لخّصلي

مقدمة المترجم
فى مطلع عام ١٩٣٨ جاء المستشرق الفرنسى ليفى بروفنسال إلى القاهرة، بدعوة من كلية الآداب فى الجامعة المصرية إذ ذاك، وألقى برعايتها، فى مارس من العام نفسه، ثلاث محاضرات فى الجمعية الجغرافية الملكية بالقاهرة عن: «الحضارة العربية فى إسبانيا» باللغة الفرنسية، وجمع هذه المحاضرات فى العام نفسه، وأضاف إليها موجزا بالمصادر الهامة التى عاد إليها، وملحقا بالتواريخ البارزة فى تاريخ الأندلس، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا، وطبع ذلك كله باللغة الفرنسية فى القاهرة، وصدرت الطبعة الأولى منه بعد شهرين من إلقاء المحاضرات، أو إن شئت الدقة فى ٣٠ من أبريل عام ١٩٣٨،
بعنوان : ؤcivilisation La générale Vue ,Espagne en arabe - الحضارة العربية فى إسبانيا نظرة مجملة.

الفصل الا ول
( الغرب الإسلامى والحضارة العربية الإسلامية )
"المساهمات الثقافية والعلمية في تشكيل الحضارة الإسلامية وتأثيرها على التطور الغربي"
عدد محدود فحسب بين مؤرخى الإسلام والمسيحية فى العصور الوسطى استطاع فيا يبدو، حتى هذه اللحظة، أن يفسح المجال لتعبير سهل، وواضح الدلالة، كى يأخذ مكانه من الحياة، هذا المصطلح هو تعبير «الغرب الإسلامى»، والذى أود قبل أى شيء أن أدافع عنه، وأن أبرر استخدامه الذى شاع منذ عهد قريب، وهو ينصرف إلى مجموعة جغرافبة بالغة التناسق فيا بينها، وتقع على جانبى غرى البحر المتوسط، وتمتد حتى سواحل الأطلنطى وتشمل شيال إفريقيا وشبه جزيرة إيبريا.
فالغرب الإسلامى مساحة من العالم القديم توطد فيها الإسلام، حاملا معه بناءه الاجتراعى إلى أهلها، ومثله الخلقية، والثقافة التي يمثلها، ولكن هذه الأرض فى الوقت نفسه نائية، وبعيدة عن مركز الإسلام بالنسبة إلى غيرها من المناطق التى شهدت ظهوره، وطلائع وثبته الرائعة التى بلغها فيا بعد.
كان الناس من قبل، وبعضهم لما يزل حتى اليوم، يطلقون عليه اسم «المغرب»، وهو تعبير يبدو للوهلة الأولى أنه يماثل تماما قولنا «الغرب الإسلامى » ويفضله فى أنه لم ينتظر حتى عصرنا هذا ليدخل دائرة المصطلحات الجغرافية عند العرب. ولكن، هل نحن فى حاجة لأن نذكر أن اسم «المغرب»، وكان فييا يبدو يعنى بلاد البربر وإسبانيا فى الأيام الأولى، إنكمش معناه سريعا فلم الحالية، أو يعد يشمل غير غرب شيال إفريقيا، ولم تعد تونس أفريقية كا تعرف فى المصادر العربية القديمة، وشبه جزيرة إيبريا، أو أندلس العرب، من باب أولى، تدخل فى نطاق مفهومه. يمكن القول إن هذا مجرد جدل لفظى بحت، لأن شيال إفريقية وإسبانيا ارتبطا، وهو أمر منطقى ولبيعى، بعلاقات سياسية، وصلات ثقافية، يقتضيها وينميها نجاورهما الجغرافى وبخاصة عندما أخذت العقيدة الدينية المشتركة توجه، وحى توحد، عند الجانبين بعض مطامحهما المشتركة. ولكن ذلك لم حل دون أن يكون لكل واجد منا كيانه المنفصل، ونظامه المتميز، وأمراؤه المستقلون به، ويتبادلون العداوة أحيانا مع أمراء البلد الآخر، وله أخيرا مثله الأعل، ولم يستطع الإسلام أن يجعله مشتركا عل الدوام، ويمكن أن نؤكد أن مثل هذه الأخطار ليست خاطئة كلها، ومع ذلك لا تمثل أيضا الحقيقة الدقيقة بصدق، لأن الغرب يؤلف وحدة فى نطاق العالم الإسلامى، فى جانب من أقصى طرفيه، عالما قائرا بذاته، أقرب ما يكون إلى أوربا المسيحية من جانب، وبعيدا معزولا عن الشرق بالمسافات الشاسعة، والعوائق الطبيعية من جانب آخر، ومثل هذه الظروف كثيرا ما كانت شديدة الوطاة عل مصائره السياسية، وأكثر من ذلك تركت تأثيرا بالغا فى اوساطه الاجتاعية وفى ثقافته .
