لخّصلي

في النفس الانسانية قوتان قوه التفكير وقوه وجدان وحاجه كل واحدك منهما غير حاجه اختها فأما احداهما فتنقب عن الحق لمعرفته وعن الخير للعمل به واما الاخرى فتسجل احساسها بما في الاشياء من لذه وألم والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بعذين الجناحين فيؤتيها حظها من الفائده العقليه والمتعه الوجدانيه معاً
فهل رأيت هذا في كلام الناس؟
لقد عرفنا كلام الادباء والشعراء فما وجدنا من هؤلاء ولا من هؤلاء الا غلواً في جانب وقصوراً في جانب فأم الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك ولا تتوجه نفوسهم الى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من حفاف وعري ونبو عن الطماع واما الشعراء فإنما يسعون الى استثار وجدانك وتحريك اوتار الشعور من نفسك فلا يبالون بما صوروه لك ان يكون غياً او رشداً وان يكون حقيقه او تخيلاً فتراهم جادين وهم هازلون ويستكبرون وان كانوا لا يبكون ويطربون وان كانوا لا يطربون
وكل امرئ حين يفكر فإنما هو فيلسوف صغير وكل امرئ حين يحس ويشعر فإنما هو شاعر صغير فسل علماء النفس هل رأيتم احداً تتكافأ فيه قوه التفكير وقوه الوجدان وسائر القوى النفسيه على سواء ولو مالت هذه القوى الى شي من التعادل عند قليل من الناس فهل ترونها تعمل في النفس دفعه وبنسبه واحده يجيبونك بلسان واحد كلا بل لا تعمل الا مناوبه في حال بعد حال وكلما تسلطت واحده منهن اضمحلت الاخرى وكاد ينمحي اثرها فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوه وجدانه والذي يقع تحت تأثير لذه او ألم يضعف تفكيره وهكذا لا تقصد النفس الانسانيه الى هاتين الغايتين قصداً واحداً والا كانت مقبله مدبره معاً ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه )
فكيف تطمع من انسان في ان يهب لك هاتين الطلبتين على سواء وهم لم يجمعهما في نفسه على سواء وما كلام المتكلم الا صوره الحال الغالبه عليه من بين تلك الاحوال هذا مقياس تستطيع ان تتبين به في كل لسان وقلم اي القوانين كان خاضعاً لها حين قال او كتب فإذا رأيته يتجه الى تقرير حقيقه نظريه او وصف طريقه علميه قلت هذا ثمره الفكره واذا رأيته يعمد الى تحريض النفس اوتنفيرها وقبضها او بسطها واستثاره كوامن لذتها او ألمها قلت هذا ثمره العاطفه واذا رأيته انتقل من احد هذين الضر بين الى الاخر فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه كما ينتقل من غرض الى غرض عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه
واما ان اسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا ويجمع في يديك هذين الطرفين معا كما يحمل الغصن الواحد من الشجره اوراقا وازهارا واثمارا معا او كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الاخضر فذلك ما تظفر به في كلام بشر ولاهو من سنن الله في النفس الانسانيه
فمن لك اذا بهذا الكلام الواحد الذي يجئ من الحقيقه البرهانيه الصارمه بما يرضي حتى أولئك الفلاسفه المتعمقين ومن المتعه الوجدانيه الطيبه بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين ذلك الله رب العالمين فهو القادر على ان يخاطب الغقل والقلب معا بلسان وان يمزج الحق والجمال معا يلتقيان ولا يبغيان وان يخرح من بينهما شرابا خالصا سائغا للشاربين وهذا ما تحده في كتابه الكريم حيثما توجهت الا تراه في فسحه قصصه واخباره لا ينسى حق العقل من حكمه وعبره
او لا تراه في معمعه براهينه واحكامه لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق وتحذير وتنفير وتهويل وتعجيب وتبكيت وتأنيب يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها