماعية بين العرب من سكان السهول والبربر من سكان الجبال. والحد من اتصال القبائل البربرية بالسكان العرب ومن ثم، الاعتماد على هؤلاء البربر، لتشكيلهم بمرونة من أجل قبول الحضارة الإفرنسية، وإغرائهم بالمساعدات المادية الزهيدة). لم تسقط الحملة الصليبية من حسابها إمكانات تحويل مسلمي البربر إلى النصرانية، إكمالا لمخطط (فرق تسد) وإمعانا في دعم قاعدة الاستعمار. فكان الدين هو أحد وسائل السياسة البربرية التي وضعت النشاط الكاثوليكي في مقدمة وسائلها من أجل استثمار التأثير الجيد للمسيحيين المخلصين والمتحمسين لدينهم، ومن أجل تغطية سوءات الاستعمار بحجاب الأعمال الخيرية (للإخوات البيض) وما تبذله البعثات الفرانسيسكانية من جهد تعليمي وخيري. هذا بالإضافة إلى ما تبذله الهيئة (الأفريقية - الإفرنسية) من جهد في هذا المضمار (1) وكانت التوجيهات المعمول بها هي: (يجب استخدام القسس الأفاضل، بل من أجل الإيحاء بالثقة والصداقة واكتساب حب البربر. فالسياسة البربرية ذات أهمية كبرى، ويجب دعم المدارس والإرساليات العلمانية لاكساب محبة البربر عن طريق إظهار الطيبة وإقامة العلاقات الجيدة، ذهب بعض الكاثوليكيين إلى ما هو أبعد من ذلك: (فقد أرادوا إعادة البربر إلى الحظيرة المسيحية، بزعم إعادتهم إلى دين أجدادهم. وبزهم أنهم لا زالوا أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإسلام، ومن المقولات التي طرحت في هذا المجال: (يمكن غزو البربر، وإنما بالغزو المعنوي وسيكون الغزاة هم من رجال الإرساليات المسيحية - والمبشرين - الذين يتحدثون إلى هؤلاء - البربر - عن السيد المسيح، وعن تاريخ المسيحية الحافل بأسماء المنقذين، وبالكثير من الأشخاص الأسطوريين). ويظهر هدف المبشرين، وأعمال الإرساليات من خلال المقولة التالية:
لنفسح المجال أمام المسيحية حتى تمارس دورها في التأثير على نفوس البربر . وسيساعد ذلك دونما ريب على عزل العرب بطريقة فعالة جدا، مما يؤدي بالتالي إلى إبعاد المسلمين عن طريقنا في أفريقيا الشمالية. وسيكون ذلك لمصلحة حضارتنا ولفائدة عرقنا - الآري-). فيما ذهبت مقولة استعمارية إلى المطالبة: (بإطلاق كامل الحرية لإرساليات - التبشيرية - في تحركها وعملها حتى تستطيع الاضطلاع بواجباتها) وكان من هذه الواجبات: التبشير بفكرة شرب النبيذ والخمر الذي يثير في النفس البهجة والحبور حتى تحل المشروبات الروحية محل الشاي الأخضر والنعناع، وهي المشروبات التي كان البربر قد اعتادوا على شربها، واعتبار شرب النبيذ والخمر علامة مميزة لهؤلاء الذين سيعتنقون المسيحية. ومضاعفة عدد المدرسين عن طريق الاستعانة بالبربر الذين يرتدون عن دينهم الإسلامي ويصبحون مسيحيين. هذا إلى جانب مضاعفة أعداد الكنائس في (المغرب الكاثوليكي) من أجل الوصول إلى إعادة الفتح المسيحي الجديد للمغرب. يظهر من خلال ذلك أن إصدار قانون (الظهير البربري الأول) في 11 أيلول - سبتمبر 1914 لم يكن إلا تتويجا لمجموعة من الجهود الكثيفة والمركزة والتي بدأت مع البدايات الأولى لاستعمار الجزائر، غير أن المقاومات والثورات المستمرة قد شكلت عقبات كؤود في وجه المخططات الاستعمارية. حتى إذا ما جاء ليوتي إلى الجزائر في سنة 1914، ظن أن الفرصة باتت مناسبة للانتقال من مرحلة العمل السري - أو المتحفظ - إلى مرحلة العمل العلني. وقد تم على أثر إصدار قانون الظهير البربري، تكوين (هيئة للدراسات والأبحاث البربرية) في 9 كانون الثاني - يناير 1915 . وقد حددت مدينة (الرباط) مقرا لهذه الهيئة. وقد كشف تكوين هذه الهيئة وتنظيمها أنها لم تكن مجرد جهاز للأبحاث الاجتماعية. فقد تشكلت هذه الهيئة برئاسة الأمين العام للمحميات الإفرنسية. وضمت في عضويتها مدير شعبة الاستخبارات ورئيس المكتب السياسي لحاكم الجزائر (ليوتي) وكان واجب هذه الهيئة هو إعداد المخططات التطبيقية في مجالي السياسة والإدارة. وتحديد القبائل التي تنطبق عليها مواصفات (القبائل البربرية). وقد دمجت هذه الهيئة فيما بعد (بالمدرسة العربية العليا) والتي كان قد تم تأسيسها في الرباط سنة 1914. وأسندت إدارتها إلى (بربري) تم إعداده وتبنيه من قبل وتثقيفه للاضطلاع بهذه المهمة. وكان برنامج هذه المدرسة يتضمن إلقاء محاضرات وإعداد دورات لتطوير اللغة البربرية التي يسخدمها صغار الضباط والمترجمين، وتحولت المدرسة بسرعة إلى زمرة نشطة تحتل المرتبة الأولى في التخطيط لبرامج (البربر). لقد قيل عن الجنرال ليوتي - الحاكم العام للجزائر - عندما أعلن قانون (الظهير البربري) بأنه - أي ليوتي - يمارس سياسة ملونة ومضادة للبربر، وأنه يعمل مخلصا لقضية بناء المغرب الواحد - والموحد - وأنه أيضا يتخذ موقفا براغماتيا - ذرائعيا - بحيث أنه لا يضع حلا واحدا لأي مشكلة، وإنما لديه دائما مجموعة من الحلول. وقد وجد دونما ريب أن السياسة الإفرنسية التي كانت مطبقة قد أخطأت في تقديرها عندما بالغت في قضية (تكوين كتلة البربر) ومن أجل ذلك فإنه أخذ في وضع صيغ مختلفة مع تنويع في الأساليب المستخدمة حتى يصبح بالإمكان التكيف مع الظروف والمواقف المعقدة جدا في المغرب العربي - الإسلامي. غير أنه من المعروف عن (ليوتي) أيضا بأنه هو الذي أرغم الضباط على دراسة العلاقات الجدلية مع البربر. كما عمل - من الناحية الإدارية - على بعث المجالس البربرية. وظهرت أهداف سياسته بوضوح في رسالته إلى حكومة (باريس) يوم 6 تموز - يوليو 1915. وفيها: (أعتقد بأنه يجب علينا بعث العادات والمؤسات البربرية، ذلك لأن خصوصية الخيال تشكل أفضل وسيلة لإبراز التناقض أو التضاد مع الإسلام) وهناك أيضا التعميم الذي أصدره (ليوتي) ردا على رسالة أحد ضباط الاستخبارات، بشأن أحد الطلاب العرب الذي دخل المدرسة واستمر في ممارسة عبادته - الصلاة - فكان في تعميم ليوتي ما يلي:
هنا يجب أن تسير السياسة البربرية في الاتجاه المضاد، وعلينا تجنب تعليم اللغة العربية للسكان، والتي تربطهم بماضيهم دائما. إن العروبة هي عامل من عوامل انتشار الإسلام ذلك لأن اللغة العربية هي اللغة التي يعلمها القرآن. وتفرض علينا مصلحتنا تطوير البربر بعيدا عن إطار الإسلام. وعلينا من الناحية اللغوية نقل البربر مباشرة إلى الإفرنسية، ومن أجل ذلك فإننا في حاجة لمدرسين من البربر، كما يجب فتح مدارس فرنسية - بربرية يتم فيها تعليم الإفرنسية إلى أطفال البربر. وعلينا بعد ذلك التدخل بحذر على مستوى المخططات الدينية. فالإسلام غير مستقر في وسط البربر. وقد علمت من هؤلاء الذين احتفظوا باستقلالهم، أن فهمهم للإسلام لا زال سطحيا، وأن هؤلاء البربر قد رفضوا كافة الأحكام التشريعية - القضائية - واعتمدوا على العرف والعادة. وعلى كافة ضباطنا استيعاب هذه المبادىء: وعليهم أن يتجنبوا بصورة خاصة التعرض لذكر الإسلام أمام السكان البربر). تم وضع مخطط شامل يتضمن إقامة (مدرسة فرنسية - بربرية) و (تنظيم قضاء مدني بربري) و (تطوير الظهير البربري ودعمه بظهير جديد - أعلن في سنة 1930). لقد نص قانون الظهير البربري: (على ضرورة تشكيل مدارس إفرنسية - بربرية، وواجب هذه المدارس هو: (إسهام المدرسة البربرية في المحافظة على تقاليد البربر ومؤسساتهم. ومعارضة تأثير المدارس القرآنية - الإسلامية، وتوجيه البربر نحو فرنسا) بحيث يصبح من الطبيعي، أن يظهر بين البربر من يقول بعد زمن ليس ببعيد: (بأن أجدادنا هم المغول - أجداد الإفرنسيين). باللغة البربرية وبالأحرف اللاتينية، ثم الانتقال إلى التعليم باللغة الإفرنسية للقراءة والكتابة والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والصحة، واستبعاد تعليم اللغة البربية والقرآن وعلوم الدين، مع إجراء توجيه نحو الحياة العملية وخاصة الزراعة، والإفابة من حدائق المدارس لهذه الغاية. وتبقى اللغة الإفرنسية هي أساس التعليم كله في المدارس البربرية. تم في بداية شهر تشرين الأول - أكتوبر -1923، فتح (6) مدارس ابتدائية في (عيط سفوشن) ومدرستين في زيان، وبعد خمسة أشهر تم فتح (7) مدارس ضمت (200) طالب. وكانت كل مدرسة تضم على الأقل معلما واحدا مسيحيا من القبائل. وفي تشرين الأول - أكتوبر سنة 1924 عملت هيئة الدراسات العليا للمغرب، على تكليف المدرسين بإعداد برامج للبربر تعتمد على عادات البربر وتقاليدهم. واختيار مدرسين من القبائل لضمهم إلى صفوف جهاز التعليم. ومن أجل تجنب كل خطأ في هذه البدايات، فقد تم إعلام هؤلاء المدرسين (بأن هذه المدارس ليست مجرد مراكز تربوية وإنما هي تنظيمات سياسية وأجهزة دعائية. وعلى هذا يجب على المدرسين اعتبار أنفسهم عملاء ومتعاونين مع قادة المراكز. وعلى المدرسين الرجوع إلى هؤلاء القادة في كل مناسبة لتلقي توجيهاتهم). استمر العمل في السنوات التالية لتكوين المزيد من المدارس في كل حدود منطقة (الأطلس الأوسط)، فبلغ عدد المدارس في بداية سنة 1927 ست عشرة مدرسة فرنسية - بربرية ضمت (600) طالب. وبلغ عدد هذه المدارس في بداية سنة 1930 - ثلاثين مدرسة ضمت (700) طالب وحققت هذه المدارس التي أطلق عليها المسلمون اسم (مدارس الروم) ما أرادته السلطات الإفرنسية من إنشائها. ولم يعد (للمدرس الفقيه) دوره في التعليم وتدريس القرآن. وانتصر دوره في المسجد على تولي الدفاع ضد هذا الهجوم الشامل. وقد زعمت السلطات الاستعمارية بأن الضباط والطلاب البربر - المتخرجين من هذه المدارس، قد أكدوا أنهم متفوقون عقليا على أمثالهم من طلاب المدارس العربية الريفية. وظهر خلال هذه الفترة للسلطات الإفرنسية أن هناك حاجة لتكوين مدرسة عليا من أجل إعداد المدرسين حتى تصبح هذه المدارس (خالصة للبربر ويضطلع بها البربر ذاتهم) وحتى يتم (عزل الجيل وحمايته من كل تأثير عربي أو إسلامي) وقد تم تنظيم هذه المدرسة وإنشاؤها في (عزرو) في شهر تشرين الأول - أكتوبر 1927. وكان الحاكم العام للجزائر - الجنرال ليوتي - قد حدد منذ يوم 25 كانون الثاني - يناير 1924 أهداف هذه السياسة في رسالة له تضمنت ما يلي: ويجب المحافظة بحزم وثبات على الفوارق القائمة بين سكان بلاد المخزن من العرب، وبين سكان الجبال البربر والذين يجهلون العربية. وأعتقد أنه يجب الإشارة إلى تلك الأهمية التي أعلقها على هذه القضية التي ترتبط بعملنا السياسي والتي تعتبر نتيجة مباشرة من نتائح التهدئة المستمرة للبلاد ذات العادات البربرية). وتبقى الظاهرة الأكثر خطورة في (قانون الظهير البربري) هي ظاهرة إبعاد البربر عن القضاء الإسلامي (قضاء الشرع) وإخضاعهم لحكم (المحكمين). وكانت السلطات الإفرنسية قد أقامت منذ سنة 1857 في منطقة القبائل الكبرى ما أطلقت عليه اسم (الجمعة القضائية) واقتصر عملها في البداية على منطقة (القلعة الوطنية) وفقا لمرسوم 29 آب - أغسطس 1874. وفي 25 آب - أغسطس - 1880 كلف هذا المركز بإعداد النصوص القانونية للحكم والقضاء بما يتوافق مع القانون الإفرنسي. وقد تم تطوير (الجمعة القضائية) فأصبحت تضم كل السلطات الإدارية والسياسية في المنطقة (الدوار) بالإضافة إلى الصلاحيات القضائية . ومع صدور قانون الظهير البربري، تم في 22 أيلول - سبتمبر - 1915 إعادة تنظيم (الجمعة القضائية) فتقرر اعتماد اللغة الإفرنسية، وبدأ البحث في (مكتب دراسات القضايا البربرية - في مكناس) لإعداد النصوص القانونية التي تساعد (القضاة - المحكمين) على أداء عملهم. واستمر العمل حتى 8 آذار - مارس 1924 حيث صدر الأمر (بتسجيل العرف) الذي يتم الاعتماد عليه في القبائل الكبرى، مع الأخذ بعين الإعتبار عادات البربر وتقاليدهم. وكان الحكام الإفرنسيون هم الذين يشرفون على مجالس (الجمعة القضائية). وحددت صلاحيات المحكمين - من القادة - بالمخالفات والجنح التي تبلغ عقوبتها السجن لمدة سنة، والغرامة بمبلغ ألف فرنك فرنسي. وحتى السنتين والغرامة بألفي فرنك إذا ما اشترك في المحاكمة ممثل عن الحكومة الإفرنسية. فتقدم إلى (المجلس القبلي الأعلى) الذي يصدر بدوره أحكامه استنادا إلى التقاليد والعرف. وقد ظهر من خلال الممارسة العملية أن هناك تناقضا وتضادا في إصدار الأحكام، لا بين (أحكام الشرع الإسلامي) و (أحكام الجمعة القضائية) فحسب، وإنما أيضا بين الأحكام الصادرة في كل (جمعة قضائية) بسبب اختلاف (الأعراف والتقاليد والاجتهادات) ما بين جمعة وأخرى، غير أن السلطات الإفرنسية لم تجد في ذلك ما يثير الاهتمام، وهو ما عبرت عنه المقولة التالية: (ليس هناك أي خطر - أو محذور - في تحطيم وحدة التنظيم القضائي ضمن منطقة الحكم الإفرنسي، طالما أن الأمر يتعلق بدعم العنصر البربري. وطالما أن الأمر يتعلق بإيجاد ثقل معاكس يمكن له ممارسة دوره - ضد المسلمين - ولعل تحطيم المرآة الواحدة هو - من الناحية السياسية أمر مفيد جدا). فبلغ عدد محاكمها في الأول من كانون الثاني - يناير - 1929 ما يقارب (72) جمعة، ووصل عددها في سنة 1930 إلى (80) جمعة. وامتد حكمها ليشمل ثلث المناطق الإسلامية في المغرب العربي - الإسلامي، وبقيت (14) قبيلة أو بطنا وفخذا من القبائل والبطون والأفخاذ المصنفة، على أنها (بربرية) وعددها الإجمالي (84) قبيلة، غير خاضعة لأحكام (الجمعة القضائية). وكانت هذه النتيجة كافية لإقناع السلطات الإفرنسية بنجاحها في إمكان دعم الظهير البربري بظهير جديد (في سنة 1930) تمهيدا لإحلال الحكام والقضاة الإفرنسيين، وتطبيق القانون المدني الإفرنسي. تلك هي بعض ملامح ما أطلق عليه اسم (الظهير البربري) (1) وليس المجال هنا هو مجال تقويم نتائج هذا (الظهير) أو التعرض لما جابهه من مقاومة الإسلام والمسلمين من عرب وبربر على حد سواء، غير أنه من المهم هنا الإشارة إلى ما يتعرض له العالم العربي - الإسلامي من حملات معاصرة مختلفة في أساليبها وطرائقها، غير أنها تنطبق في أهدافها مع ما سبق عرضه.


النص الأصلي

أصدرت الحكومة الإفرنسية في 11 أيلول - سبتمبر - 1914 القانون الذي اشتهر باسم (الظهير البربري) (1) أو (قانون ليوتي). ونصت المادة الأولى منه على ما يلي: (تبقى القبائل البربرية خاضعة في إدارتها لشرائعها وعاداتها وقوانينها الخاصة، تحت رقابة السلطات الإفرنسية). ونصت المادة الثانية على أن (تختار السلطات الإفرنسية في الوقت ذاته لكل قبيلة ما يناسبها من القوانين والأنظمة).
ولقد ظهر هذا القانون بعد مرحلة من الأبحاث والدراسات والممارسات، بدأت مع بداية الغزو الإفرنسي للجزائر، واستمرت حتى قيام الثورة الجزائرية الكبرى (1954)، غير أن السبب المباشر لظهوره هو التمرد المستمر لما كان يطلق عليه اسم (بلاد
المخزن) (1) وبصورة خاصة ما وقع في (خنيفرة) في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1914 حيث تصدى رجال المخزن لرتل من القوات الإفرنسية، وقتلوا من أفراده (613) جنديا، وجرحوا (1187) جنديا، وكان الهدف الأساسي هو (تأكيد السياسة الاستعمارية وفقا لمبدأ: فرق تسد).
وفي الحقيقة فقد أثار ظهور قانون (الظهير البربري) جدلا كبيرا، وحوارا حادا، في كل أنحاء العالم الإسلامي وحاولت الإدارة الاستعمارية الإفرنسية بالمقابل والأجهزة الإعلامية التابعة لها وكتابها وباحثوها وأعوانها، التقليل من أصداء هذا القانون ونتائجه.
غير أن ذلك كله لم يتمكن من حجب الحقيقة، وهي أن الإدارة الاستعمارية قد أرادت من خلال هذا القانون، وتطبيقاته، التأكيد على ما تزعمه من أن: (الشعب المغربي ليس شعبا عربيا) وأن هناك فارقا مميزا بين (الشعب المغربي، والكتلة البربرية).
وأن: (الشعب المغربي الذي لم يتم تعريبه بعد يجب توجيهه للتعامل مع الحضارة الإفرنسية، وعزله عن كل تأثير عربي). وأن (المغرب الذي بقي كتلة بربرية، لم يوثر فيها الإسلام إلا تأثيرا سطحيا وضعيفا، ولم تتوغل فيها العروبة إلا بصورة جزئية ومحدودة جدا، هي كتلة يمكن لها، ويجب لها، أن تمارس دورا من أجل تحقيق فائدة عظمى لفرنسا). وكانت هذه السياسة تستند إلى معطيات قديمة قائمة على وجود لهجة بربرية، يمكن الإفادة منها لخلق واقع جديد عن طريق تكوين عقيدة بربرية جديدة.
أسرع من يطلقون على أنفسهم ألقاب (علماء الأجناس - أو العروق) لوضع (نظرية عرقية) تدعم السياسة الاستعمارية، فقالوا: (إن هذا العرق البربري، ينحدر مثلنا نحن - الأوروبيين - من العرق الآري، وهو عرق مميز بمجموعة من الخصائص التي تطبع بمسيمها معظم الإفرنسيين مثل: الصراحة والإخلاص والإحساس بأهمية الروابط الاقصادية، وغياب أو ضعف النزعات العدوانية! ... والكفاءة المتوارثة في العمل، فهذه الكتلة البربرية هي التي جعلت من أفريقيا أهراء - مستودعا - يمون روما بما كانت تحتاجه من الحبوب والغلال. وأخيرا، فهناك حب الحرية، فالتقاليد البربرية قد جعلت من الإنسان البربري، رجلا حرا، يعشق حريته إلى أبعد الحدود، وهو على استعداد للقتال دفاعا عنها).
ولقد جعلت هذه الحريات التي تتم ممارستها إجماعيا - كأسس ديمقراطية - وإفراديا - كمواطنين أحرار - جعلت من الصعب إخضاع البربر بالقوة وحدها. وهذا ما يؤكده. النظام الاستبدادي الجائر) الذي حاولت الإدارة الإفرنسية تطبيقه سنة 1884، فكان من نصيبه الفشل الذريع. ولقد مرت على ذلك سنوات، ويجب تهنئة البربر خاصة على ما أظهروه من عدم الاهتمام بالاضطرابات السياسية ومن إرادة صلبة. فالبربري لا يحلم، لا ببرلمان، ولا بالاستقلال العربي. ويظهر أن البربر، الديمقراطيون منهم والمحافظون على حد سواء. بقوا محتفظين بفضائلهم السياسية التي يعتمدونها لإظهار الأخطاء العربية.
أما بالنسبة للعقيدة؛ (فإن الجهود المستمرة طوال ثلاثة عشر قرنا، لم تتمكن من إدخال البربر في الإسلام. وضاعت كل الجهود في الهواء. وليس من قبيل التعصب القول بأن العرق البربري الصافي - النقي - لم يعتنق الإسلام، أو يمارس عباداته. فهم لا يقيمون الصلاة أبدا. وأما الأعياد الدينية بالنسبة لهم، فهي ليست أكثر من مناسبات لإطلاق القنابل، ومن المؤكد أنها تعديل للأساليب الوحشية في التعبير عن الحرية. وهي، في بعض الأحيان، يمكن اعتبارها وسيلة ساذجة للدجل والخداع مما تمارسه الزوايا والمساجد، وهي وسيلة عرف البربر كيف يسخرون منها، لا سيما وأن المعجزات التي ينتظرونها لم تحدث أبدا. وهنا يقع دهاقنة الاستعمار - من العلماء - في تناقضاتهم خ عندما يكتشفون: (بأن البربر يجنحون للتمسك بالدين، وبالإسلام خاصة، وليس ذلك إلا تعبيرا عن استعداد البربر لتبني أية ديانة من الديانات ...).
ما من حاجة في الحقيقة للتوقف عند مثل هذه المقولات
وأشباهها ونظائرها مما سبق ذكره أو مما سيأتي عرضه، فالشواهد التاريخية المعروفة جدا، تدحض ما تتضمنه مثل هذه المقولات الخبيثة في نصوصها واللئيمة فى أهدافها، فمن المعروف أن جيش فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير قد ضم أعدادا فخمة من مسلمي العرب والبربر على حد سواء. وقد استمر المسلمون في رفع راية الجهاد في سبيل الله قرونا طويلة في بر الأندلس وبحره، وفي المغرب العربي الإسلامي ذاته، ولم تكن جيوش المرابطين والموحدين ومن جاء بعدهم، حتى الغزو الصليبي للمغرب العربي الإسلامي (من الإسبانيين ثم الإفرنسيين) بما في ذلك جيش الأمير عبد القادر، إلا جيوشا إسلامية رفعت راية الإسلام لتضم تحتها ودونما تمييز وتفريق المجاهدين من المسلمين عربا وبربرا، وسواهم سواء بسواء ويؤكد ذلك وحده افتراء المزاعم الاستعمارية للتفريق بين العرب والبرر، والتمييز فيما بينهما على أساس عرقي - قومي.
