لخّصلي

ويتشعب التفسير في اكتناه العلاقة بين ترنيم القصيدة وإنشاد اللازمة، فيتناول موضوع اختلاف اللغة بين اللازمة والقصيدة، أو موضوع ثبات اللحن في اللازمة في مقابل تحول تحليات المقام في ترنيم الأبيات. وإذ يرى فريدريك لاغرائج الاغرائج، ١٩٩٤ : الفصل الخامس في هذه اللازمة طريقة رمزية يستملك من خلالها المطرب القصيدة شعراً ولحنا، نرى بدورنا فيها
طريقة رمزية للعبور من حيز الدنيوي إلى الحيز الإنهي، وكأنما الله يدعو السامع إلى التخلي عن العواذل وإلى الوصال الصوفي
أو القرآن الروحي معه.
٦- الورثة
٦-١ - إرث الفقيه
بدأ الإمام محمد عبده والفنان عبده الحامولي العمل الإصلاحي كل في ميدانه، واجتازا أشواطا مهمة، طبعا من خلالها زحمنهما يترعتهما النهضوية. لكن الموت منعهما من ترسيخ منهج التجدد من الداخل في الذهن العربي ترسيخا عضويا، ولكن تولى

حيل أول من الأتباع والتلاميذ الأمناء مهمة الاستمرارية، فسرعان ما باتت التباينات والمفارقات القادمة في نهجهم، بوادر للمغالطات المستقبلية، فظهر في الفقه والسياسة تياران ينتسبان إلى الشيخ محمد عبده، أولهما يمثله لطفي السيد وقاسم أمين اللذان أكدا - بصدد الاستمرار في نهج الإمام الإصلاحي - على البعد الإنساني العلماني، المتلائم مع جوهر الدين. وفي المقابل، أخذ التيار الثاني، الممثل برشيد رضا، بالتأكيد على مركزية الدين في إرث المعلم، وصولاً إلى السلفية.
٦-٢ - إرث المرتم
٦-٢-١ - أداء الصيغ الموروثة
في الحقبة التاريخية عينها، واصل رفاق عبده الحامولي ومحمد عثمان وتلاميذهما أداء عناصر الوصلة الحامولية حسب النمط الارتجالي عينه. وكانت الغالبية منهم تؤدي تلك الأشكال باحترام كبير جعلها شبه رسمية ". والأسطوانات العربية الأولى ذات الثماني وسبعين دورة التي سجلت بصوت الشيخ يوسف المنيلاوي، وعبد الحي حلمي، والشيخ سيد الصفتي
و سليمان أبو داود وغيرهم، خير شاهد على هذا المنحى الاستمراري المحافظ.
٦-٢-٢ - تجديد الصيغ الموروثة
لكن البعض منهم حاول استئناف تجديد القوالب الموجودة:
. داود حسني وإبراهيم القباني، في إغناء شكل الدور
الشيخ أبو العلاء محمد في تجديده قالب ترنيم القصيدة الموقع على ضرب الوحدة،
٦-٢-٣- المسرح الموسيقي الفني العربي
لكن أحد الابتكارات الرئيسية كان للشيخ سلامة حجازي في ميدان المسرح الغنائي العربي فبفضل الشيخ سلامة، وجد الترنيم الفني العربي مكانه على خشبة المسرح وللأسف انتهت التجربة بموت والدها سنة ١٩١٧.
٦-٢ - ٤ - الموسيقى العرقية العربية
أما التحديد الرئيسي الثاني فتمثل بالتحرر التدريجي للموسيقى العرفية من طغيان الترنيم بالحنجرة عند العرب، وكان رواد هذه الحركة أعضاء تحت الحامولي، أي: محمد العقاد الكبير للقانون، وإبراهيم سهلون للكمان، وأحمد الليثي للعود، وأمين البزري للناي، وهكذا اغتنت التسجيلات على الأسطوانة بمقاطع عزفية مستقلة، مثل البشارف والسماعيات، ولا سيما
التقاسيم وذهب عازف الكمان الحلبي سامي الشوا إلى أبعد من ذلك، فأطلق من خلال الاسطوانة صيعا عرفية مستحدثة
ذات الطابع الموسيقي الفصيح العربي الصافي - محررا بذلك حيز الآلاتية من النير التراثي العثماني.
أن التحميلة: قالب عربي يعتمد على التواتر الحواري بين التفريد المرتحل والموقع، الذي يقوم به أحد أعضاء
التخت (بالتناوب)، وبين اللوازم التي يؤديها الأعضاء الآخرون.
