لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (83%)

لماذا نشغل بالنا ببداية القيادة ونشأتها؟ وفي الواقع، ما الذي يعد بداية؟ حسنًا يمكننا البدء بأن نفترض أن «البداية» لباحثي القيادة هي بداية التاريخ المدون، لا بداية وجود الجنس البشري. كان لدى جميع الأنظمة والمجتمعات — باختلاف أحجامها وقدمها — نوع ما من القيادة عادة، لا يعني هذا الأمر بالضرورة أن القيادة كانت دائمًا — وستظل دائمًا — مهمة وأساسية، ناهيك عن كونها تختص فقط بالذكور، ولكنه يشير إلى أن هناك دومًا حاجة لوجود قائد طوال الوقت. كيف يمكننا إذن أن نثبت أن القيادة أمر ضروري، أو أن أنواع وأساليب القيادة قد تغيرت عبر المكان والزمان.اعتمدت معرفتنا بالقيادة بقدر كبير في العصور السحيقة أساسًا على وجود النصوص المكتوبة، وهنا نجد الدرس الأول الذي تعلمناه عن القيادة: يُكتب التاريخ، بوجه عام بأيدي الفائزين، وينطبق هذا على كل من القادة العسكريين الناجحين والجماعات السياسية الناجحة، ففي الفئة الأولى قد نتأمل في — ونتساءل عن — الكيفية التي وصل إلينا بها هذا الكم الكبير من المعلومات عن انتصارات الإسكندر الأكبر أو يوليوس قيصر ، مع عدم توافر إلا القليل عن سبارتاكوس ، لكننا لا نعلم شيئًا تقريبًا عن مئات من ثورات العبيد التي هزت مجتمعات الاستعباد في العصور الماضية. لا شك في أن الإسكندر أو يوليوس قيصر كتبا تاريخ انتصاراتهما بأنفسهما أو كلفا محترفين بكتابته بأمر سلطوي منهما، في حين لم يترك سبارتاكوس أي نصوص مكتوبة، والقليل جدًّا من قادة العبيد الآخرين هم من ورد ذكرهم في نصوص سادتهم المكتوبة. يجب أن أقدم تحذيرًا تمهيديًّا لقراءة أي مواد عن القيادة الكلاسيكية — وكذلك أي مواد عن القيادة المعاصرة — وهو أن ننتبه إلى المصدر، فسجلات الأحداث ليست ناقلًا محايدًا للمعلومات الحقيقية، ولكنها تكون متحيزة بهدف تحقيق أغراض معينة.كتابة هذه الأحداث التاريخية في المقام الأول تعتمد — إلى حد ما — على احتوائها على أي معلومات ذات أهمية. نميل إلى تسجيل الأحداث غير المعتادة أو الاستثنائية إلى حد ما، لا توجد لدينا أي معلومات قيمة عن أسلوب إدارة إحدى المزارع الصينية الصغيرة منذ ٢٠٠٠ عام، أو عن القيادة في حقبة السلم النسبي بين قبائل السلتيين في بلاد الغال في الحقبة الزمنية نفسها، ولكننا نمتلك سجلات عن الحروب التي قامت بين السلتيين والرومان في هذا الوقت، ولدينا بعض النصوص المكتوبة عن قادة الحرب الصينيين في هذا الوقت. فإن النصوص التي وصلت إلينا وتتعلق بالحروب بين بلاد الغال والرومان نصوص رومانية: أولًا، لأن السلتيين كانوا مجتمعًا أميًّا سادته الثقافات الشفهية، أقول مرة أخرى إن ما يستمر طوال حقب زمنية طويلة هي النصوص المكتوبة والآثار، لذا فإن فهمنا لأساليب قيادة المجتمعات الأمية، اعتمد في الغالب على نصوص الآخرين، التي تقلل من قدر هذه المجتمعات. التي سبقت القراءة والكتابة والتي حصلنا عليها من السجلات الأثرية، يمكننا القول إن فترات السلم والتعايش بين القبائل المتجاورة — ذات القادة المؤمنين بالإنسانية — كانت قليلة ومتباعدة.إذن يتضح أن الحرب كانت من المكونات الرئيسية في تطورات ممارسة القيادة الأولى، فمن «سرجون الأول» (حوالي ٢٣٣٤–٢٢٧٩ قبل الميلاد) ملك الدولة الأكادية فيما يعرف الآن بالشرق الأوسط، إلى رمسيس الثاني ملك مصر، ومن الحضارة الكريتية الأولى التي قامت تقريبًا في عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد إلى الحضارة الهارابانية بوادي السند في نفس الوقت، مرورًا بمستعمرات هوانج هو المسورة في الصين، أدركنا أن القيادة العسكرية لعبت دورًا مصيريًّا في السعي إلى البقاء والهيمنة. مرة أخرى أقول إن هذا لا يعني إصرارنا على أن القيادة قد نشأت في الحرب أو أن القيادة العسكرية هي أهم عناصر القيادة الكلاسيكية؛ فالأمر بكل بساطة هو أننا لا نمتلك معلومات كافية عن هذه العصور تمكننا من تأكيد أو إنكار هذا الأمر، ولكن يبقى الحال على أن بعض أهم الكتابات القديمة عن القيادة تتعلق إما بشن الحروب، وهو ما أشار إليه واضع النظريات العسكرية البروسي كارل فون كلاوسفيتز بأنه «امتداد للسياسة بوسائل أخرى»، ينطبق هذا الأمر بالأخص على الحقبة الكلاسيكية وحقبة النهضة، اللتين سنستعرضهما أولًا قبل الانتقال إلى الأدبيات الأكثر حداثة.١) دراسات القيادة الكلاسيكية