غير أنه من المفيد في كل الأحوال، التوقف عند هذه المقولات التي سيصطدم بها كل باحث تاريخي عند التعرض لما أطلقوا عليه صفة (الأدب الاستعماري في الجزائر). ذلك لأنه لا بد لكل باحث من أن يذهل لأساليب التضليل التي اتبعت من أجل اختراع الأكاذيب التي تخدم أهداف الاستعمار، ثم تضخيم هذه الأكاذيب والترويج لها حتى ظهر وكأنها ذات صلة حقيقية بالواقع. وقد أمكن بذلك خلق ما أطلق عليه اسم (الأسطورة القبلية) أو (الأسطورة البربرية) والتي تم دعمها بأبحاث عرقية، قيل أنها علمية، وهي ليست في حقيقتها ذات صلة (بالعلم) إلا من وجهة
خدمة (الأقوياء البيض من الأوروبيين)، والإسهام في ضمان مصالحهم؛ شأن كل الواجهات العلمية والتقنية التي تسخرها الدول العظمى حاليا للهيمنة على الشعوب المستضعفة.
المهم في الأمر، هو ألا يصدم القارىء عندما يقرأ في المراجع الاستعمارية إصطلاح (برابرتنا) لإبراز ذلك الرابط المشترك بين الإفرنسيين والبربر - على ما كان يزعم ضباط الاستعمار وكتابه والعاملون في إدارته، والمنفذون لما يخططه دهاقنته وقسسه ومفكروه.
ومن ذلك قولهم: (يتشابه رجال قبائلنا في أفريقيا الشمالية مع رجالنا في إقليم - أوفيرن - (1) فهل يمكن التفريق بين البربري الأصيل ذو العرق الأبيض عن مواطن أوفيرن؟ إن أكثر هؤلاء البرابرة وحشية هم الأقل ممن اتصلوا بالحضارة الخارجية المستوردة. إنهم مميزون بطول القامة، والبياض الناصع للبشرة، والرشاقة في التكوين والنحول مع الصدر البارز المقبب وهي كلها من الملامح التي يشتركون فيها مع مواطنينا في أوفيرن.
ويتميز هؤلاء عن سواهم - حتى بين البربر - بخصائصهم المتفوقة
فيزيولوجيا، وهم أقل الناس تأثرا بالإسلام. هؤلاء الفلاحون الطيبون، ذوو الطباع الخشنة، لديهم كفاءة عالية في اختراع الحيل البسيطة. إنهم نموذج حقيقي للقيم الأخلاقية التي تتعارض بقوة مع القيم الإسلامية. وهكذا فإن الروح القديمة للبربر، هي ذات الروح القديمة لفلاحينا الإفرنسيين. إن حبهم للأرض هو الذي يوجه فضائلهم الحربية. لقد حرث - المسلمون - في المخزن كمن يحرث في البحر، وكان الموج دائما يعمل من ورائهم على إزالة ما يتم بناؤه على الرمال).
وحتى يسهل على الاستعماريين الإفرنسيين إدارة هذه القبائل والهيمنة عليها، فقد حاولوا النفخ في بوق (ديموقراطية الشعب) لخلق خصائص مميزة بين قبائل المخزن وبين بقية مواطني الجزائر، وهو ما تبرزه المقولة التالية: (تظهر الديمرقراطية هنا - في الأطلس الأوسط - بكل أبعادها، فالشعب وحده هو القائد والشعب وحده هو الذي يتكلم، والشعب وحده هو الذي يغني). وحتى يفصل الاستعماريون بين رجال القبائل وبين الدين الإسلامي، فقد زعموا مرة أن أصول هؤلاء آرية، وزعموا مرة أخرى، أنهم من أصل روماني، وفي مرة ثالثة زعموا أنهم من أصل يهودي، وفقا لما تتضمنه المقولة التالية: (انحدر بربر الأطلس الأوسط من اليهود، ثم انتقلوا إلى الإسلام).
وفي إطار هذه الحرب الصليبية، طرحت مقولات، ونظريات، لا نهاية لها، تصورها المقولة التالية: (عداء البربر للشريعة القرآنية - الإسلامية - هو عداء ثابت، ويعتبر مميزا للعرق البربري؛ البعيد عن الإسلام أو المعادي له، فالبربر جميعا لا يقبلون شريعة لهم إلا شريعة عاداتهم الوطنية، حتى أنه بالإمكان القول بأن البربر لا يخضعون للشرع إلا بقدر ما نخضعهم له بالقوة من أجل مساواتهم ببقية المسلمين ... إن القانون الذي يحكم البربر هو قانون العرف، الذي ينسجم في كثير من الأحيان مع قوانيننا الإفرنسية بأكثر مما ينسجم مع القوانين الإسلامية. وإن من مصلحتنا جميعا استخدام عاداتهم المدنية من أجل إخضاعهم لسيطرتنا).
لقد كانت السلطات الاستعمارية الإفرنسية تعرف تماما أن ما تطرحه من مقولات، وما تبذله من جهد في هذا المضمار، هو أمر يتناقض مع حقيقة الموقف في الجزائر المجاهدة، فبعد عقود من الجهد عبر سنوات الصراع الوحشي المرير، لإعادة تنظيم القضاء بهدف إضعاف الإسلام والمسلمين، ظهرت وثيقة في سنة 1930 تنص على ما يلي: (الإسلام بين هذه القبائل عميق الجذور جدا، وقد بقيت القبائل متعلقة بعاداتها المحلية في كل ما يتعلق بأمورها التي يحكمها القادة والشيوخ. وهم - أي رجال القبائل - يرجعون إلى القاضي للفصل في كل الأمور المتعلقة بأوضاعهم الشخصية).
ولكن على الرغم من ذلك، فإن السلطات الاستعمارية لم تيأس من إمكانية إبعاد المسلمين عن قواعدهم الصلبة، لتكوين (مسلمي الهوية) (1) مركزين الجهد على القبائل البررية في الأوسط الأطلسي (حيث تشكل القبائل في جبال جرجرة قلعة الاستقلال للناطقين باللغة البربرية. وحيث يمكن - أو يجب تحويل السكان في هذه المنطقة إلى فرنسيين لسانا وقلبا).
وللوصول إلى هذا الهدف، عملت السلطات الإفرنسية على اختيار (قبائل الشلوح) (1) والزيانيين كأساس لتوحيد كتلة البربر وإعدادها لتكوين (جمهورية بربرية) تشمل القبائل البربرية في المغرب العربي الإسلامي، وللوصول إلى الهدف، أعطيت التوصيات إلى رجال الاستعمار الإفرنسي بالجزائر: (من أجل منع الحديث باللغة العربية في وسط البربر - وتعليمهم كل شيء ما عدا العربية والإسلام).
وكان يتم إعداد الضباط الإفرنسيين والإداريين المدنيين - من الإفرنسيين أيضا - في دورات تعليمية لتطبيق سياسة مستقلة خاصة بالقبائل. وكان في جملة التوجيهات الثابتة التي يلقونها على مسامع هؤلاء، ولا يتعبون من تكرارها باستمرار، تلك التي تنص على ما يلي:
(يجب العمل من أجل إيقاف توغل الإسلام عميقا في نفوس أولئك الذين يعتنقون الإسلام ظاهريا - مسلمي الهوية - وعدم السماح لأولئك البربر بالتعريب عن طريق الشرع الإسلامي. وحرمان القضاة من ممارسة دورهم، وصرفهم عن صلاة الجمعة، وعدم الاستهانة بتأثيرها في نفوس المسلمين، كل ذلك مع دعم العادات الوطنية للبربر وبعثها. (فالسياسة الحقيقية للبربر تقوم على احترام عاداتهم وتنظيماتهم، وإحاطة هذه العادات والتنظيمات بإصلاحات نقوم بإدخالها إلى البلاد ... والعمل قدر المستطاع بسرية لتعزيز الفوارق اللغوية والدينية والاجتماعية بين العرب من سكان السهول والبربر من سكان الجبال. والحد من اتصال القبائل البربرية بالسكان العرب ومن ثم، الاعتماد على هؤلاء البربر، لتشكيلهم بمرونة من أجل قبول الحضارة الإفرنسية، وإغرائهم بالمساعدات المادية الزهيدة).
لم تسقط الحملة الصليبية من حسابها إمكانات تحويل مسلمي البربر إلى النصرانية، إكمالا لمخطط (فرق تسد) وإمعانا في دعم قاعدة الاستعمار. فكان الدين هو أحد وسائل السياسة البربرية التي وضعت النشاط الكاثوليكي في مقدمة وسائلها من أجل استثمار التأثير الجيد للمسيحيين المخلصين والمتحمسين لدينهم، ومن أجل تغطية سوءات الاستعمار بحجاب الأعمال الخيرية (للإخوات البيض) وما تبذله البعثات الفرانسيسكانية من جهد تعليمي وخيري. هذا بالإضافة إلى ما تبذله الهيئة (الأفريقية - الإفرنسية) من جهد في هذا المضمار (1) وكانت التوجيهات المعمول بها هي: (يجب استخدام القسس الأفاضل، لا من أجل
الوعظ والإرشاد، بل من أجل الإيحاء بالثقة والصداقة واكتساب حب البربر. فالسياسة البربرية ذات أهمية كبرى، بالنسبة لفرنسا، ويجب دعم المدارس والإرساليات العلمانية لاكساب محبة البربر عن طريق إظهار الطيبة وإقامة العلاقات الجيدة، وتقديم الخدمات).
ذهب بعض الكاثوليكيين إلى ما هو أبعد من ذلك: (فقد أرادوا إعادة البربر إلى الحظيرة المسيحية، بزعم إعادتهم إلى دين أجدادهم. وبزهم أنهم لا زالوا أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإسلام، ومن المقولات التي طرحت في هذا المجال: (يمكن غزو البربر، لا بالسلاح، وإنما بالغزو المعنوي وسيكون الغزاة هم من رجال الإرساليات المسيحية - والمبشرين - الذين يتحدثون إلى هؤلاء - البربر - عن السيد المسيح، وعن تاريخ المسيحية الحافل بأسماء المنقذين، وبالكثير من الأشخاص الأسطوريين). ويظهر هدف المبشرين، وأعمال الإرساليات من خلال المقولة التالية:
(لنفسح المجال أمام المسيحية حتى تمارس دورها في التأثير على نفوس البربر ... وسيساعد ذلك دونما ريب على عزل العرب بطريقة فعالة جدا، مما يؤدي بالتالي إلى إبعاد المسلمين عن طريقنا في أفريقيا الشمالية. وسيكون ذلك لمصلحة حضارتنا ولفائدة عرقنا - الآري-). فيما ذهبت مقولة استعمارية إلى المطالبة: (بإطلاق كامل الحرية لإرساليات - التبشيرية - في تحركها وعملها حتى تستطيع الاضطلاع بواجباتها) وكان من هذه الواجبات: التبشير بفكرة شرب النبيذ والخمر الذي يثير في النفس البهجة والحبور حتى تحل المشروبات الروحية محل الشاي الأخضر والنعناع، وهي المشروبات التي كان البربر قد اعتادوا على شربها، واعتبار شرب النبيذ والخمر علامة مميزة لهؤلاء الذين سيعتنقون المسيحية. والاهتمام بتعليم الأطفال خاصة، ومضاعفة عدد المدرسين عن طريق الاستعانة بالبربر الذين يرتدون عن دينهم الإسلامي ويصبحون مسيحيين. هذا إلى جانب مضاعفة أعداد الكنائس في (المغرب الكاثوليكي) من أجل الوصول إلى إعادة الفتح المسيحي الجديد للمغرب.
يظهر من خلال ذلك أن إصدار قانون (الظهير البربري الأول) في 11 أيلول - سبتمبر 1914 لم يكن إلا تتويجا لمجموعة من الجهود الكثيفة والمركزة والتي بدأت مع البدايات الأولى لاستعمار الجزائر، غير أن المقاومات والثورات المستمرة قد شكلت عقبات كؤود في وجه المخططات الاستعمارية. حتى إذا ما جاء ليوتي إلى الجزائر في سنة 1914، ظن أن الفرصة باتت مناسبة للانتقال من مرحلة العمل السري - أو المتحفظ - إلى مرحلة العمل العلني. وقد تم على أثر إصدار قانون الظهير البربري، تكوين (هيئة للدراسات والأبحاث البربرية) في 9 كانون الثاني - يناير 1915 .. وقد حددت مدينة (الرباط) مقرا لهذه الهيئة. وقد كشف تكوين هذه الهيئة وتنظيمها أنها لم تكن مجرد جهاز للأبحاث الاجتماعية. فقد تشكلت هذه الهيئة برئاسة الأمين العام للمحميات الإفرنسية. وضمت في عضويتها مدير شعبة الاستخبارات ورئيس المكتب السياسي لحاكم الجزائر (ليوتي) وكان واجب هذه الهيئة هو إعداد المخططات التطبيقية في مجالي السياسة والإدارة. وتحديد القبائل التي تنطبق عليها مواصفات (القبائل البربرية).
وقد دمجت هذه الهيئة فيما بعد (بالمدرسة العربية العليا) والتي كان قد تم تأسيسها في الرباط سنة 1914. وأسندت إدارتها إلى (بربري) تم إعداده وتبنيه من قبل وتثقيفه للاضطلاع بهذه المهمة. وكان برنامج هذه المدرسة يتضمن إلقاء محاضرات وإعداد دورات لتطوير اللغة البربرية التي يسخدمها صغار الضباط والمترجمين، وتحولت المدرسة بسرعة إلى زمرة نشطة تحتل المرتبة الأولى في التخطيط لبرامج (البربر).
لقد قيل عن الجنرال ليوتي - الحاكم العام للجزائر - عندما أعلن قانون (الظهير البربري) بأنه - أي ليوتي - يمارس سياسة ملونة ومضادة للبربر، وأنه يعمل مخلصا لقضية بناء المغرب الواحد - والموحد - وأنه أيضا يتخذ موقفا براغماتيا - ذرائعيا - بحيث أنه لا يضع حلا واحدا لأي مشكلة، وإنما لديه دائما مجموعة من الحلول.
وقد وجد دونما ريب أن السياسة الإفرنسية التي كانت مطبقة قد أخطأت في تقديرها عندما بالغت في قضية (تكوين كتلة البربر) ومن أجل ذلك فإنه أخذ في وضع صيغ مختلفة مع تنويع في الأساليب المستخدمة حتى يصبح بالإمكان التكيف مع الظروف والمواقف المعقدة جدا في المغرب العربي - الإسلامي. غير أنه من المعروف عن (ليوتي) أيضا بأنه هو الذي أرغم الضباط على دراسة العلاقات الجدلية مع البربر. كما عمل - من الناحية الإدارية - على بعث المجالس البربرية.
وظهرت أهداف سياسته بوضوح في رسالته إلى حكومة (باريس) يوم 6 تموز - يوليو 1915. وفيها: (أعتقد بأنه يجب علينا بعث العادات والمؤسات البربرية، ومنها الجمعة على سبيل المثال، ذلك لأن خصوصية الخيال تشكل أفضل وسيلة لإبراز التناقض أو التضاد مع الإسلام) وهناك أيضا التعميم الذي أصدره (ليوتي) ردا على رسالة أحد ضباط الاستخبارات، بشأن أحد الطلاب العرب الذي دخل المدرسة واستمر في ممارسة عبادته - الصلاة - فكان في تعميم ليوتي ما يلي:
(هنا يجب أن تسير السياسة البربرية في الاتجاه المضاد، وعلينا تجنب تعليم اللغة العربية للسكان، والتي تربطهم بماضيهم دائما. إن العروبة هي عامل من عوامل انتشار الإسلام ذلك لأن اللغة العربية هي اللغة التي يعلمها القرآن. وتفرض علينا مصلحتنا تطوير البربر بعيدا عن إطار الإسلام. وعلينا من الناحية اللغوية نقل البربر مباشرة إلى الإفرنسية، ومن أجل ذلك فإننا في حاجة لمدرسين من البربر، كما يجب فتح مدارس فرنسية - بربرية يتم فيها تعليم الإفرنسية إلى أطفال البربر. وعلينا بعد ذلك التدخل بحذر على مستوى المخططات الدينية. فالإسلام غير مستقر في وسط البربر. وقد علمت من هؤلاء الذين احتفظوا باستقلالهم، أن فهمهم للإسلام لا زال سطحيا، وأن هؤلاء البربر قد رفضوا كافة الأحكام التشريعية - القضائية - واعتمدوا على العرف والعادة. وعلى كافة ضباطنا استيعاب هذه المبادىء: وعليهم أن يتجنبوا بصورة خاصة التعرض لذكر الإسلام أمام السكان البربر).
وعلى هذا الأساس، تم وضع مخطط شامل يتضمن إقامة (مدرسة فرنسية - بربرية) و (تنظيم قضاء مدني بربري) و (تطوير الظهير البربري ودعمه بظهير جديد - أعلن في سنة 1930).
لقد نص قانون الظهير البربري: (على ضرورة تشكيل مدارس إفرنسية - بربرية، يكون فيها المعلم هو فاتح منطقة القبائل). وواجب هذه المدارس هو: (إسهام المدرسة البربرية في المحافظة على تقاليد البربر ومؤسساتهم. ومعارضة تأثير المدارس القرآنية - الإسلامية، وتوجيه البربر نحو فرنسا) بحيث يصبح من الطبيعي، ومن المتوقع، أن يظهر بين البربر من يقول بعد زمن ليس ببعيد: (بأن أجدادنا هم المغول - أجداد الإفرنسيين). ويتم في هذه المدارس تعليم القراءة والكتابة، باللغة البربرية وبالأحرف اللاتينية، ثم الانتقال إلى التعليم باللغة الإفرنسية للقراءة والكتابة والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والصحة، واستبعاد تعليم اللغة البربية والقرآن وعلوم الدين، مع إجراء توجيه نحو الحياة العملية وخاصة الزراعة، والإفابة من حدائق المدارس لهذه الغاية. وتبقى اللغة الإفرنسية هي أساس التعليم كله في المدارس البربرية.
وتنفيذا لهذا المخطط، تم في بداية شهر تشرين الأول - أكتوبر -1923، فتح (6) مدارس ابتدائية في (عيط سفوشن) ومدرستين في زيان، وبعد خمسة أشهر تم فتح (7) مدارس ضمت (200) طالب. وكانت كل مدرسة تضم على الأقل معلما واحدا مسيحيا من القبائل. وفي تشرين الأول - أكتوبر سنة 1924 عملت هيئة الدراسات العليا للمغرب، على تكليف المدرسين بإعداد برامج للبربر تعتمد على عادات البربر وتقاليدهم. واختيار مدرسين من القبائل لضمهم إلى صفوف جهاز التعليم. ومن أجل تجنب كل خطأ في هذه البدايات، فقد تم إعلام هؤلاء المدرسين (بأن هذه المدارس ليست مجرد مراكز تربوية وإنما هي تنظيمات سياسية وأجهزة دعائية. وعلى هذا يجب على المدرسين اعتبار أنفسهم عملاء ومتعاونين مع قادة المراكز. وعلى المدرسين الرجوع إلى هؤلاء القادة في كل مناسبة لتلقي توجيهاتهم).