ب التقاسيم الراقصة مقدمة مأخوذة من التراث البلدي، ثم تقاسيم موقعة ومتفلنة على ضروب الرقصات
الشعبية.
ت أداء الموشحات والأدوار أداء عزفيا مطربا.

ت التقاسيم المطولة تتحول التقاسيم من ومضات من الاستهلال والترجمة العرفية إلى مقاطع موسيقية قائمة بحد ذاتها ومستقلة عن الغناء. وقد أضحت التقاسيم مع فوزي سايب - في الثلث الأخير من القرن العشرين - مادة محورية للحفلة الموسيقية.
سوء فهم
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط المشرق العربي في قبضة الاستعمار الغربي، انطلق تيار النهضة الثاني، تيار الإصلاح من الخارج.
ففي ميدان السياسة، تجد بعض من نسب نفسه إلى إرث الإمام محمد عبده يتسرع بإرادة تطبيق المثال العلماني العربي الحر على المجتمع المصري، بكل بساطة، مولدا تيارات وطنية وقومية منتمية إلى البرجوازية الصغرى، مصبوغة بالثقافة الأوروبية (الحوراني، ألبرت، ۱۹۷۷). ومن هذه التيارات حزب الوفد، ونهج طه حسين. وقد مهدت لظهور الحركات القومية
والاشتراكية العربية وصولاً إلى قيام أنظمة العسكر والحزب الواحد.
وفي المقابل، توصل ورثة الإمام محمد عبده الإسلاميون، انطلاقا من تفاسير رشيد رضا، إلى تطرف مماثل للتطرف القومي الاشتراكي، فأسس حسن البنا - تلميذ رشيد رضا - حركة الإخوان المسلمين، وتنامت الحركات الإسلامية على أشكالها الإحيائية والسلفية في مواجهة دعاة الإصلاح، متخطية الموقف التقليدي المحافظ إلى لهج تأصلي معاد للحداثة الغربية (السيد
رضوان (۲۰۰۳)
فرسالة محمد عبده المركزية - تلك الدعوة إلى حداثة وتحرر، منبثقين من داخل المجتمع الشرقي، ذلك الحل المطروح لتفادي شرح خطير في اجتماع مشرب بالدين يصطدم بصورة الغرب العصري الناجح - لم يفهمها ورثته، أو تجاهلوها لفرط العمالهم، انبهارا بلمعان التقدمية، عند البعض، وتقوقعا التمانيا وانتمائيا على هوية سلفية عند الآخرين ، والراهن أن الأبواب
التي شقها الإمام في حينه قد أغلقها أتباعه بسرعة.
وكذلك لم تفهم غالبية ورثة صديقه الحامولي فحوى ثورته الموسيقية. فالجيل الثاني من التلاميذ تجاهل كليا رسالته النهضوية: تكوين موسيقى كلاسيكية عربية انطلاقا من لغة مقامية متأصلة في وجدان المجتمع، يحركها إبداع الفنان المنفرد من خلال الارتحال النغمي، في انصهار تام بين وظيفتي المؤدي والملحن، ففي حين انزوى البعض منهم خلف نزعة أدائية تكرارية، أمينة النتاج مدرسة الحامولي الحرفي، من باب المحافظة على التراث" - وهي نزعة متناقضة مع دعوته إلى التجدد - أخذ الآخرون
بتقويض أسس المنظومة الحامولية الفنية.
۱-۷- التقويض الأول
هو الخروج التدريجي عن اللغة النعمية المقامية، وذلك من خلال تبسيط المسار اللحني، وزعزعة تكوينه الشرقي، بغية تسهيل اقتباس جمل موسيقية منقولة عن الغرب - بسذاجة، ومن دون أي استيعاب لفحواها الجمالي، أو حتى لقواعدها الصرفية والنحوية - مثل المقاطع الأوبرالية الإيطالية، وفالسات فينا، وروميا كوبا، فيتنا نرى الألحان مبسطة إلى درجة التسطيح والسلالم المقامية محورة، وقد نزع عنها التنوع الغني في المسافات اللحنية - مثل الجنس الزلزلي " - وصولاً إلى السلم المعدل المتساوي، ونرى أيضا التزيين محددا، والميزان مهذبا" إلى حد الإعواز، فهو مشروع تطبيع عام، عن طريق إزالة ميزات الموسيقى العربية ومعالمها - مع الحفاظ على الكلام العربي المغنى - وصولاً إلى جعلها قابلة لاستقبال "بدور الغرب

وهكذا، وبعد بدايات بليغة في جو المدرسة الحامولية، ومحاولات ناجحة في التجدد من الداخل، انتقلت طليعة الفن التلحيني في مصر الربع الثاني من هذا القرن، إلى منحى تحديثي يعتمد على دمج تغريبي متسرع، إن في محاولات تطعيم الأغاني بنتف "أوبرالية" هشة أو شوارد من الرومبا (rumba)، والفالس (valse)، المنضوية كلها تحت راية اللصق بحسب مفهوم الكيتش
(kitch)
وهذه التحارب، وإن كان روادها يمتازون بسمات النبوغ والإطراب، وإن جسدت طموحات الطبقة الوسطى العربية منذ العشرينات - التي سيطر على أذهانها وذوقها مركب النقص تجاه الغرب - هي التي فتحت المجال لكل التحارب "التحديثية" اللاحقة، وسمحت لها بأن تقوض ما تبقى من معالم العرب النغمية. ونتيجة لذلك، وعلى الأمد الطويل، ظهرت أغنية رائحة .
"شبه غربية خفيفة، بكلام عربي، وطغت على النتاج الموسيقي العربي الحالي.
-٢ - التقويض الثاني
هو الخروج عن نسق الارتحال، من خلال الفصل بين وظيفتي المؤدي والملحن مع احتفاظ شكلي وحرفي باللغة النغمية الأصلية. فتثبيت اللحن المؤلف تثبيتاً نهائيا بالتدوين الموسيقي الغربي، والاستعاضة عن التخت بأركسترا كبيرة وثقيلة، يؤديان، بطبيعة الحال، إلى إزالة مركزية فعل الارتحال في الأداء، أي إلى سجن المؤدي (لا سيما العازف) في قفص ذهبي. إن هذا الدمج بأساليب أدائية وجمالية مأخوذة عن الغرب - وأعني النهج الأركسترالي، والالتزام بالحرف اللحني الثابت - يطال الجوهر في المنظومة المقامية الارتحالية، حتى لو كان المؤدي بمستوى نجوم حقبة الخمسينيات في الأداء وجودة الصوت والقدرة على توليد الطرب، وحتى لو كانت تلك النجوم تخرج أحيانا عن الثبات الحرفي للحن في استرسالات تنويعية، وحتى لو كان النص الشعري المنعم رائعا، فهذا التحوّل أدى إلى إفقار النتاج الفني، وإلى تهميش المنحى التجددي من الداخل. فبدلاً من مواصلة تلك النجوم في النهج الغنائي الكلاسيكي العربي، الذي برعت فيه في صباها، أطلقت نمط الأغنية الشعبية الناجحة والرائحة، من صنف المنوعات محافظة على الطابع العربي بحرفيته، متجاهلة جزئيا في البداية وكليا في النهاية الطاقة الهائلة الكامنة في حرية الارتحال، وفي الأسلوب الحبكي العميق والغني للحمل النعمية، الذي تأسس في مدرسة النهضة العربية
الموسيقية.
وبذلك تم إغلاق أبواب الإبداع التي كان قد بدأ بفتحها عبده الحامولي، ولم يكتف موسيقيو العرب بتجاهل دعوته التحررية والتجددية، بل أخذ البعض منهم نتاج الحامولي الشخصي من الأدوار - المخصص للأداء الانفرادي المرتحل - وأدوه
بالكورس والأركسترا، معللين ذلك بالمساهمة في نشر التراث وتطويره".
أما اليوم، وفي عصر "ما بعد الحداثة" في الغرب التي لم تصل مفاعيله حتى الآن إلى أرض الضاد)، وفي مقابل المواجهة السياسية والفكرية العقيمة بين السلفيين والتقدميين، التي ما زالت تشغل ورثة محمد عبده، هناك سجال مستمر بين التراثيين والحداثيين العرب في الموسيقى، يهدر طاقة ورثة عبده الحامولي. وقد آن الأوان لكي يخرج العرب من عبثية تلك التجاذبات، ولكي يفهموا أخيرا فحوى رسالة "العبدهين" الاستنهاضية. وذلك تحت طائلة السيطرة الكاملة من جانب ما يسمى بـ "النمط الأميركي للحياة" (The American way of life) - وشقيقته الصغرى في حقل الموسيقى، المسماة "موسيقى العالم" music)، "The World ذلك النوع من الكوكاكولا الموسيقي المصنع أو المعلب في العالم الثالث على عالم
العرب المجتمعي والصوتي.