المحاضرة الأولى: مفهوم الحضارة والثقافة والأويكومين والاختراعات السابقة للحضارة
يعد مفهوم الحضارة من أكثر المفاهيم التي أخضعت لعملية متواصلة من الجدل والنقاش وحتى التشويه وطمس الدلالات، بحيث أصبح المصطلح يطلق على أشياء وعمليات ونظم وأنساق أفكار متعارضة مختلفة ليس في مقاصدها ونتائجها وغايتها، مما اقترب بهذا المفهوم إلى مثل مفاهيم الخداثة والتقدم والرقي، ونفس الأمر بالنسبة للثقافة وعلاقتها بالحضارة، وبالتالي قبل الخوض في ابراز أهم الحضارات القديمة التي شهدها العالم القديم ومظاهرها ومنجزاتها، لابد من الوقوف بالتحليل والشرح لبعض المفاهيم على غرار الحضارة حسب المنظور العربي والغربي، والتعرف على شروط قيامها، مع التركيز على أحد اهم مقومات الحضارة ألا وهي الثقافة التي عدد لها المختصون أزيد من 160 مفهوما.
1/ مفهوم الحضارة
أ/ لغة: ورد المصطلح في لسان العرب لإبن منظور بعدة استخدامات منها:"الإقامة في الحضَر، والحضْر والحاضرة، خلاف البادية، وهي المدن والقرى والريف".
و"الحضر ضد البدو، والحضارة ضد البداوة"، واستدل البعض في تفسيراتهم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله :"لا يبيع الحاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ."
وبالعودة إلى تعريف ابن منظور الذي استخدم الحضارة بمعنى الحضر في الفقرة السادسة، أي بعد خمس فقرات واستخدامات للمفهوم وجميعها بعيدة عن هذا المعنى، كذلك فإن هذا هو الاستخدام الوحيد لمفهوم الحضارة بمعنى الحضر على مدى اثنى عشر عمودا في "لسان العرب" تشمل خمس صفحات، ولذلك سوف نورد الاستخ دامات التي ذكرها ابن منظور حسب ترتيبها:
- الحضور نقيض المغيب والغيبة، حضر يحضر حضورا حضارة، وكلمّه بمحضر فلان وبحضرته أي بمشهد منه.
- بمعنى عنده؛ كنا بحضرة ماء، ورجل حاضر .
- قرب الشيء؛ الحضرة، وتقول كنت بحضرة الدار .
- جاء أو أتى؛ حضرت الصلاة، حضر القاضي .
- الحضر خلاف البدو، والحضارة الاقامة في الحضر .
- الحاضرة ؛ الحي العظيم
- الحاضر؛ ضد المسافر.
وبالتالي فمصطلح الحضر هو أول استخدام يذكر دائما في جميع معاجم اللغة، وكأنه هو أصل استخدام المفهوم، وعلى الرغم من ذلك ، إلا أن جميع من رجع إلى الأصل اللغوي للفظ بحث عن الحضارة بمعنى سكنى الحضر أو عكس البداوة، مع أن أول لفظ يقابله في أي معجم هو "الحضور " كنقيض للمغيب أو بمعنى الشهادة ،وجاء على الشكل التالي :"بمحضر فلان وبحضرته أي بمشهد منه".
وبالتالي فالحضر هي الاقامة في الحضر بخلاف البادية، أي تشييد المدن والمباني المسكونة"، وهو عكس البدو والبادية والبداوة،" وبالتالي فالعرب يطلقون الحضارة على أولئك الذين صنعوا مجتمعا يعيش أفراده في الم دن ويمارسون أنشطة متعددة على رأسها الزراعة والتعدين والتجارة، وهذا عكس البدو الذين يعتمدون على الرعي والصيد والترحال ،" ثم ينتقل المصطلح إلى المعنى الحديث لها وهو مظاهر التقدم المادي والتقنى والفني والعلمي...، وكأن ذكر المعنى العربي القديم ي عَّد من لزوميات الاخراج العلمي أو كمسوغ للانتشار أو مصدر شرعي للمعاني الجديدة أو على سبيل ابرام الذمة".
من حيث اشتقاق كلمة حضارة Civilization فهي تعود للأصل اللاتيني Civitas أي المدينة وهو مشتق بشكل غير مباشر من الكلمة الكلمة اللاتينية" Civis" بمعنى "ساكن المدينة"، ولم يوظف هذا المصطلح حتى القرن 18م، وربما كان أول كاتب استخدمها هو "دي ميرابو" في كتاب منشور بعنوان "صديق الرجال أو مقال في السكان" الذي نشر سنة 1757م، ثم استخدمها كل من اشبنجلر وتوينبي وآخرون .
وعلى العموم تدل الحضارة على نوع خاص من الحياة وهو الاستقرار والاقامة الدائمة وليس بالضروري أن يكون هذا الاستقرار في المدينة، بل إن الاستقرار نشأ تاريحيا في القرى الصغيرة وعندما تطورت القرى واتسعت وتحولت إلى مد ن، أما المدنية فمشتقة من المدينة وتعني نختلف النشاطات البشرية في المدن.
ب/ اصطلاحا:
عند العرب:
لقد أخذ مفهوم الحضارة من الناحية الاصطلاحية تطورا في الفكر المعاصر لاستخدام خارج سياق التمدن ،وأصبح لفظ الحضارة قرين القيمة الانسانية أو النموذج البشري الأرقى، أو بمعنى أكثر تحديدا أصبح اللفظ العربي حضارة يوضع إزاء معاني المفهوم الأوربي ودلالاته، ومنه فمصطلح" Civilization" تم ترجمته إلى العربية بمفهومين متقاربين هما:
- اتجاه ترجمة مفهوم" Civilization" إلى اللفظ العربي "مدنية :" بدأ هذا الاتجاه منذ بداية الاتصال
بالغرب في أوائل القرن التاسع عشر، حيث ترجم في عهد محمد علي باشا كتاب "إتحاف الملوك الألبا بسلوك التمدن في أوربا"، وهو الجزء الأول من كتاب شارلكان. ومع رفاعة الطهطاوي الذي استخدم مفهوم التمدن في التعبير عن مفهوم" Civilization" فيقول :" ويفهم مما قلناه أن للتمدن أصلين: معنوي؛ وهو التمدن في الأخلاق والعوائد والآداب، ويعني التمدن في الدين والشريعة، وبهذا القسم قوام الملة المتمدنة التي تسمي باسم دينها وجنسها للتميز عن غيرها، والقسم الثاني؛ تمدن مادي وهو التقدم في المنافع العمومية ."