نجد كتاب «أرتاشاسترا» لمؤلفه كوتيليا ، الذي كُتب حوالي عام ٣٢١ قبل الميلاد من أجل مملكة موريا التي تُعرف الآن بالهند، والذي تضمَّن مجموعة من النصائح والتوجيهات العملية التي على القادة أن يضعوها في اعتبارهم، ولكن ربما كان أقدم نص مكتوب حقق نجاحًا كبيرًا في زمانه ومكانه — الصين القديمة — وما يزال يخلب لب مديري الشركات التنفيذيين حتى الوقت الحاضر هو «فن الحرب» من تأليف صن تزو (٤٠٠–٣٢٠ قبل الميلاد). لم يتضح حتى الآن حقيقة من ألف الأقوال المأثورة التي تكون منها كتاب «فن الحرب»، وربما كان أتباع وتلامذة صن تزو هم من كتبوا الكثير منها. النص نفسه يقترح هذا الافتراض بسبب بنيته الحوارية، مع مشاركة العديد من الشخصيات في مناقشة تُجرى تحت إشراف المعلم صن. تظهر الرسالة المحورية عن القيادة بوضوح: «تقع مسئولية جموع المقاتلين التي تتألف من مليون رجل على عاتق رجل واحد، فهو من يُطلق روحهم القتالية» (مانوفر ٢٠). يبدأ كتاب «فن الحرب» في عرض لوحات حوارية تدور حول أهم عناصر الاستراتيجيات والتكتيكات الحربية ليستفيد منها القادة العسكريون. بالنسبة للعقلية الغربية، ولكن على نحو مناسب للجوهر المعتدل لأصولها الطاوية، أن أحد أهم الدروس المستفادة من كتاب «فن الحرب» هو أن القتال آخر الخيارات التي يجب على القادة العسكريين اللجوء إليها، نظرًا لأن: «الذين ينتصرون في جميع المعارك لا يتمتعون حقًّا بالمهارة، وإنما أفضل القادة هم هؤلاء الذين يجعلون جيوش الآخرين لا حول لها ولا قوة دون قتال» (التخطيط لحصار المدن). يصر صن تزو بعد ذلك على أن الاستراتيجية هي أهم عناصر النصر؛ لأن فن الحرب هو فن تفادي الصراعات غير الضرورية.يعتبر «الجسر الذهبي » نتيجة طبيعية لهذه الفلسفة: إذا كان يجب عليك أن تقاتل، فتجنب الصراعات المباشرة إذا كان هذا ممكنًا؛ لأن هذه المواجهات مكلفة من حيث الموارد والأرواح وأخطر من مجرد مهاجمة خطط العدو وخطوط إمداده، أما إذا اضطررت لمواجهة العدو وجهًا لوجه — ولكنك لست واثقًا من هزيمته هزيمة منكرة — فعليك أن تترك «جسرًا ذهبيًّا»؛ أي طريق هروب لأعدائك لينسحبوا من خلاله، وإلا سيضطر أعداؤك للقتال حتى النهاية، ومرة أخرى ستكون العواقب وخيمة.النصيحة الثانية المثيرة للجدل هي إحراق جسورك: بمعنى التزم وإلا تحمل العاقبة. يقول صن تزو: «عندما يضع القائد لقواته هدفًا لتُحَقِّقَهُ، يكون كما لو كان صعد إلى مكان عالٍ وألقى بالسلم بعيدًا.» هذه القاعدة عكس قاعدة الجسر الذهبي تمامًا، لأنه إن شعر رفاقك بالخطر ورأوا طريقًا ميسرًا للهرب، ولكن إذا لم يجدوا طريقًا للهرب — الأمر الذي يُطلق عليه صن تزو «الأرض الميتة » — فسوف يلزمون أنفسهم بالقتال من أجل البقاء، وهذا هو نوع التزام الأتباع نحو قائدهم الذي يعكس الجذور الطاوية لعمل صن تزو. وكما يقول في «الأراضي التسع»: «ضعهم في موقف لا مهرب منه وسوف يموتون قبل الهرب.تمسك صن تزو برأيه أن الأمور العسكرية يجب أن تُترك في يد الخبراء العسكريين وليس في يد السياسيين الذين يتحكمون بهم، حيث يقول: «إذا قلت إنه على الجنرال أن ينتظر أوامر السادة في مثل هذه الظروف فكأنك تخبر رئيسك بأنك ترغب في إخماد حريق. أو كما افترض في «المتغيرات التسع»: «هناك حالات لا يجب فيها طاعة أوامر السادة … فعندما ترى التصرف الصحيح أمامك،في نفس الوقت تقريبًا الذي كان يدرس فيه صن تزو القيادة العسكرية في الصين، كان أفلاطون (٤٢٧ / ٤٢٨–٣٤٧ قبل الميلاد) يحذر الإغريق من أن نهضة القيادة السياسية المعتمدة على الديمقراطية لا تمثل ازدهار الثقافة الإغريقية بقدر ما تمثل تهديدًا مباشرًا للحضارة الإغريقية، فقد نتج عن نظام انتخاب القادة نوع من الهرج والمرج لا منتدى للنقاش الجاد كما كان يرى أفلاطون؛ لأن هذا من شأنه أن يشجع القادة المحتملين على أن يرضوا أدنى غرائز حشود الغوغاء — «الحيوان الكبير والخطر» — التي انتشرت في الكثير من كتاباته عن هذه المسألة. يفترض أفلاطون في كتابه «الجمهورية» أن الغوغاء قد يكونون على استعداد لأن يخاطروا بمجتمعهم (الذي هو كالسفينة) عن طريق انتخابهم لأي شخص يعدهم بمكاسب أكبر. بدلًا من الإبحار تحت قيادة شخص مؤهل على النحو الأكمل ليكون قائد السفينة (أحد الملوك الفلاسفة بحسب تعبير أفلاطون)، تضمن الديمقراطية أن الغوغائي الذي له شعبية هو من سيسود، ومن ثم يقود السفينة لتصطدم بصخور الكوارث.ولكن كيف يمكننا تمييز الشخص الأقدر على القيادة؟ عند أفلاطون، من البديهي أن نميز مهارات الناس عن طريق الأخذ بعين الاعتبار تخصصاتهم: لن نسأل البستاني أن يصنع لنا قاربًا أو أن نطلب من المزارع أن يدير اقتصاد الدولة. ولكن ما أصاب أفلاطون بالإحباط الشديد أنه عندما يتعلق الأمر بالمعرفة «الأخلاقية»، لهذا السبب بالذات عارض أفلاطون السفسطائيين وأيزوكراتيس الذي علم الناس فن الخطابة؛ لأنه يشجع على هيمنة الشكل على المضمون. والأهم من كل شيء أن أفلاطون خشي أن يفسد النظام هؤلاء الذين يعتزمون القيادة بطريقة أخلاقية من أجل تحقيق الخير للمجتمع، وحيث إن صحة المجتمع أمر أساسي للقادة، فلا بد من أن يدمر القائد الفاسد «مجتمعه». واتفق أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ قبل الميلاد)، أحد تلامذة أفلاطون، على أن أثينا تتعرض للهجوم على يد القادة الفاسدين، ولكن اختلف رد فعله إزاء المشكلة. كتب أرسطو جزءًا من كتابه «الخطابة» كعرض ﻟ «حيل الخطابة»، التي كان يؤمن بأنها تفسد الحياة العامة في أثينا.٢) دراسات القيادة في عصر النهضة
ظهر بعد أرسطو بحوالي ١٨٠٠ عام، كتاب سيطر على الكتابة عن القيادة، ليس فقط في وقته بل في وقتنا الحالي أيضًا. لم يكن كتاب «الأمير» لكاتبه نيكولو مكيافيلي كتابًا شهيرًا، بل كان على العكس أقل النصوص شهرة في القرن السادس عشر. ولا شك أن مكيافيلي كان سيجد في هذا الأمر مفارقة مزدوجة؛ لأنه كتب «الأمير» بغرض استعادة بعض من مصداقيته وشهرته السياسية لدى أصحاب عمله السابقين. لأنه كتب هذا الكتاب كعمل وصفي لا نصي. أصر مكيافيلي على أنه كتب هذا الكتاب ليصف عالم السياسة على حقيقته، لا كما يجب أن يكون في صورة مثالية أسطورية غير قابلة للتحقيق. فقد تشرب كتاب «الأمير» بالواقعية السياسية مما أدى إلى استنكار القادة الدينيين والسياسيين فورًا له في ذلك الوقت، ولكن هذه الواقعية السياسية تفسر أيضًا سبب شهرته في الوقت الحاضر. معتمدًا على النظريات بل على الحقائق التاريخية، ولكن الكنيسة الكاثوليكية حَرَّمَتْه ووضعته في قائمة الكتب المحظورة.كتب مكيافيلي كتاب «الأمير» في الفترة ما بين عامي ١٥١٣-١٥١٤ عندما انهارت بلاده بسبب الحرب الأهلية والاحتلال الخارجي. سعى مكيافيلي لتأليف كتاب إرشادي يسترشد به جميع القادة السياسيين، سادته والقادة السابقين لفلورنسا. لم يكن «الأمير» مجرد كتاب كتبه ليلقى الحظوة لدى عائلة ميدِتشي فحسب، بل أصبح نداءً للجهاد للدفاع عن فلورنسا وإيطاليا — عن طريق الهيمنة الفلورنسية — ضد «البرابرة» الذين يقصد بهم الغزاة الإسبان والفرنسيون.من بين الأشخاص الأساسيين الذين تمثل بهم مكيافيلي في كتابه «الأمير»، الابن غير الشرعي لرودريجو بورجيا الذي أصبح البابا ألكساندر السادس في عام ١٤٩٢. قاد سيزار بورجيا الجيوش البابوية وهدد استقلال فلورنسا، ولكن لاحظ مكيافيلي نوعًا مختلفًا من القادة في سيزار؛ لأنه كان الرجل الذي قتل أحد ضباطه (ريميرو أوركو) عندما اتضح له أنه استخدم القسوة غير المبررة خلال سيطرته على مقاطعة رومانيا. كما يتذكر مكيافيلي قائلًا: «… في صباح أحد الأيام، وجدت جثة ريميرو مشطورة نصفين في ساحة مدينة سيسينا، وبجانبها كتلة خشبية وسكين ملطخ بالدماء، وأذهلت وحشية هذا المنظر سكان مقاطعة رومانيا وهدأتهم.» (الفصل السابع من أطروحة مكيافيلي «الأمير») بعد ذلك دعا سيزار الأشخاص الذين كانوا يتآمرون عليه على العشاء، استخدم مكيافيلي سيزار بعد ذلك كقدوة يحتذى بها في تنفيذ السياسة بالقوة، فقد آمن بأن سيزار استعاد السلام عن طريق اختياره للعنف. كان البديل — كما أعلن أغلب قادة هذا الوقت على الملأ — هو التصرف بنبل وأخلاق، كانت عاقبة التصرف بأخلاق في عالم لا يتسم بالأخلاق هي السماح للفاسدين بالسيطرة، حيث يقول في كتاب «الأمير»: «الحقيقة هي أن الشخص الذي يرغب في التصرف بفضيلة بجميع الطرق الممكنة لا بد أن يشعر بالأسى بين الكثيرين الذين يفتقرون إلى التحلي بالفضيلة. لكي يتمكن الأمير من الاحتفاظ بحكمه عليه أن يتعلم كيف يكون الافتقار إلى الفضيلة، ويستخدم ذلك أو لا يستخدمه تبعًا لما يتطلبه الموقف. ولكن قسوته هذه أصلحت من شأن رومانيا، يتضح أن سيزار امتلك شفقة فاقت شفقة الفلورنسيين الذين — لكي يتجنبوا وصفهم بالقساة — تركوا بيستويا للدمار …
حتى يحمي مصالح المجتمع (النقطة التي اتضحت أكثر في كتاب «نقاش عن ليفي»)، أن يفعل ما يتطلبه الأمر من أجل المصلحة العامة، تكمن في تعريف «المصلحة العامة».الإجابة هي أن المرء قد يرغب في أن يكون كليهما، ولكن من الصعب جدًّا الجمع بين الأمرين، لذا فمن الأفضل أن تكون مخيفًا على أن تكون محبوبًا إذا لم تستطع أن تجمع بين الاثنين. كاذبون ومخادعون … وعندما تتعرض للخطر يديرون ظهورهم لك. وأي أمير يعتمد فقط على الوعود دون أخذ احتياطات أخرى ضمن هلاكه … إن رابطة الحب هي رابطة … يقطعها البشر إذا كان ذلك في مصلحتهم، ولكن الخوف يقوى بخشية العقاب الفعالة دائمًا. يعتبر توماس كارليل أول كتاب «العصر الحديث» الذين كتبوا عن القيادة، حيث تحدث بدفء — في خطبته الافتتاحية عندما كان رئيس جامعة إدنبرة عام ١٨٦٦ — عن مكيافيلي وأوليفر كرومويل ، يمكننا أن نتتبع نهضة دراسات القيادة في الحقبة الحديثة — التي عاصرت نهضة المجتمعات الصناعية — وصولًا إلى محاضرات كارليل الأولى عام ١٨٤٠، الذي تسبب افتتانه «بعظماء» التاريخ في تهميش دور الأشخاص العاديين ليصبحوا مجرد «إضافات» لا قيمة لها. ومعيارية في توجهها وطبيعتها. كانت تعتمد على ما عليك أن تفعله طبقًا للأعراف الثقافية في ذلك الوقت، وكانت شبيهة بالنماذج نفسها التي انتشرت في الحقبة الكلاسيكية وأوائل الحقبة الحديثة. دار الجدل حول سياق — ومن ثم متطلبات — القيادة التي تحولت من الأفراد البطوليين إلى الأنظمة والعمليات العقلانية، عندما بدأ المعيار الصناعي ومستوى التكامل العكسي المتعلق بمصادر المواد الخام في إيجاد صناعات كبرى (خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية) التي احتاجت عددًا كبيرًا من الإداريين للحفاظ على التماسك المؤسسي. وبمجرد أن بدأ نمو الإنتاج الذي أطلق له العنان هؤلاء العمالقة في تشجيع المنافسة في السوق وتقليل هامش الربح، تحول التركيز بسرعة إلى استراتيجيات خفض التكلفة والإدارة العلمية. ركز إف دابليو تايلور — مؤسس الإدارة العلمية — على سيطرة الإدارة على المعرفة على حساب القوى العاملة، توصف القيادة ﺑ «القيادة المعرفية»؛ حيث يكون القادة هم مخازن المعرفة الإنتاجية التي تسمح لهم بالسيطرة على الإنتاج، وذلك على العكس من السيطرة على الإنتاج التي كان يمارسها الحرفيون فيما مضى. كان تحولًا كبيرًا عاد إلى السلطة المعيارية وابتعد عن عقلانية الأنظمة والعمليات العلمية، التي سيطرت على الوضع في العقدين السابقين. اشتقت هذه «العودة» إلى النماذج المعيارية السابقة في بداية الأمر من تجارب هووثورن في العشرينيات والثلاثينيات في مصنع شركة جنرال إلكتريك بالقرب من شيكاجو، حيث تسببت تجارب تايلور العلمية من أجل تطوير ظروف بيئة العمل المثالية في حدوث ارتباك في أول الأمر، وبعد ذلك تحقق نوع من الإدراك بأن العمل لا يمكن قياسه موضوعيًّا؛ لأن عملية القياس ذاتها غَيَّرت من التجربة ومن ثم من الأشخاص الخاضعين للقياس. سلسلة كاملة من التجارب ذات الصلة التي تمكنت في النهاية من إقناع جنرال إلكتريك أولًا ثم بعد ذلك قطاعات بأكملها من الإدارة الأمريكية بأن العمال لا يتحفزون تحفيزًا يعتمد على العقل والمنطق وإنما بالقانون والنظام، وأن ثقافتهم تركز على الجماعة لا الفرد.المثير للجدل أن نماذج القيادة المتعاقبة تلك — أولًا، النموذج «المعياري» لكارليل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تبعه بعد ذلك النموذج «العقلاني/العلمي» لتايلور وفورد في العقدين الأولين من القرن العشرين، اللذين تعرضا للتبديل بدورهما بالعودة إلى النموذج «المعياري» لتجارب هووثورن التي ترسخت في منهج «العلاقات الإنسانية» في الثلاثينيات والأربعينيات — تعكس ظاهرتين أكثر شمولًا: الأولى؛ الدورات الاقتصادية للحقبة الزمنية، والأخرى: النماذج السياسية للحقبة الزمنية. كانت الدورات الاقتصادية المذكورة هي حجر الأساس لنظرية كوندراتييف الجدلية عن الموجات الاقتصادية الطويلة، في حين لم تكن الدورات السياسية على نفس القدر من الجدلية بل كانت أكثر إثارة للاهتمام؛ لأنه من غير المرجح أن تكون الصناعة قد عزلت نفسها عن النهضة العالمية للحركات الشعبية الشيوعية والفاشية في أواخر العشرينيات والثلاثينيات، في حقبة كانت فيها الحركات السياسية الكبرى تتحرك طبقًا للانصياع للإرادة الجماعية — ولكنها ظهرت في شكل ولاء تام لزعيم الحزب — وكانت هذه الحركات بارزة للغاية، كان من الطبيعي أن نزعم بأن الطريقة المثلى لقيادة مؤسسة صناعية هي أن تعكس هذا الافتراض: يجب أن يكون العمل معياريًّا بدلًا من أن يكون منظمًا بطريقة عقلانية، من خلال مجموعات يقودها قادة يجسدون كقدوة يحتذى بها الرغبات الجلية نفسها التي تعتنقها الجماهير.بمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعودة الازدهار الاقتصادي، تحول النموذج الذي بدأ في السيطرة على الغرب مرة أخرى من العقيدة المعيارية للجماهير والأبطال — التي عكست قوة الشيوعية الفاشية — إلى عقيدة يهيمن عليها التحليل العقلاني للوضع؛ شهدنا بأعيننا نهضة حركة إثبات الذات الأمريكية، التي ظهرت جلية بشكل خاص في «هرم الاحتياجات» لماسلو، الذي أكد أن القادة عليهم أن يفهموا احتياجات الصحة والأمن لأتباعهم قبل أن يركز أتباعهم على احتياجات «أعلى»، وفي تخلص ماكجريجور من «النظرية س » (البشر أنانيون، لذا يمكنك قيادتهم عن طريق السيطرة عليهم) ووضعه «النظرية ص » (البشر متعاونون، لذا يمكنك قيادتهم عن طريق تشجيعهم) بدلًا منها.جاء التحرك بعيدًا عن المعايير والعودة مرة أخرى إلى الفهم العقلاني للسياقات بعد الانتقادات المتزايدة للسمات البشرية وكذلك أعمال جامعة ميشجن ودراسات ولاية أوهايو، حيث قدمت الأخيرة إطار عمل للتطور الجذري: نظرية الاحتمالية. تحت الغطاء العام الذي وفرته نظرية الاحتمالية، تلقى الضعف النظري الخاص بالاعتماد على قائمة لانهائية محتملة من الخصال وجاذبية البشر الخارقين — ظاهريًّا — ضربة أصابته بالشلل، ومنذ ذلك الحين، لم يصبح الأمر المهم هو وجود قائد جذاب ليقود مجموعة الأتباع المغرمين به، بل وجود استيعاب عقلاني للموقف والاستجابة له بالشكل الصحيح: الجدل الذي تناولناه في الفصل السابق.منذ الأيام الأولى التي ظهر فيها منهج الاحتمالية هذا، «تطورنا» عن طريق العودة إلى أهمية وجود قادة يعملون ﺑ «الثقافات القوية» (المعيارية) المفضلة لدى كل من بيترز وووترمان ، ثم إلى التدريس (العقلاني) لإعادة هندسة ثورة التسعينيات، تسببت هذه التحولات في ظهور الإدارة العامة الحديثة في الثمانينيات والتسعينيات، التي بسببها — على سبيل المثال — تحول القطاع العام البريطاني ظاهريًّا من كونه تنينًا كسولًا وبيروقراطيًّا إلى مزود خدمات نشط عن طريق التوغل في السوق وضبط الأهداف وإدارة الأداء. يبدو أن هذا الأمر قد ضمن عودة أساليب الخصال المعيارية الأصلية: يبدو أننا قد تقدمنا نحو الماضي، هذا لأننا قد (عدنا) مؤخرًا إلى كوننا عبيدًا للأفراد الملهمين، الذين حباهم الله بقائمة طويلة من المهارات الأساسية التي قد يمتلكها القادة المعاصرون،


النص الأصلي

لماذا نشغل بالنا ببداية القيادة ونشأتها؟ وفي الواقع، ما الذي يعد بداية؟ حسنًا يمكننا البدء بأن نفترض أن «البداية» لباحثي القيادة هي بداية التاريخ المدون، لا بداية وجود الجنس البشري. كان لدى جميع الأنظمة والمجتمعات — باختلاف أحجامها وقدمها — نوع ما من القيادة عادة، لا يعني هذا الأمر بالضرورة أن القيادة كانت دائمًا — وستظل دائمًا — مهمة وأساسية، ناهيك عن كونها تختص فقط بالذكور، ولكنه يشير إلى أن هناك دومًا حاجة لوجود قائد طوال الوقت. كيف يمكننا إذن أن نثبت أن القيادة أمر ضروري، أو أن أنواع وأساليب القيادة قد تغيرت عبر المكان والزمان.اعتمدت معرفتنا بالقيادة بقدر كبير في العصور السحيقة أساسًا على وجود النصوص المكتوبة، وهنا نجد الدرس الأول الذي تعلمناه عن القيادة: يُكتب التاريخ، بوجه عام بأيدي الفائزين، وينطبق هذا على كل من القادة العسكريين الناجحين والجماعات السياسية الناجحة، ففي الفئة الأولى قد نتأمل في — ونتساءل عن — الكيفية التي وصل إلينا بها هذا الكم الكبير من المعلومات عن انتصارات الإسكندر الأكبر أو يوليوس قيصر ، مع عدم توافر إلا القليل عن سبارتاكوس ، لكننا لا نعلم شيئًا تقريبًا عن مئات من ثورات العبيد التي هزت مجتمعات الاستعباد في العصور الماضية. لا شك في أن الإسكندر أو يوليوس قيصر كتبا تاريخ انتصاراتهما بأنفسهما أو كلفا محترفين بكتابته بأمر سلطوي منهما، في حين لم يترك سبارتاكوس أي نصوص مكتوبة، والقليل جدًّا من قادة العبيد الآخرين هم من ورد ذكرهم في نصوص سادتهم المكتوبة. يجب أن أقدم تحذيرًا تمهيديًّا لقراءة أي مواد عن القيادة الكلاسيكية — وكذلك أي مواد عن القيادة المعاصرة — وهو أن ننتبه إلى المصدر، فسجلات الأحداث ليست ناقلًا محايدًا للمعلومات الحقيقية، ولكنها تكون متحيزة بهدف تحقيق أغراض معينة.كتابة هذه الأحداث التاريخية في المقام الأول تعتمد — إلى حد ما — على احتوائها على أي معلومات ذات أهمية. نميل إلى تسجيل الأحداث غير المعتادة أو الاستثنائية إلى حد ما، لا توجد لدينا أي معلومات قيمة عن أسلوب إدارة إحدى المزارع الصينية الصغيرة منذ ٢٠٠٠ عام، أو عن القيادة في حقبة السلم النسبي بين قبائل السلتيين في بلاد الغال في الحقبة الزمنية نفسها، ولكننا نمتلك سجلات عن الحروب التي قامت بين السلتيين والرومان في هذا الوقت، ولدينا بعض النصوص المكتوبة عن قادة الحرب الصينيين في هذا الوقت. فإن النصوص التي وصلت إلينا وتتعلق بالحروب بين بلاد الغال والرومان نصوص رومانية: أولًا، لأن السلتيين كانوا مجتمعًا أميًّا سادته الثقافات الشفهية، أقول مرة أخرى إن ما يستمر طوال حقب زمنية طويلة هي النصوص المكتوبة والآثار، لذا فإن فهمنا لأساليب قيادة المجتمعات الأمية، اعتمد في الغالب على نصوص الآخرين، التي تقلل من قدر هذه المجتمعات. التي سبقت القراءة والكتابة والتي حصلنا عليها من السجلات الأثرية، يمكننا القول إن فترات السلم والتعايش بين القبائل المتجاورة — ذات القادة المؤمنين بالإنسانية — كانت قليلة ومتباعدة.