ومن الضرورى أن يعيش المرء أعواما طويلة فى بلد كالمغرب، لما يزل يحتفظ بطابع حضارته فى العصر الوسيط كاملا غير منقوص، وأن يقيم فى جنوب إسبانيا زمنا، وأن يكون شغوفا باستنطاق الآثار العربية فى إشبيلية وقرطبة وغرناطة خلال الجو الرقيق المثير الذى تسبح فيه، ليشعر حقا أن بين ما كان وانتهى ، وبين ما بقى ولم يذهب، ليس مجرد مظهر بسيط غامض من مظاهر القرابة بينهما .
علي الرغم من صروف الدهر ثناء حروب الاسترداد المسيحية ظلت العاصمة الثقافية هذا الغرب فى إسبانيا دون انقطاع : فى قرطبة أولا، ثم عواصم مقاطعات أخرى متعددة فيا بعد، وفى غرناظة اخيرا.
وندرك أن أرض الأندلس، مها كان مركزها السياسى، لم تفقد أبدا منزلتها كزعيمة للفكر، واحتفظت بكل إشعاعها، حتى بعد أن خضعت فى عهدها الإسلامى للحكم الإفريقى من المرابطين والموحدين، وسرعان ما فتنت سادتها الجدد فاستسلموا لسحرها، وجعلوا منها مجل إقامتهم المفضلة.
لكن مصطلح ... الإسلامي لا يحد من يرفضون مفهومه الخاص فحسب، وإنما له خصوم آخرون كثيرون فى أوربا، وحتى بين المتخصصين اللامعين فى دراسات العصور الوسطى ، يرون أن شمال إفريقيا وإسبانيا كليها، كل واحدة من جانبها، لا تشكلان غير امتدادات بعيدة، وظلال شاحبة، لمشرق الإسلام.
وهذا الزعم الباطل نفسه، ولما يذهب تماما، جعل كثيرا من المؤرخين يقدرون بيزنطة «مقارنة بذكريات روما الظافرة »، ودفع بهم ألا يروا فى المغرب والأندلس، خلال العصر الوسيط، سوى امتداد هزيل، وانحطاط سياسى عميق، لعصر الإسلام الذهبى فى المشرق، ومآثره فى سورية والعراق ومصر ثابتة ومدونة. ولم يخطر ببال هؤلاء المؤرخين ولو للحظة واحدة، وبخاصة فييا يتصل بإسبانيا، أن يحاولوا إظهار القدر الهائل الذى اضطلعت به فى تطوير العالم الأورى إبتداء من القرن الحادي عشر الميلادي وفي تحسين بعض جوانب الحياة المادية .
وكل هذا يجلعنا نلحظ أن كل ما يوحى به تعبير «الغرب الإسلامى» فى حد ذاته، وما يحتاجه من تصرف، شأنه فى ذلك شأن الاعتبارات الأولى التى نحاول جاهدين أن نبرهن عليها. ولا يمكن الشك بأن الحضارة التى ازدهرت فيه خلال القرن العاشر يمكن أن نطلق عليها اسم «الحضارة العربية الإسبانية» لأنها نشأت وليدة تأثرات مختلفة فى شبه جزيرة إيبريا نفسها، وفاضت بكاملها، و امتدت عل نطاق واسع إلى المغرب وليس، كيا يظن أحيانا فى جانب واحد فحسب من أجمل جوانبها، وهو الفن المسمى بالفن الإسباى العرى، والعناصر الرئيسية التى تتألف منها هذه الحضارة العربية الإسبانية تكون الخطوط العامة التى تمنحها كل الأصالة فى مختلف جوانبها، ونحاول الآن توضيح هذه الخطوط فى نظرة سريعة ومجملة.