ومن جانبه نشر محمد قدري رسالة في التمدن، جاء فيها :" التمدن هو اجتماع الناس في المدن والأمصار للأنس والتعاون، فهو أخص من العمران الذي هو مطلق الاجتماع الانساني سواء في البوادي والقفار أو في المدن والأمصار، وهذا هو مدلول كلمة" civilization" فإنها مشتقة من كلمة لاطينية هي "سيسوتيا "ومعناها المدينة، وقد عرفها نابليون الثالث في بعض مؤلفاته تعريفا شافيا حيث قال: ليس التمدن بالانغماس والتفنن في النعيم والترف، وإنما التمدن الاعتناء بالنفس وتهذيبها وحثها على التخلق بالأخلاق المرضية والكمالات الأدبية."
وظل هذا الاستخدام لمفهوم المدنية سائدا حتى وقتنا الحاضر وبالدلالات والمعاني نفسها التي تمثل بها مفهوم "civilization" فقد استخدم المفهوم في سنة 1936 على أنه حالة من الثقافة الاجتماعية تمتاز بارتقاء نسبي في العلوم وتدبير الملك، حيث جرت عادة الكتاب المتأخرين أنهم عندم ا أطلقوا كلمة "المدنية" أرادوا بها المدنية الحاضرة في مقابل الهمجية التي كان عليها البشر في الأزمنة الخالية". وكذلك أطلق في سنة 1957 على الظواهر المادية في حياة المجتمع.
- اتجاه ترجمة مفهوم " Civilization" إلى اللفظ العربي "حضارة": ويعد هذا الاتجاه أكثر شيوعا في
الكتابات العربية ابتداءا من الربع الثاني من القرن العشرين، وذلك على الرغم من أن هذا المصطلح غير مستخدم في القرن التاسع عشر، كما أن التعريفات المقدمة للحضارة نلحظ أنها هي نفسها التعريفات التي وضع ت إزاء "المدنية"، فالخلاف لفظي والمحتوى واحد والمضمون نفسه، ذات مضمون" civilization"، حيث ارتبط مفهوم الحضارة إما بالوسائل التكنولوجية الحديثة، مثل الحديث عن وسائل المواصلات على أنها حضارة، لأن هذه الأخيرة مادة محسوسة في آلة تخترع وبناء يقام ونظام حكومة محسوس يمارس، ودين له شعائر ومناسك وعادات ومؤسسات، فالحضارة مادية"، أو ارتبط بالعلوم ومعارف والفنون الحديثة والأنظمة السائدة .
ومن ناحية ثانية أخذت المعاجم والقواميس التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين بترجمة "Civilization" إلى حضارة، مع نقل التعريفات والدلالات والأبعاد التي ارتبطت بمفهوم" Civilization" مع اجماع بينها على أن الحضارة هي جملة الظواهر الاجتماعية ذات الطابع المادي والعلمي والفني والتكنولوجي الموجودة في المجتمع، وأنها تمثل المرحلة الراقية في التطور الانساني ."
وعلى العموم نجد عدة تعريفات للحضارة من الناحية الاصطلاحية، فمن جهته يعرفها ابن خلدون بأنها"التفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه، من المطابخ والملابس والمباني والفرش، وسائر عوائده وأحواله، فلكل واحد منها صنائع في استجادته والتأنق فيه".
والحضارة تطلق على ما يملكه شعب ما أو مجتمع ما أو أمة معينة من تراث وخصائص وابداعات يتميز بها عن غيره من المجتمعات، ومن جهته يقدم مالك بن نبي تعريفا مركبا للحضارة فحواه :"انسان+ زمان )وقت(+ مكان )تراب( = ناتج حضاري"، وفي موضع آخر يعرفها بأنها :"مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية لنموه"، ويقدم تعريف آخر لها بقوله :"يمكن تعريف الحضارة في الواقع بأنها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع م ا أن يوفر لكل فرد من أعضائه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتقدمه ." وهو يتفق مع تعريف لمحمد عارف في قوله ": الحضارة هي حالة متقدمة للمجتمع الانساني تجاوز فيها هذا المجتمع حالة الفوضى ووضع أسس تنظيمية لحياة الناس، مما أنتج نمط حياة أكثر راحة وفتح مجالات تفكير وعمل أكثر كمجالات التعليم والفنون وغيرها"
ومن جهته يقدم حسين مؤنس تعريف آخر مفاده أن الحضارة هي :"ثمرة كل جهد يقوم به الانسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودا أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية، وهذا المفهوم مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ، لأن التاريخ كما سنرى هو الزمن، والثمرات الحضارية التي ذكرناها تحتاج إلى زمن لكن تطلع، أي أنها جزء من التاريخ، أو نتاج جانبي للتاريخ، فثمار الحضارة لا تظهر إلا بإضافة الزمن إلى جهد الانسان ."
يعرف محمد عزيز الحبابي الحضارة في قوله :"الحضارة من حضر يحضر، يحضر الشخص ليعمل مع الآخرين كي يتأنس ويؤنس محيطه، وبذلك يهيىء الشروط اللازمة التي توفر الكرامة لديه، والحضارة هي تراث مشترك بين جميع الشعوب قديما وحديثا، وانها إرث إنساني في نمو لا ينقطع، مثل بحر زاخر بالمياه والأمواج وله روافد عديدة تصب فيه على الدوام، تلك الروافد هي الثقافات القومية ."
- هي مجموعة من المحاولات البشرية للتفكير والاختراع والاكتشاف الخاص بالطبيعة، بهذف الوصول إلى حياة أفضل، والحضارة هي جميع النشاطات الانسانية المرتبطة من نواح مختلفة، سواء مادية، عقلية، روحية، دينية...
- مجموعة الخصائص المميزة لمجتمع ما في عديد الميادين الاجتماعية والدينية والأخلاقية والسياسية والفكرية والعلمية والتي تنقل من جيل لآخر.
- هو وصف يطلق على مجتمع معقد يتميز بالتطور الحضري والتراتبية الاجتماعية وأنظمة الحكم والتواصل )الكتابة، العلوم، المعارف(.
عند الغرب:
- يقدم ول ديورانت تعريفا للحضارة مفاده أنه ا: "نظام اجتماعي، يُعين الانسان على الزيادة في انتاجه الثقافي ،وتتألف من عناصر أربعة؛ الموارد الاقتصادية، النظم السياسية، التقاليد الخلقية، متابعة العلوم والفنون، وتبدأ الحضارة عنده لما يتوقف الخوف والاضطراب."
- فرانز بواس: يرى أن الحضارة هي الكم المتكامل للأفعال والنشاطات العقلية والطبيعة التي تميز السلوك الجماعي والفردي للأفراد الذين يكونون مجموعة اجتماعية، بالارتباط ببيئتهم الطبيعية، وهي تحتوي أيضا على منتجات هذه النشاطات ودورها في حياة المجموعة".
- تايلور: الكل المركب الذي يحتوي على المعرفة والمعتقد والفن والأخلاقيات والقانون والعادة وكل القدرات والاعتبارات الاخرى التي يكتسبها الانسان كعضو في المجتمع أو هي: درجة من التقدم الثقافي، تكون فيها الفنون والعلوم والحياة السياسية في درجة متقدمة ."