إذن يتضح أن الحرب كانت من المكونات الرئيسية في تطورات ممارسة القيادة الأولى، فمن «سرجون الأول» (حوالي ٢٣٣٤–٢٢٧٩ قبل الميلاد) ملك الدولة الأكادية فيما يعرف الآن بالشرق الأوسط، إلى رمسيس الثاني ملك مصر، ومن الحضارة الكريتية الأولى التي قامت تقريبًا في عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد إلى الحضارة الهارابانية بوادي السند في نفس الوقت، مرورًا بمستعمرات هوانج هو المسورة في الصين، أدركنا أن القيادة العسكرية لعبت دورًا مصيريًّا في السعي إلى البقاء والهيمنة. مرة أخرى أقول إن هذا لا يعني إصرارنا على أن القيادة قد نشأت في الحرب أو أن القيادة العسكرية هي أهم عناصر القيادة الكلاسيكية؛ فالأمر بكل بساطة هو أننا لا نمتلك معلومات كافية عن هذه العصور تمكننا من تأكيد أو إنكار هذا الأمر، ولكن يبقى الحال على أن بعض أهم الكتابات القديمة عن القيادة تتعلق إما بشن الحروب، وهو ما أشار إليه واضع النظريات العسكرية البروسي كارل فون كلاوسفيتز بأنه «امتداد للسياسة بوسائل أخرى»، ينطبق هذا الأمر بالأخص على الحقبة الكلاسيكية وحقبة النهضة، اللتين سنستعرضهما أولًا قبل الانتقال إلى الأدبيات الأكثر حداثة.١) دراسات القيادة الكلاسيكية
نجد كتاب «أرتاشاسترا» لمؤلفه كوتيليا ، الذي كُتب حوالي عام ٣٢١ قبل الميلاد من أجل مملكة موريا التي تُعرف الآن بالهند، والذي تضمَّن مجموعة من النصائح والتوجيهات العملية التي على القادة أن يضعوها في اعتبارهم، ولكن ربما كان أقدم نص مكتوب حقق نجاحًا كبيرًا في زمانه ومكانه — الصين القديمة — وما يزال يخلب لب مديري الشركات التنفيذيين حتى الوقت الحاضر هو «فن الحرب» من تأليف صن تزو (٤٠٠–٣٢٠ قبل الميلاد). لم يتضح حتى الآن حقيقة من ألف الأقوال المأثورة التي تكون منها كتاب «فن الحرب»، وربما كان أتباع وتلامذة صن تزو هم من كتبوا الكثير منها. النص نفسه يقترح هذا الافتراض بسبب بنيته الحوارية، مع مشاركة العديد من الشخصيات في مناقشة تُجرى تحت إشراف المعلم صن. تظهر الرسالة المحورية عن القيادة بوضوح: «تقع مسئولية جموع المقاتلين التي تتألف من مليون رجل على عاتق رجل واحد، فهو من يُطلق روحهم القتالية» (مانوفر ٢٠). يبدأ كتاب «فن الحرب» في عرض لوحات حوارية تدور حول أهم عناصر الاستراتيجيات والتكتيكات الحربية ليستفيد منها القادة العسكريون. بالنسبة للعقلية الغربية، ولكن على نحو مناسب للجوهر المعتدل لأصولها الطاوية، أن أحد أهم الدروس المستفادة من كتاب «فن الحرب» هو أن القتال آخر الخيارات التي يجب على القادة العسكريين اللجوء إليها، نظرًا لأن: «الذين ينتصرون في جميع المعارك لا يتمتعون حقًّا بالمهارة، وإنما أفضل القادة هم هؤلاء الذين يجعلون جيوش الآخرين لا حول لها ولا قوة دون قتال» (التخطيط لحصار المدن). يصر صن تزو بعد ذلك على أن الاستراتيجية هي أهم عناصر النصر؛ لأن فن الحرب هو فن تفادي الصراعات غير الضرورية.يعتبر «الجسر الذهبي » نتيجة طبيعية لهذه الفلسفة: إذا كان يجب عليك أن تقاتل، فتجنب الصراعات المباشرة إذا كان هذا ممكنًا؛ لأن هذه المواجهات مكلفة من حيث الموارد والأرواح وأخطر من مجرد مهاجمة خطط العدو وخطوط إمداده، أما إذا اضطررت لمواجهة العدو وجهًا لوجه — ولكنك لست واثقًا من هزيمته هزيمة منكرة — فعليك أن تترك «جسرًا ذهبيًّا»؛ أي طريق هروب لأعدائك لينسحبوا من خلاله، وإلا سيضطر أعداؤك للقتال حتى النهاية، ومرة أخرى ستكون العواقب وخيمة.النصيحة الثانية المثيرة للجدل هي إحراق جسورك: بمعنى التزم وإلا تحمل العاقبة. يقول صن تزو: «عندما يضع القائد لقواته هدفًا لتُحَقِّقَهُ، يكون كما لو كان صعد إلى مكان عالٍ وألقى بالسلم بعيدًا.» هذه القاعدة عكس قاعدة الجسر الذهبي تمامًا، لأنه إن شعر رفاقك بالخطر ورأوا طريقًا ميسرًا للهرب، ولكن إذا لم يجدوا طريقًا للهرب — الأمر الذي يُطلق عليه صن تزو «الأرض الميتة » — فسوف يلزمون أنفسهم بالقتال من أجل البقاء، وهذا هو نوع التزام الأتباع نحو قائدهم الذي يعكس الجذور الطاوية لعمل صن تزو. وكما يقول في «الأراضي التسع»: «ضعهم في موقف لا مهرب منه وسوف يموتون قبل الهرب.