الحضارة العربية الإسبانية دون أن ننظر إليها أولا، ولو من خلال بعض الأمثلة البسيطة؛ فى نطاق إطارها الطبيعى ذاته، ودون أن نشير ولو بصورة موجزة إلى تتابع الظروف السياسية التى سهلت نشوءها وازدهارها.
يتجل وجه الشبه العميق بين جنوب إسبانيا وشغال المغرب فى تكوينيا الأرضى، ولا يفصل بينيا إلا حاجز مائى عميق، ولكنه ضيق الاتساع، وعندما يجتاز المرء هذا الحاجز، وأعنى به مضيق جبل طارق، من أى جانبيه شاء، تأخذه الدهشة بما يرى من تشابه يكاد يكون تاما بين البلدين. فهناك كيا هنا سلاسل من الجبال. العالية تغوص آخر ثناياها فى البحر المتوسط، ونجد فى العالية كلا الجانبين المزروعات والخضروات والبساتين والفواكه وحقول الزيتون، وبعيدا، فيا وراء هذه الجبال، يزداد التشابه وضوحا، إذا جاز لنا القول، فوديان الأندلس الغنية ها ما يقابلها فى سهول المغرب الخضراء، وإذا توغلنا أبعد من هذا فسوف نلتقى فى شبه الجزيرة بمرتفعات لامنتشة وقشتالة الجديدة، وها ما يقابلها فى مرتفعات المغرب الوسطى، وهى ملامح قوية الشبه فييا بينها، ويطلق عليها التقنيون الإسبان الاسم نفسه، وهو meseta بمعنى نجد أو هضبة، وماذا عن أوجه التشابه بين جوانب الحياة فى المدن؟ يكفى أن نذكر أنه لا توجد مدينة فى المغرب يسكنها الموسكيون المسلمون، وهم الذين طردوا من إسبانيا، أو يشغلون حيا منها، إلا واحتفظت فى شغف بالغ بطابع الحياة فى المدن الأندلسية.
وجد شمال أفر بقيا نفسه مدعوا، منذ ن فتح العر إسبانيا، لكى يلعب دورا بالغ الأهمية فى إعادة تعمير شبه الجزيرة بالسكان، لأن العلاقات التاريخية بين البلدين خلال العصر الإسلامى تعود إلى أيام الإسلام الأولى، وبدأت منذ نهاية القرن الأول للهجرة، ولقد كان بربر المغرب هم الذين تولوا عملية الفتح أولا، وتم ذلك لتساب المشرق الإسلامى، ومنذ اللحظات الأولى بددا الأندلس يستقبل افواجا عديدة من العرب الخلص، ولكنه فى الوقت نفسه استقبل أعدادا أكثر من الأفارقة المسلمين. ولم يلبث أولئك وهؤلاء أن تمازجوا مع السكان الأصليينباستثناء بعض القرى الصغيرة المنعزلة فى الجبال، واستعصى سكانها على التحول والامتزاج زمنا طويلا. شكل الوافدون من العرب نواة الأرستقراطية والبرجوازية وقد فى المدن، وسرعان ما تلقوا إمدادات بالغة الأهمية من المسلمين الجدد، أى من سكان شبه الجزيرة الأصليين الذين تزايد دخولهم فى الإسلام، دين الفاتحين، بمحض إرادتهم فى معظم الحالات، هروبا من الجزية، أو رغبة فى حياة مادية أفضل، ونتج عن ذلك، وبسبب التزاوج بين الجانبين، أن ازدادت الصلات وثوقا وتماسكا عل مر الزمن بين المسلمين القدامى والمسلمين الجدد .