- هنتنجتون :"الحضارة والثقافة كلاهما يشير إلى مجمل أسلوب الحياة لدى شعب ما، والحضارة هي الثقافة على نطاق أوسع، وكلاهما يضم المعايير والقيم والمؤسسات وطرائق التفكير التي علقت عليها أجيال متعاقبة أهمية أساسية في مجتمع ما... والحضارة إنما هي أعلى تجمع ثقافي من البشر وأعلى مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يميز الانسان عن الأن واع الأخرى، وهي تعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة والتاريخ والدين والعادات والمؤسسات والتحقيق الذاتي للناس ."
- دونزو كورتيز D. Cortes يرى ان الثقافة والحضارة تمثلان مرحلتين، والثقافة هي التي تسبق الحضارة، لكن الحضارة لا يتبعها انحطاط، كما كان يرى شبنغلر، بل على العكس، الحضارة صعود نحو الحضارات ."
- وقد فرق" ألفر فيبر Weber بين الحضارة على أنها "جملة المعارف النظرية والتطبيقية غير الشخصية وبالتالي تلك التي يعترف انسانيا بصلاحياتها ويمكن تناقلها، وبين الثقافة التي هي :"جملة العناصر الروحية والمشاعر والمثل المشتركة التي تربط خصوصياتها بمجموعة وزمن معينين."
- وقد عرف" دي ميرابو" الحضارة -يعتبر أول من وظف هذا المصطلح تقريبا- بقوله :"ان الحضارة شعب ما هي رقة طباعه وعمرانه وتهذيبه ومعارفه المنتشرة بحيث يراعي الفائدة العلمية العامة ويفسح المجال لقانون التفضيلات ،إن الحضارة لا تفعل شيئا للمجتمع ما لم تمنحه الفضيلة وشكلها، فمن صلب المجتمعات التي هذبت حواشيها جميع العناصر التي عددناها آنفا ينبثق مفهوم الانسانية".
ومما سبق نخلص إلى وجود عدة تفسيرات لمفهوم الحضارة:
1/ - التفسير المادي: ويخلص أصحاب هذا الاتجاه إلى أن المنجزات المادية للانسان هي مقياس الحضارة، وكلما تشمله من وسائل الراحة والرفاهية، أما مظاهر القيم والعقائد أو الرقي في الفكر البشري فلا اعتبار لها .
2/ - التفسير العقلي: ويرى أصحابها أن المظاهر الانسانية المبنية عن طريق العقل هي أساس الحضارة، ومنروادها "أزوالد شبنغلر Oswald Spengler" صاحب كتاب "أفول الغرب" والذي اشتهر بتشبيه الحضارات الانسانية بالمراحل العمرية لحياة الانسان والمشهور بهرم الدول .
3/ - الاتجاه التوفيقي: من روادها "ألبرت شيفستر" صاحب كتاب "فلسفة التاريخ" حيث يقول": إ ن الحضارة هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على السواء،" ويربط أصحاب هذا النظرية التقدم المادي الذي يمكن أن يحدثه الانسان بضرورة تقدم روحي مواز له، كي يتم التوافق بين مظهر الانسان والتقدم، وجوهر الانسان والتقدم ،فالتقدم المادي هو الأثر والانعكاس الذي يتجلى على مرآة الواقع الشكلي للتقدم الروحي الذي يشكل الجوهر ل دى الانسان، وأي اعتبار آخر لا يستطيع الصمود امام الحقيقة ."
3/ شروط قيام الحضارة )عوامل(
طرحت عدة نظريات فيما يخص نشاة الحضارة، منها نظرية الدورات التاريخية للفيلسوف الايطالي "فيكو "ومضمونها أن كل أمة تمر في تطورها التاريخي بأدوار مماثلة، وهي عصر الآلهة وفيه يعتقد الناس بأن الآلهة تدبر وتسير كل شيء، ثم عصر البطولة ويلعب فيه الأبطال والملوك والشخصيات البارزة الدور الرئيسي في سير الأحداث، ثم عصر الناس الذي تسود فيه المساواة والقوانين التي يتساوي أمامها الجميع وتقوم فيه حضارة حقيقية، وبعد هذه الأدوار الثلاث تصاب الحضارة بالانتكاس وتعود إلى بربرية جديدة، وعن هذه البربرية تنبثق حضارة جديدة تعود فتنهار وتغلق الذدور وهكذا جزاليك حتى فناء الأرض .
3-1/ نظرية البيئة: رغم أن الانسان يشكل العامل الحاسم في بناء الحضارة، فإنه من الصعب إخمال دور البيئة الطبيعية وأثرها على الانسان من جهة، وعلى حضارته من جهة أخرى، بمعنى أن بناء أي حضارة من الحضارات ما هو إلا حصيلة فاعل مشترك بين الانسان وبيئته.
يعتبر اصحاب هذه النظرية أن للطبيعة تأثير ودور في نشأة وبناء الحضارة، وتشمل عددا من العناصر المحددة ومنها الموقع الجغرافي للمناطق، فمثلا تلك التي تتمتع بمناخ ملائم وتربة خصبة وموارد مائية قد تكون أكثر قدرة على دعم الرزاعة وتوفير موارد طبيعية لتطور الحضارات، كما أن الموارد الطبيعية من أراضي خصبة ومعادن تمثل القاعدة اللازمة لاقتصاد قوي وازدهار حضاري، كما تضمن الطبيعة الجغرافية السطحية للمنطقة عاملا مؤثرا في نمط حياة السكان وفي التواصل والتفاعل بين الثقافات والحضارات المختلفة، هذا ويساهم الوجود الجغرافي لمواقع استراتيجية وتجارية قاعدة للتبادل الاقتصادي وتطور الحضا رات عبر التجارة والتبادل الثقافي بين الشعوب، كما أشار ابن خلدون إلى قضية تأثير البيئة ال واضح على الصفات البيولوجية للانسان، مما يقرر اثرها على عاداته وسلوكاته وقراراته، ويلخصحسين مؤنس ذلك في قوله ": لا شك في أن البيئة الجغرافية التي ينشأ فيها شعب من الشعوب لها أثر كبير في الشكلالحضاري التي ينشئه، لأن الانسان يأخذ مادة حضارية مما حوله، والظروف الطبيعية التي تحيط به لها أعظم الأثر فيحفز هممه إلى العمل والانشاء والابتكار، أو في تثبيت همته وحرمانه من كل تطلع إلى جديد".