استمر العمل في السنوات التالية لتكوين المزيد من المدارس في كل حدود منطقة (الأطلس الأوسط)، فبلغ عدد المدارس في بداية سنة 1927 ست عشرة مدرسة فرنسية - بربرية ضمت (600) طالب. وبلغ عدد هذه المدارس في بداية سنة 1930 - ثلاثين مدرسة ضمت (700) طالب وحققت هذه المدارس التي أطلق عليها المسلمون اسم (مدارس الروم) ما أرادته السلطات الإفرنسية من إنشائها. ولم يعد (للمدرس الفقيه) دوره في التعليم وتدريس القرآن. وانتصر دوره في المسجد على تولي الدفاع ضد هذا الهجوم الشامل. وقد زعمت السلطات الاستعمارية بأن الضباط والطلاب البربر - المتخرجين من هذه المدارس، قد أكدوا أنهم متفوقون عقليا على أمثالهم من طلاب المدارس العربية الريفية.
وظهر خلال هذه الفترة للسلطات الإفرنسية أن هناك حاجة لتكوين مدرسة عليا من أجل إعداد المدرسين حتى تصبح هذه المدارس (خالصة للبربر ويضطلع بها البربر ذاتهم) وحتى يتم (عزل الجيل وحمايته من كل تأثير عربي أو إسلامي) وقد تم تنظيم هذه المدرسة وإنشاؤها في (عزرو) في شهر تشرين الأول - أكتوبر 1927.
وكان الحاكم العام للجزائر - الجنرال ليوتي - قد حدد منذ يوم 25 كانون الثاني - يناير 1924 أهداف هذه السياسة في رسالة له تضمنت ما يلي: ويجب المحافظة بحزم وثبات على الفوارق القائمة بين سكان بلاد المخزن من العرب، وبين سكان الجبال البربر والذين يجهلون العربية. وأعتقد أنه يجب الإشارة إلى تلك الأهمية التي أعلقها على هذه القضية التي ترتبط بعملنا السياسي والتي تعتبر نتيجة مباشرة من نتائح التهدئة المستمرة للبلاد ذات العادات البربرية).
وتبقى الظاهرة الأكثر خطورة في (قانون الظهير البربري) هي ظاهرة إبعاد البربر عن القضاء الإسلامي (قضاء الشرع) وإخضاعهم لحكم (المحكمين). وكانت السلطات الإفرنسية قد أقامت منذ سنة 1857 في منطقة القبائل الكبرى ما أطلقت عليه اسم (الجمعة القضائية) واقتصر عملها في البداية على منطقة (القلعة الوطنية) وفقا لمرسوم 29 آب - أغسطس 1874. وفي 25 آب - أغسطس - 1880 كلف هذا المركز بإعداد النصوص القانونية للحكم والقضاء بما يتوافق مع القانون الإفرنسي. وقد تم تطوير (الجمعة القضائية) فأصبحت تضم كل السلطات الإدارية والسياسية في المنطقة (الدوار) بالإضافة إلى الصلاحيات القضائية ..
ومع صدور قانون الظهير البربري، تم في 22 أيلول - سبتمبر - 1915 إعادة تنظيم (الجمعة القضائية) فتقرر اعتماد اللغة الإفرنسية، وبدأ البحث في (مكتب دراسات القضايا البربرية - في مكناس) لإعداد النصوص القانونية التي تساعد (القضاة - المحكمين) على أداء عملهم. واستمر العمل حتى 8 آذار - مارس 1924 حيث صدر الأمر (بتسجيل العرف) الذي يتم الاعتماد عليه في القبائل الكبرى، مع الأخذ بعين الإعتبار عادات البربر وتقاليدهم. وكان الحكام الإفرنسيون هم الذين يشرفون على مجالس (الجمعة القضائية). وحددت صلاحيات المحكمين - من القادة - بالمخالفات والجنح التي تبلغ عقوبتها السجن لمدة سنة، والغرامة بمبلغ ألف فرنك فرنسي. وحتى السنتين والغرامة بألفي فرنك إذا ما اشترك في المحاكمة ممثل عن الحكومة الإفرنسية. أما بقية الجرائم، فتقدم إلى (المجلس القبلي الأعلى) الذي يصدر بدوره أحكامه استنادا إلى التقاليد والعرف.
وقد ظهر من خلال الممارسة العملية أن هناك تناقضا وتضادا في إصدار الأحكام، لا بين (أحكام الشرع الإسلامي) و (أحكام الجمعة القضائية) فحسب، وإنما أيضا بين الأحكام الصادرة في كل (جمعة قضائية) بسبب اختلاف (الأعراف والتقاليد والاجتهادات) ما بين جمعة وأخرى، غير أن السلطات الإفرنسية لم تجد في ذلك ما يثير الاهتمام، وهو ما عبرت عنه المقولة التالية: (ليس هناك أي خطر - أو محذور - في تحطيم وحدة التنظيم القضائي ضمن منطقة الحكم الإفرنسي، طالما أن الأمر يتعلق بدعم العنصر البربري. وطالما أن الأمر يتعلق بإيجاد ثقل معاكس يمكن له ممارسة دوره - ضد المسلمين - ولعل تحطيم المرآة الواحدة هو - من الناحية السياسية أمر مفيد جدا).
وهكذا تم تعميم الجمعة القضائية. فبلغ عدد محاكمها في الأول من كانون الثاني - يناير - 1929 ما يقارب (72) جمعة، ووصل عددها في سنة 1930 إلى (80) جمعة. وامتد حكمها ليشمل ثلث المناطق الإسلامية في المغرب العربي - الإسلامي، وبقيت (14) قبيلة أو بطنا وفخذا من القبائل والبطون والأفخاذ المصنفة، على أنها (بربرية) وعددها الإجمالي (84) قبيلة، غير خاضعة لأحكام (الجمعة القضائية). وكانت هذه النتيجة كافية لإقناع السلطات الإفرنسية بنجاحها في إمكان دعم الظهير البربري بظهير جديد (في سنة 1930) تمهيدا لإحلال الحكام والقضاة الإفرنسيين، وتطبيق القانون المدني الإفرنسي.
تلك هي بعض ملامح ما أطلق عليه اسم (الظهير البربري) (1) وليس المجال هنا هو مجال تقويم نتائج هذا (الظهير) أو التعرض لما جابهه من مقاومة الإسلام والمسلمين من عرب وبربر على حد سواء، مما سيتم التعرض له في أبحاث قادمة. غير أنه من المهم هنا الإشارة إلى ما يتعرض له العالم العربي - الإسلامي من حملات معاصرة مختلفة في أساليبها وطرائقها، غير أنها تنطبق في أهدافها مع ما سبق عرضه.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