أو العقد الأول من القرن الذى تلاه فى أبعد الأحوال، كيفت مجموعة من الشعب الإسباى حياتها مع موطنها الجديد، وأصبحت تكون نواة بالغة الأهمية فى نطاق شعب إسبانيا الاسلامية، واخذت هذه النواة تتزايد باستمرار، سواء من توالى الدخول فى الدين الجديد، أو عن طريق موجات كبيرة من المهاجرين، وامتدت لزمن لا بأس به، وجذبت إلى شبه الجزيرة أولئك الراغبين فى ترك أوطانهم، طواعية أو مكرهين.
هذا الشعب الأندلس المسلم بدأ عفويا يحس بأصالته الذاتية والواقعية فى مطاه السياسية، وأشد من دلك وأقوى فى حياته الثقافية. ومع ذلك لم يلبث المتعلقون بالإسلام وشريعته، ومثله الدينى الأعلى، تعلقا ودودا وشديدا، أن تميزوا عل نحو واضح ، فى أهم مظاهر حياتهم اليومية، ونماذج أزيائهم، وطريقة ارتدائها، وفى مهاراتهم الحرفية والزراعية، لكى يبدو سريعا أمام أنظار بقية العالم الإسلامى، لا كغرباء عنه، وإنما علي الأقل كأقارب بعيدين، كأشقاء باعد بينهم تراخى الروابط العائلية، وإقامتهم النائية .
وقد ساعدت الظروف السياسية الوقتية على هذا النوع من الانفصال المعنوى، ومضى يكبر مع الزمن شيئا فشيئا، عندما تهاوت أول إمبراطورية عربية فى المشرق، وأدى ذلك إلى انفصال إسبانيا الاسلامية عنها، واستقلاها عن سادتها البعيدين، وقدمت نفسها إلى واحد من أحفاد الأسرة التى انتزعت منها الخلافة، وأقامت لنفسها منذ ذلك الوقت أسرة حاكمة خاصة بها، واستقلت بنفسها عن أفريقية واسيا معا.
لم يكن تاريخ إسبانيا الإسلامية فى الواقع حتى نهاية القرن الثامن الميلادى، أقل غموضا من تاريخ بلاد البربر فى الغرب، فهنا وهناك ولاة من العرب أنفسهم، مهمتهم أن يعملوا، أو يحاولون أن يعملوا، عل بث احترام سلطة رئيس الجماعة الذى يقيم فى دمشق، وما لبث أن أصبح مجرد سلطة اسمية فى وقت قصير.
ولم يكن الغرب الإسلامى يشكل فى ذلك غير مجموعة من المقاطعات فى إمبراطورية مترامية الأطراف، لم يطل با الأمر حتى تفككت أوصالها، وتحولت إلى مجموعة من الإمارات المستقلة، وسرعان ما أتيحت الفرصة المناسبة أمام مؤسسيي هذه المالك، عندما أى رد الفعل العباسى عل البناء الأموى، ومالت سوريا ودمشق فى موقفها الراجح إلى جانب العراق وبغداد. صحب هذا التغيير فى نظام الحكم اضطرابات عديدة وعنيفة .
كان الأموى القادم عبد الرحمن بن معاوية، وحمل لقب الداخل فيما بعد، حفيد هشام بن عبد الملك، ولحظ أن المجال فى شبال أفر يقيا غير ممهد له، وأن الريح غير مواتية هناك، فولى وجهه شطر إسبانيا، وما لبث أن استولى عليها، وأطاح بحكم الوالى العرب الذى كان يديرها من قرطبة كأمير مستقل، ولو أن سلطته كانت واهية، وبالغة الضعف، وأقام على أنقاضه دولة الأمويين فقى إسبانيا، وحققت مع الزمن مجدا تليدا، وإن شئت الدقة، أعاد فى أقصى نقطة من الغرب الإسلامى بناء دولة أجداده التى ازدهرت فى دمشق، ومنذ عام ١٣٨ هـ - ٧٥٦ م أصبح سيد قرطبة، وجعل منها عاصمته، ووقف عليها جهده، لكى تأخذ طابع العاصمة المشرقية التى طرد منها، فعل ذلك ولما مض غير نصف قرن وسنوات عل نزول أول دفعة من العرب الفاتحين.