3-2/ نظرية التحدي والاستجابة Challenge and Response: ويعتبر "أرلوند توينبي" من روادها ،ويرى أن ظهور الحضارة كان نتيجة رد فعل وتحدي للظروف الصعبة لشعب ما والتي تدفعه لبذل جهد أ كبر، فقد لاحظ "توينبي" في دراسته للحضارة البشرية أن هناك بعض المجتمعات التي لم تستطع الصمود امام التحديات الطبيعية والبشرية وذلك لشدة هذه التحديات، ويسميها "بالحضارات المتعطلة" أي التي أخفقت في استمرارها مثل "الإسكيمو"، ومن أمثلة المجتمعات التي استجابت للتحديات "بلاد اليونان." أو بمعنى آخر أن المجتمع خلال تطوره يواجهه صعابا تهدد كيانه ووجوده ورد الفعل الذي يقوم به هذا المجتمع هو الذي يكفل له البقاء والاستمرار والازدهار بفضل القوة الداخلية والخارجية المستمدة من نجاحه وإذ لم يستطع المجتمع مواجهة هذا التحدي بنجاح، فإنه بفقد قيمته الأصلية أو هيبته الخارجية ورفاهيته المادية وربما آل به الأمر إلى الفناء والزوال، ويؤكد توينبي ذلك في قوله :"أن الظروف الصعبة تتحدى الانسان فتستثير هممه وقوى الابداع لديه، وتدفعه إلى التحضر، وقد يكون مصدر التحدي عادة البيئة الطبيعية أو الظروف البشرية، بينما يحول الرفاه -سهولة معيشة الانسان في وسط ما- دون قيام الحضارة ."ويضيف المفكر "جورج باستيد George Bastide" أن :"الحضارة هي نتاج التدخل الانساني الايجابي لمواجهة ضروريات الطبيعة تجاوبا مع إرادة التحرر في الانسان، وتحقيقا من اليسر وإرضاء لحاجياته ورغباته، ولانقاص العناء البشري."
فالمصريون مثلا تحدوا الجفاف وانحدروا إلى وادي النيل الذي كثرت فيه المستنقعات في ذلك العصر فتحدوا هذه الظروف غير الملائمة للحياة أيضا وكافحوا الشرائط الطبيعية الجديدة وتغلبوا عليها وأنشأوا الحضارة المصرية القديمة ،وما جرى في وادي النيل جرى في الدجلة والفرات، ويسمي "توينبي" هذا بحسنات الأحوال المعاكسة، ويقول ":إذا كانت التحديات شديدة جدا بحيث لا يمكن تحديها فمن الصعب أن تقوم الحضارة، ولكي تكون الاستجابة المبدعة ممكنة يجب أن لا تتعدى التحديات الطبيعية أو البشرية حدا معينا بحيث لا يمكن التصدي له وتحديه ."
3- 3/ بالاضافة إلى العوامل الاقتصادية بما فيها تطور الزراعة واستدامتها مما يسمح في تكوين مجتمعات مترابطة ومتماسكة، وكذا وجود قاعدة صناعية متنوعة مما يسهم في التبادل التجاري والسلع والأفكار بين الشعوب. كما تلعب العوامل الاجتماعية دورا مهما من خلال التنظيم الاجتماعي الفعال ووجود مؤسسات اجتماعية متطورة ،ذلك أن الحضارة ليست من صنع الفرد الواحد وانما يصنعها المجتمع البشري، لأن اجتماع البشر وتضافر جهودهم وتراكم انتاجهم ومخلفاتهم وتفاعلهم مع البيئة أساس لنشوء الحضارة وتطورها، وإن عمر الفرد محدود بينما عمر المجتمعوالحضارة طويل، أي أن صنع مجتمع واحد بل وليدة اتصال وتمازج شعوب متعددة ويظهر ذلك كلما تطورتالشعوب ووسائل الاتصال. هذا وتسهم التفاعلات الثقافية والاجتماعية بين المجموعات المحتلفة في تبادل الأفكاروالخبرات وتعزيز الابتكار والتطور الثقافي، مما يحدد السلوك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وبالتالي بناء الهوية الثقافية للمجتم ع، فالحضارة تبدأ في كوخ الفلاح ولكن تتطور في المدن من خلال تطوير نظم التجارة والصناعة والخدمات، والعوامل النفسية، فلابد أن نظام سياسي وحالة استقرار ورؤية أخلاقية .
4/ اتصال الحضارات
تعتبر الحضارات البشرية سلسلة متصلة الحلقات، تأخذ كل منها عن الأخرى، ولا يمكن أن تنفصل هذه الحلقات، وإلا لوقف وانتهى إلى حيث لا ينتهي التواصل بين هذه الحضارات، فالحضارة التي استقلت بمفهومها استقلالا تاما ولم تعتمد على غيرها أو تتفاعل مع غيرها من الحضارات السابقة لها واللاحقة عليها، هذه الحضارة لم تولد بعد، لأنه قد ثبت أن جميع الحضارات التي عرفها الانسان استفادت من الحضارات الأخرى وأفادت تلك الحضارات"، فما قيل عن استفادة الحضارة الاغريقية من الحضارات الشرقية القديمة أمر لا يقلل من شأنها، وكذلك ما قيل إن استفادة الرومان من الحضارة اليونانية قد انتقص من شأنها .
- يتم انتقال الحضارة أو بالأحرى مظاهر الحضارة من مناطق المنبع إلى مناطق التأثير والتقليد عبر عدة معابر منها؛ الغزو، الحكم الأجنبي والهجرة والتجارة والسياحة، ويمكن أن نأخذ أمثلة على ذلك، مثل اتصال الاغريق بحضارات الشرق الأدني والعكس فيما بعد، أي تشكل ما عرف بالحضارة الهيلينستية، وكذلك هجرة الهيكسوس إلى مصر وحكموها ثم تمصروا أي تأثروا بكل ما هو مصري .
- كذلك يعمل الغزو والاحتلال والفتح والحكم الأجنبي على طبع وفرض حضارته على البلد المحتل، مثل ما فعلت الامبراطورية الرومانية التي عملت على فرض ما عرف بالرومنة، أو تأثر المغلوب بثقافة غالبه .
- تعمل التجارة على نقل الحضارة، فالتاجر لا ينقل سلعه فقط بل أفكاره، أخلاقه، ديانته، مثل انتقال الحضارة الفينيقية إلى سواحل شمال إفريقيا، وانتقال المؤثرات الاغريفية إلى الرومان، وانتقال الحضارة العربية الاسلامية إلى أوربا عبر ايطاليا والأندلس .
5/ مظاهر الحضارة: للحضارة مظاهر متعددة ومنها ما يأتي :
5-1 / المظهر السياسي: يتضمن هيكل الحكم ونوع الحكومة : ) ملكية، جمهورية، دستورية، مطلقة، أوليغارشية ،ديمقراطية، أرستقراطية، دكتاتورية، برلمانية(، ونوع الإدارة، مركزية أو لامركزية، ومؤسسات الإدارة المركزية والمحلية. ومنذ فجر التاريخ والإنسان يبحث عن النظم والتشريعات التي تحفظ حقوقه وواجباته وتؤمن له الأمن والأمانوالعيش المشترك لبناء منظومة حقوقية تبعد عنه الخطر والخوف والعزلة، فوضع أسس الدولة وقوامها الأنظمةوالتشريعات الإدارية، ونظام تسيير أعمال الدولة منها تشريعات حمورابي، قوانين صولون قانون الألواح الاثنى عشر.
5-2 / المظهر الاقتصادي : شمل موارد الثروة ووسائل الإنتاج الزراعي والصناعي وعلاقات الإنتاج والتبادل التجاري ،ونوع المواد الزراعية والصناعية، واستعمل النقد وطرق المواصلات، ومارس الفينيقيون والآراميون التجارة في سورية داخلياً وخارجياً وكذلك كانت بابل وحران مركزان تجاريان وكانت كريت همزة وصل بين مصر وبلاد اليونا ن، كما أنه من الضروري دراسة تلك الصلات والعلاقات الاجتماعية التي يدخل فيها الناس من أجل انتاج الخيرات المادية ومن أجل تبادل نشاطهم، وعلاقات الناس الاجتماعية في عملية الانتاج تؤلف علاقات الانتاج التي هي جانب لا ينفصم عن الانتاج المادي .
5-3 / المظهر الاجتماعي : تجلت مظاهر الحضارات في تكوين المجتمعات ونظمها وطبقاتها فيما بينها والأسرة
)المرأة، الزواج، الطلاق(، والعادات والتقاليد والمسكن والأعياد، وبما أن أسلوب انتاج الخيرات المادية هو الأساس المادي للحياة الاجتماعية فإنه من الضروري اعتبار تاريخ المجتمع أيضا تاريخا لتطور أساليب الانتاج وتعاقبها الحتمي، وعند دراسة مراحل معينة في تطور المجتمع فمن الضروري دراسة قوانين وأسلوب الانتاج المطابق لها، حيث إن تاريخ تطور المجتمع البشري هو عبارة عن انتقال حتمي من تشكيلة اقتصادية -اجتماعية إلى تشكيلة أخرى أكثر تقدما .
5-4 / المظهر الثقافي : من أهم ما أنتجه الفكر من نشاطاته العلمية والفلسفية والأدبية )مثل المعتقدات الدينية، الاساطير والملاحم، الآداب، العلوم، الموسيقى، النحت، التصوير، فن العمارة ( . وظهرت في بلاد الشام أبجدية رأس شمرا ، وانتشرت الآرامية وأصبحت لغة التجارة الدولية وتعددت المدارس والمكتبات مثل مكتبة إيبلا، ومكتبة ماري، مكتبة أوغاريت، واشتهر الفراعنة في الكيمياء )التحنيط ( والطب والعلوم الزراعية ، واهتم الفينيقيون بالملاحة والبنية الحجرية والموسيقى، وفي بلاد الرافدين قدم نظام الكتابة المسمارية، وبرع أهلها بالرياضيات والطب والفلك وبناء القصور، والنقش على الأختام وإنشاء الحدائق ، واستعمل اليمنيون الخط المسند في الكتابة وتميزوا برقي الفكر وازدهار الأد، وبرع الاغريق في العمارة، النحت، الفلسفة.
وبالتالي نقول أن جميع المظاهر الحضارية يؤثر بعضها على البعض الآخر، وفي الحقيقة أن أسلوب الانتاج يحدد جميع جوانب حياة المجتمع، حيث أن طابع علاقات الانتاج يحدد البناء الاقتصادي في المجتمع الذي هو الأساس والبناء التحتي الذي تظهر عليه مختلف العلاقات الا جتماعية والأفكار والمؤسسات، وهذا البناء الاقتصادي بالواقع هو الذي يحدد المؤسسات الحقوقية والسياسية التي هي رهن بالتركيب الطبقي، أي كل ما يمكن تعريفه كبناء فوقي سياسي للمجتمع، ومن ثم يحدد بصورة غير مباشرة محتلف الأفكار التي يتميز بها المجتمع المعني كالأفكارالسياسية والفلسفية والعقائدية والحقوقية والفنية وما إلى ذلك، أي كل ما يمكن تعريفه كبناء فوقي ايدلوجي للمجتمع .
II/ تعريف الثقافة:
1/ المفهوم اللغوي:
1-1/ في اللغة العربي ة
يستلزم تأصيل مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية الرجوع إلى المعاجم والقواميس العربية القديمة، ذلك أن الاستخدام الشائع لهذا المفهوم في القرنين الأخيرين قد ألقى بظلاله على اللفط العربي وأصابه بالكثير من دلالاته ومعانيه ،فأصبح هناك نموذج هجين لهذا المفهوم، حيث نجد التعريفات المقدمة للمفهوم تنطلق من الجذر اللغوي الأصيل وتذكر دلالاته الأصلية، ثم تنتقل إلى المعاني والدلالات الأوربية للمفهوم دون تحليل للدلالات الأصلية وما يمكن أن يستنبط منها.
أصل "الثقافة" في المعاجم العربية يعود إلى الفعل الثلاثي "ث قَفَ" فيقال: الثاء والقاف والفاء كلمة واحدة إليها يرجع الفروع، وهو إقامة دَرءِ الشيء، وجاءت الثقافة في اللغة العربية على عدة معان، منها؛
- يقال "ث قَفْتٌ القناة" إذا أقمتُِ عوجها، وثقّفْته بالتثقيل أقمت العوج منه.
- قال عدي بن الرقاع : نظرَ المثَ قّفِ في كٌعوب قنانه حتى يقيمَ ثقافهٌ منادها والثقاف هي حديدة تسوى بها الرماح
- ومنه قول عمرو بن كلثوم: إذا عضَّ الثَ قَافٌ بها اشمأزت تَشُجُّ قَ فَا المثقَّفِ والجبينا
- وثاقف فلانا: لاعبه بالسلاح، وهي محاولة اصابة الغرة في المسايفة ونحوها. وثقافُ ككتاب: الخصام والجلاد، وثقفت الرجل في الحرب أدركته وثقفته ظفرت به ."
- قال أعرابي :"إني لثَ قْفُ راو رام شاعر. وقلب ث قْفٌ، أي سريع التعلم والتفهم، والثَ قْفُ مصدر الثقافة، وفعله ثقفَ إذا لزم". ومن المعاني المجازية: تثقف فلان على فلان، تأدب، ويقال : تثقف على فلان، وفي المدرسة كذا ."
- "ثقِفَ الشيء ث قْفَا وِثقافا وثقوفة: حذقه. ورجل ث قْفٌ وثقِفَ وث قْفٌ: خاذق فاهم.
وبالبحث أكثر ندرك تعدد معاني الجذر "ثقف" في المعاجم، ففي تهذيب اللغة للأزهري "رجل ثقف لقف إذا كان ضابطا لما يحويه قائما به... ويقال :"ثقف الشىء، وهو سرعة التعلم"، أما في "المعجم الوسيط" الذي وضعه مجمع اللغة العربية في مصر يبدأ بالحذور اللغوية الأصيلة لمفهوم الثقافة، فيذكر أصلها اللغوي من "ثقِفَ" أي هذب، ثم ينتقل إلى تعريف الثقافة بأنها العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذَق فيها.
والثقافة من "ثقف: أي حذق وفهم وضبط ما يحويه وقام به أو ظفر به وكذلك تعني فطِنُ ذكي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، وتعني تهذيب وتشذيب وتقويم وتسوية من بعد إعوجاج، وجاء عند لسان العرب :"ثقف الرجل ثقافة ،أي صار حاذقا حفيفا، ورجل ثقف، أي حاذق الفهم والمهارة، وذو فطنة وذكاء".
أصل كلمة الثقافة عند العرب من الفعل الثلاثي "ثقف" وتعني - كما قلنا سابقا- تقويم الاعوجاج، والثقاف وهو الآلة التي تسوى بها الرماح، والملاعبة بالسيف، والخصام والجلاد، والادراك والظفر، وضبط المعرفة المتلقاة ،والتأديب والفهم والحذق والفهم.
لكلمة الثقافة دلالتان؛ حسية حقيقية ومعنوية مجازية، جاءت الدلالة الحسية بالمعاني التي كانت تتلائم مع أحوال العرب في حياتهم التي تتسم بطابع البداوة، وفي أحوالهم التي تغلب عليها الغارات والحروب، وهي: تقويم المعوج من الرماح وقد يشمل تقويم المعوج من السلوك فتجتمع الدلالتان الحسية والمعنوية، والملاعبة بالسيف. ومع تطور أحوال العرب، واستقرارهم في المدن وغلبة طابع المدنية والحضارة عليهم، استخدمت الثقافة في بعض معانيها المعنوية، لتدل على جانب من التقدم التربوي والفكري، مثل ضبط المعرفة المتلقاة، وسرعة التعلم، فالثقافة تعني التقويم، والحمل على الاستقامة، في الفكر والسلوك، ولما كان تقويم النفوس يتم بالتربية؛ أصبحت الثقافة في جانبها المعنوي هي التربية التي تستهدف تهذيب النفوس وتقويم سلوكها .
1-2/ في اللغة الأجنبية
استعملت كلمة الثقافة Culture في اللغة اللاتينية القديمة للدلالة على العناية بالزراعة والماشية، وفي العهد الروماني أضيف لها معنى آخر وهو فلاحة الأرض. وفي القرن 13م، ارتبطت الثقافة في فرنسا بالدلالة اللاتينية "الزراعة والماشية" ومع بداية القرن 16م تحولت الكلمة من الدلالة على الحال إلى دلالة الفعل، أي فلاحة الأرض ،ومع منتصف القرن 16م تكون المعنى المجازي لكلمة الثقافة إشارة إلى تطوير الكفاءات وإنمائها.
وهكذا استمرت كلمة الثقافة في القرن 17م تختص بالزراعة وفلاحة الأرض واستنباتها، متنقلة من الثقافة باعتبارها حالة إلى الثقافة باعتبارها فعلا.
ومع القرن 18م اتخذت الكلمة منحى يعبر عن التكوين الفكري عم وما، وعن التقدم الفكري للشخص خاصة، وعما يتطلبه ذلك من عمل، وما ينتج عنه من متطلبات، وعلى هذا المعنى تم إدراجها في قاموس الأكاديمية الفرنسية سنة 1718م متبوعة بمضاف يدل على موضوع الفعل، مثل: ثقافة الآداب، ثقافة العلوم، وانتقلت نتيجة للتطور إلى حصيلة عملية التنمية العقلية والذوقية، لتدل على المكاسب العقلية والأدبية، فتحررت الكلمة -الثقافة- تدريجيا من علاقتها بالمضاف، واقترنت بأفكار التقدم والتطور والتربية والعقل التي احتلت اللب في فكر العصر. ثماخذت الكلمة تتوسع في اللغات الاوربية الأخرى لتشمل تنمية الأرض بالمعنى المادي أو الحسي، وتنمية العقل والذوق والأدب بالمعنى المعنوي.
2/ اصطلاحا:
2-1/ في المعنى العربي:
ورد مصطلح الثقافة في مقدمة "طبقات فحول الشعراء" ما نصه :"وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان". وقدم ابن خلدون الثقافة في مقدمته الشهيرة على أنها العمران، وهذا ما نقرأه في قوله :"وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة، ويلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها"، ويقول أيضا :"فلا فرق بينهم وبين السوقة من الحضر إلا في الثقافة الشارة"، والذي هو من صنع الانسان، ويقول في هذا المجال إن الاجتماع الانساني ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم :"إن الانسان مدني بطبعه، أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم، وهو معنى العمران ." من أقدم التعاريف ما ذكره مالك بن نبي في قوله: "هي مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه ،"وجاء أيضا بأنها" الرقي بالأفكار النظرية، وذلك يشمل الرقي بالقانون والسياسة، والاحاطة بقضايا التاريخ المهمة ،والرقي كذلك في الأخلاق، أو السلوك وأمثال ذلك في الاتجاهات النظرية ."
ويعرفها آخرون ب أنها :"جملة العلوم، والمعارف، والفنون التي يطلب الحذق بها"، وعن الأليسكو في الخطة الشاملة للثقافة العربية نقرأ ما يلي:"الثقافة تشمل مجموع النشاط الفكري والفني بمعناها الواسع وما يتصل بهما من مهارات، أو يعين عليهما من وسائل، فهي موصولة الروابط بجميع أوجه النشاط الاجتماعي الأخرى متأثرة بها ،معينة عليها، مستعينة بها ."
وفي معجم الفلسفة، الثقافة هي: "كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب الذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد أو المجتمع، وتشتمل على المعارف والمعتقدات، والفن والأخلاق، وجميع القدرات التي يسهم بها الفرد في مجتمعه ،ولها طرق ونماذج عملية وفكرية وروحية، ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر، وهي عنوان المجتمعات البشرية".
أما حسين مؤنس فله رأي مغاير للتعاريف السابقة بحيث يرى أن الثقافة :"ثمرة كل نشاط انساني محلي نابع عن البيئة ومعبر عنها أو مواصل لتقاليدها في هذا الميدان أو ذاك، فالشعر الإنجليزي والموسيقى كلها مظاهر ثقافية، لأنها تعبر عن الطبيعة الانجليزية وطبيعة منشئيها، وكذلك الحال بالنسبة للأدب العربي والموسيقى العربية وتراثها الأدبي ،إذا كان صادقا في احساسه وتعبيره يعبر بطريقة عراقية، وألفاظه العربية التي يستعملها لها مذاق عراقي، وموسيقى هذه البلاد كلها موسيقى عربية، ولكن الفرق بعيد بين الموسيقى العراقية والمصرية والمغربية، وكذلك الحال بالنسبة للتصوير والنحت، فكلما كانت الظاهرة الحضارية أكثر إلتصاقا بطبيعة البلد الذي قامت فيه فهي ثقافة... إن الثقافة هي مجموعة المعلومات التي يقوم عليها نظام حياة أي شعب من الشعوب، فهي على هذا أسل وب حياته ومحيطه الفكري ونظرته إلى الحياة، ولابد أن تكون خاصة به، نابعة من ظروفه واحتياجاته وبيئته الجغرافية وتطور بلاده التاريخي الحضاري، فهي إذن محلية".
2-2/ المعنى الغربي
يعتبر تعريف تايلور -السابق الذكر- من أقدم التعاريف لمصطلح الثقافة في كتابه الثقافة البدائية-هناك أزيد من 160 تعريف للثقافة-، ومن التعريفات ذات النزعة المثالية بأبعاد جديدة هو تعريف كروبير وكلوكهون، اللذان يعدان من أبرز رواد الاتجاه التجريدي في تعريف الثقافة، وأكدا أن الثقافة هي :"نسق تاريخي مستمد من الأساليب الظاهرة والكامنة للحياة، التي يشارك فيها كل أعضاء الجماعة أو بعضهم."
أما مالينوفسكي فيعرفها على أنها تشمل المهارات الموروثة، الاشياء، الاساليب ، أو العمليات الفنية، والأفكار والعادات والقيم"، وهي "نتاج العقل الانساني عن تفكير وعلم وفن وآداب وتكنولوجيا"، واستخدم" ماكيفر وبيج" الثقافة للاشارة إلى كل ما صنعه شعب من الشعوب، أو أوجده بنفسه عن مصنوعات بدوية ونظم اجتماعية سائدة ." III/ العلاقة بين الحضارة والثقافة:
إذا كان البعض يعتبر الحضارة والثقافة لها نفس الاستخدام والدلالة، فإن البعض الآخر فصل بينهما، فالحضارة تشير إلى مجموعة من الثقافات الخاصة، بينها تشابه أو أصول مشتركة، وبالتالي نرى أن مفهوم الثقافة يرتبط وفق هذا الاستعمال بمجتمع معين ومحدد الهوية، في حين أن مصطلح "حضارة" يستخدم ليشير إلى مجموعات أكثر اتساعا وأكثر شمولا في المكان والزمان". إن كلا من الحضارة والثقافة يشيران إلى نمط الحياة العام للبشر، وما الحضارة إلا ثقافة كتبت بح روف كبيرة، كلاهما تتضمنان "القيم والمبادئ" والمؤسسات وأنماط التفكير، التي تعطي الأجيال المتعاقبة في مجتمع ما أهمية وأولوية"، إن الحضارة "فضاء" و"مساحة ثقافية"، "إنها توليف من خصائص وظواهر ثقافية،" وعرفت أيضا انها سلسلة متميزة من العادات والبناءات الثقافية ذات الشيوع الواسع بشقيها المادي والمعنوي والتي تشكل نوعا من الكيان التاريخي ."
أما دوركاي و موس فيعتبران الحضارة "نوع من البيئة الأخلاقية أو المعنوية وقد تضم في طياتها عدد من الأمم ،تمثل فيها كل ثقافة قومية فقط شكلا معينا من الحضارة ككل"، أما شينغلر فيرى أن الحضارة على أنها المصير المحتوم للثقافة، وهي أكثر احالات الظاهرية والاصطناعية التي تكون الأجناس البشرية المتطورة قادرة عليها ."
الثقافة تنشأ عن الحياة الاجتماعية البشرية من خلال سعي الانسان لابتكار سبل التكيف مع الظروف البيئية، ومحاولته بالتالي التحكم بالظروف المحيطة به، تختلف النظم الاجتماعية كما تختلف أنماط الثقافة في مدى شمولها ، فالانسان يكتسب الثقافة منذ مولده عن طريق التفاعل، فهي لا تنتقل بالوراثة لكنها تتكون من خلال التنشئة الاجتماعية أو الانتشار أو التثاقف أو الاستعارة أو التماثل أو الاستيعاب، ولا يدخل فيها السلوك الفطري والأفعال المنعكسة، ومع ذلك لا يمنع أن تكون بعض النظم الثقافية قد أوجدها الانسان لإشباع حاجات فطرية، كنظام جمع الطعام أو الصيد او الزراعة، وهي تكتسب عن طريق التعلم، ويمكن تطويرها كما تطورت قوانين التعلم وتقنياته، وبفضل اللغة يستطيع كل جيل أن ينقل خبراته بطريقة رمزية إلى الجيل الناشئ .
وفي الواقع يصعب التمييز أو وضع حدود فاصلة بين مفاهيم الكلمتين الآنفة الذكر، ولكن كلمة حضارة التي نستعملها في بحث تاريخ الحضارة نقصد بها كل ما ينشأ عن تفاعل الانسان والبيئة التي يعيش فيها أي كل ما يتعلق بحياة الشعوب من نظم اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية وفكرية، وهي في هذا المعنى تشمل دراسة جميع نواحي الحياة البشرية وتطورها .
IV/ معنى الأويكومين
في بداية كتابه عن " تاريخ البشرية " تحدث " أرنولد توينبى " عن مصطلحين جديران بالاهتمام فى فهم علاقة وعي الإنسان بحدود الأرض والكون وهما؛ المحيط الحيوي والأويكومين Oikouménè، وقد عرف المحيط الحيوي بأنه الموطن الوحيد الذي يمكن لجميع الكائنات الحية المعروفة بما في ذلك البشر من الحياة فيه، وهو عبارة عن الطبقة الرقيقة من سطح الأرض وما يغلفها من الماء والهواء لما يتوفر بها من موارد لا غني عنها لاستمرار الحياة. أما الأويكومين فهو الجزء المعمور بالبشر من العالم، أو بتحديد أدق الجزء المسكون بالمجتمعات المسماة متمدنة من الأرض .
كان الإغريق يتصورون حدود الأويكومين بأنه يمتد غربا إلى سواحل الأطلسي، وشرقا عند حدود الهند – هكذا تصور الإسكندر الأكبر أنه فتح حدود العالم أجمع بوصوله إلى الهند – وكانت الحدود الشمالية تقف عند البلاد
الاسكندنافية، والحدود الجنوبية عند الشريط المحاذي لسواحل البحر المتوسط ،أي ثلاث قارات: أوربا، إفريقيا )ليبيا( ،آسيا( وبعد هذه الحدود لا وجود لبشر.
كان هذا هو العالم الذي عاش فيه العقل الأوروبي منذ الأزمان الغابرة وخلال العصور الوسطى حتى عصر النهضة، وحدة مركبة صلبة من الأرض تتكون من القارات الثلاث المعروفة ) أو مجرد أجزاء منها ( فيما وراء ذلك يتلاشى فى الظلام البحر المحيط الضخم المجهول، ورغم أن الحضارات القديمة خاصة في مصر الفرعونية كانت ترسم الفلك على هيئة قرص نصف مستدير، وكان البابليون يتصورون كوكب الأرض على شكل قفة مقلوبة وطافية مثل القارب وسط البحر ، إلا أن الاعتقاد الذي ساد بعد ذلك، أن الأرض كانت مسطحة فى شكل مستطيل ، وقد ظل هذان المفهومان – حدود المعمور، وكون الأرض مسطحة – يسيطران على عقول البشر .
وحتى بعد أن أثبت فيثاغورس) 572- 497 ق.م( الشكل الكروي للأرض - عند نهاية القرن السادس قبل الميلاد - من خلال نظريته عن العلاقات الرياضية وتناغم الأعداد، وكذلك المؤرخ اليوناني استرابون الذي أوحى بوجود "عالمين مسكونين" عالم منهم داخل المحيط، مستشهدا بسلفه إراتوستينس ) 276-194 ق.م ( الذي دحض نظرية الأرض المسطحة وقام بأول حساب لمحيطها متخذا من أسوان والإسكندرية نقطتين لحساب طول القوس وزاوية سقوط الشمس، فتوصل لتقدير قريب من الحقيقة بقدر كبير لمحيط الأرض، وذلك أثبت كونها كروية )39375كلم مقابل 40007 كلم(، وعلى غرار أرسطو، اعتقد إراتوستينس أن العالم المأهول هو جزيرة عملاقة بها محيط واحد على سطح الأرض، ووضع رسام الخرائط الإ غريقي "كريتس Crates of Mallus" مجسما للكرة الأرضية في حوالي 150 ق.م، إلا أن معرفة العالم المأهول بقيت متواضعة، وحتى بعد كل ذلك ظل عديد من العلماء فى أوروبا من أفلاطون) 428-348 ق.م ( إلى دانتي) 1265- 1406م( يعتقدون فى حدود العالم المعمور وكون الأرض مسطحة.
ورغم أن العرب كان لديهم منذ ما قبل الإسلام معلومات جيدة في ميدان الجغرافية الفلكية والرياضيات ووصف الكون، فكانوا يعرفون الكواكب والنجوم التى يصل ضوءها إلى الأرض ويستدلون بها في رحلاتهم، وكان البعض منهم يعرف أثر القمر فى المد والج زر، وكذلك كان الملاحين يعرفون الانقلابين الربيعي والخريفي واتجاهات الرياح فى البحار خلال أوقات السنة، وقد اكتسبوا كل ذلك بالتجربة والمشاهدة، وقد تطورت معرفتهم بوصف الكون بعد الإسلام ،
ولم يكن هذا التطور دائما فى طريق الصواب لأن العرب نقلوا الكثير من أراء الهنود والإغريق وأقحموه فى مؤلفاتهم الجغرافية دون فهم كبير لهذه النظريات الوهمية.
فمنذ الهمداني ) ت 334 هج/ 942 م ( الذي كان أول من كتب في الجغرافية عام 291هج / 902م ، إلى ابن خلدون) 1332- 1406 م ( كان الجغرافيين والمؤرخين العرب يخلطون بين معلوماتهم عن الأرض ومواقع البلدان و التى كانت صحيحة فى غالب الأحيان ، وبين ما أخذوه عن غيرهم من معلومات قديمة والتي كانت نظرية تعتمد على أسس وهمية، فابن خلدون قسم فصوله الجغرافية فى المقدمة إلى قسمين : القسم الأول عن الفلكي الرياضي الذي يحاول فيه أن يبدو مستوعبا علم اليونان نقلا عن بطليموس، وهو الذي يعرض فيه تقسيم الأرض إلى سبعة أقاليم متفقا فى ذلك مع الهمداني وغيره من الجغرافيون العرب باعتبارها نطاقات هندسية تمتد من الشرق إلى الغرب محددة بدوائر العرض ، تشتمل على الربع المعمور فيما بين خط عرض 16 درجة إلى 50 درجة ويختلفون فيما بينهم اختلافا يسيرا فى تحديد عرض كل إقليم.
ويقول ابن خلدون أن الإقليم الأول يمر مع خط الاستواء وليس وراءه جنوبا إلا القفار والرمال ثم بعد ذلك البحر المحيط، ونفس الأمر بعد الإقليم السابع من الشمال وهو آخر العمران وليس وراءه إلا الخلاء والقفار إلى أن ينتهي عند البحر المحيط، وهذا الكلام كله نظري صرف ولا يطابق الحقيقة ، أما القسم الثاني فيتكلم فيه ابن خلدون عن الأقاليم السبعة وما فى كل منها من البلاد والمواقع موجزا كلام الادريسي ومستخدما تقسيمه المعمور إلى مستطيلات ليسهل وصف ما فيها، وكان الادريسي قد قسم الأقاليم السبعة إلى مربعات وبذلك استعمل خطوط الطول ورسمها ليتمكن من تقسيم المعمور كما كان وصفه للبلدان حقيقيا . وخرائطه حقيقية تعطى الناظر إليها فكرة صحيحة عن المواضع التى تصورها، كما صحح علماء العرب الكثير من أخطاء بطليموس وأهمها تصوره بأن المحيط الهندي والمحيط الهادي بحيرات مغلقة، ووسعوا حدود الم عمور بتقديم معلومات صحيحة عن الصين والقارة الأفريقية.
ومما آخذه العرب من الإغريق وأفاد منه الجغرافيون القول بأن صورة الأرض كرة، وقد اقتنع البعض بذلك وقدموا براهين جديدة عليها كما عند ابن رسته، وقد اختلفوا في وضع هذه الكرة وقال البعض أنها معلقة فى الفضاء يحيط بها بحر واسع يسمى البحر المحيط، واليابس طاف فوق مياه هذا البحر ويتكون من النصف الشمالي ، وإقليمان فى جنوب خط الاستواء ، وما يلي ذلك غير مسكون بسبب شدة الحرارة، وفى كل خرائطهم نجد ساحل الصومال يمتد شرقا موازيا لسواحل آسيا الجنوبية حتى بحر الصين، وهذا دليل على تصورهم غير الواضح لنصف الكرة الجنوبي . وهكذا نرى الجغرافيون العرب من اليعقوبى ) ت 278هج/ 891 م ( مرورا بابن خرداذبة والمسعودى وحتى الادريسي) 492- 560 هج/ 1195 – 1164 م( وابن خلدون) 1332- 1406 م( يخلطون بين ما عرفوه وشاهدوه وبين ما نقلوه عن اليونان والهنود، ولكنهم فى النهاية يعتقدون فى أن الأرض مسطحة، وفى حدود معينة للجزء المعمور منها.