نقلت وكالة رويت...

نقلت وكالة رويترز، عن مصادر وصفتها بالأمنية البحرية أن الحوثيين استخدموا سلاحا في البحر الأحمر مع تص...

سلط الكاتب الضو...

سلط الكاتب الضوء على مرحلة مهمة في تاريخ علم الفلك، وهي مرحلة ازدهاره في العصر الذهبي للإسلام. وركز ...

من الناحية المو...

من الناحية الموضوعية، يجب أن يكون هناك نزاع محدد يمكن حله عبر التحكيم، ويجب أن تكون إرادة الأطراف ال...

"هل تريد أن تجع...

"هل تريد أن تجعل صيف أطفالك 🤵 مليئًا بالمرح والمغامرات؟ لدينا كل ما تحتاجه لجعل كل يوم على الشاطئ 🏖️...

L’accouchement ...

L’accouchement normal ou eutocique : C’est un accouchement qui terme d’une grossesse normale dépass...

بتاريخ اليوم، و...

بتاريخ اليوم، واعتبارا بسيناريو المتلازمة النفسية الحادة الوخيمة (سارس) وبحجم وديناميكيات سوق السفر ...

بناء على تجربتي...

بناء على تجربتي أود أن أقدم بعض الاقتراحات تحسين المحتوى التدريبي، والاهتمام أكثر بالتطبيقات العملية...

استحضار المعلوم...

استحضار المعلومات والخبرات المختزنة للإستفادة منها في التعامل مع المسألة التي طرقت من أجل الوصول الى...

بالنسبة للعائلا...

بالنسبة للعائلات على وجه الخصوص، يمكن للنفقات التي تبدو صغيرة أن تتراكم بسرعة، فإذا كانت لديك اشتراك...

الرد المناسب عل...

الرد المناسب على مقالة "مستقبل الشباب يبدو مشرقًا" يمكن أن يكون كما يلي: --- أولاً، أود أن أشكر ال...

It is the proce...

It is the process of revealing and dismantling colonialist power in all its forms. It includes disma...

والحقيقة كما يذ...

والحقيقة كما يذكر مصطفى الشكعة أن إيراد الخبر على هذا النحو يشكل خطًأ جسيما يخدش من سمعة هذا المؤرخ...