تمسك صن تزو برأيه أن الأمور العسكرية يجب أن تُترك في يد الخبراء العسكريين وليس في يد السياسيين الذين يتحكمون بهم، حيث يقول: «إذا قلت إنه على الجنرال أن ينتظر أوامر السادة في مثل هذه الظروف فكأنك تخبر رئيسك بأنك ترغب في إخماد حريق. أو كما افترض في «المتغيرات التسع»: «هناك حالات لا يجب فيها طاعة أوامر السادة … فعندما ترى التصرف الصحيح أمامك،في نفس الوقت تقريبًا الذي كان يدرس فيه صن تزو القيادة العسكرية في الصين، كان أفلاطون (٤٢٧ / ٤٢٨–٣٤٧ قبل الميلاد) يحذر الإغريق من أن نهضة القيادة السياسية المعتمدة على الديمقراطية لا تمثل ازدهار الثقافة الإغريقية بقدر ما تمثل تهديدًا مباشرًا للحضارة الإغريقية، فقد نتج عن نظام انتخاب القادة نوع من الهرج والمرج لا منتدى للنقاش الجاد كما كان يرى أفلاطون؛ لأن هذا من شأنه أن يشجع القادة المحتملين على أن يرضوا أدنى غرائز حشود الغوغاء — «الحيوان الكبير والخطر» — التي انتشرت في الكثير من كتاباته عن هذه المسألة. يفترض أفلاطون في كتابه «الجمهورية» أن الغوغاء قد يكونون على استعداد لأن يخاطروا بمجتمعهم (الذي هو كالسفينة) عن طريق انتخابهم لأي شخص يعدهم بمكاسب أكبر. بدلًا من الإبحار تحت قيادة شخص مؤهل على النحو الأكمل ليكون قائد السفينة (أحد الملوك الفلاسفة بحسب تعبير أفلاطون)، تضمن الديمقراطية أن الغوغائي الذي له شعبية هو من سيسود، ومن ثم يقود السفينة لتصطدم بصخور الكوارث.ولكن كيف يمكننا تمييز الشخص الأقدر على القيادة؟ عند أفلاطون، من البديهي أن نميز مهارات الناس عن طريق الأخذ بعين الاعتبار تخصصاتهم: لن نسأل البستاني أن يصنع لنا قاربًا أو أن نطلب من المزارع أن يدير اقتصاد الدولة. ولكن ما أصاب أفلاطون بالإحباط الشديد أنه عندما يتعلق الأمر بالمعرفة «الأخلاقية»، لهذا السبب بالذات عارض أفلاطون السفسطائيين وأيزوكراتيس الذي علم الناس فن الخطابة؛ لأنه يشجع على هيمنة الشكل على المضمون. والأهم من كل شيء أن أفلاطون خشي أن يفسد النظام هؤلاء الذين يعتزمون القيادة بطريقة أخلاقية من أجل تحقيق الخير للمجتمع، وحيث إن صحة المجتمع أمر أساسي للقادة، فلا بد من أن يدمر القائد الفاسد «مجتمعه». واتفق أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ قبل الميلاد)، أحد تلامذة أفلاطون، على أن أثينا تتعرض للهجوم على يد القادة الفاسدين، ولكن اختلف رد فعله إزاء المشكلة. كتب أرسطو جزءًا من كتابه «الخطابة» كعرض ﻟ «حيل الخطابة»، التي كان يؤمن بأنها تفسد الحياة العامة في أثينا.٢) دراسات القيادة في عصر النهضة
ظهر بعد أرسطو بحوالي ١٨٠٠ عام، كتاب سيطر على الكتابة عن القيادة، ليس فقط في وقته بل في وقتنا الحالي أيضًا. لم يكن كتاب «الأمير» لكاتبه نيكولو مكيافيلي كتابًا شهيرًا، بل كان على العكس أقل النصوص شهرة في القرن السادس عشر. ولا شك أن مكيافيلي كان سيجد في هذا الأمر مفارقة مزدوجة؛ لأنه كتب «الأمير» بغرض استعادة بعض من مصداقيته وشهرته السياسية لدى أصحاب عمله السابقين. لأنه كتب هذا الكتاب كعمل وصفي لا نصي. أصر مكيافيلي على أنه كتب هذا الكتاب ليصف عالم السياسة على حقيقته، لا كما يجب أن يكون في صورة مثالية أسطورية غير قابلة للتحقيق. فقد تشرب كتاب «الأمير» بالواقعية السياسية مما أدى إلى استنكار القادة الدينيين والسياسيين فورًا له في ذلك الوقت، ولكن هذه الواقعية السياسية تفسر أيضًا سبب شهرته في الوقت الحاضر. معتمدًا على النظريات بل على الحقائق التاريخية، ولكن الكنيسة الكاثوليكية حَرَّمَتْه ووضعته في قائمة الكتب المحظورة.كتب مكيافيلي كتاب «الأمير» في الفترة ما بين عامي ١٥١٣-١٥١٤ عندما انهارت بلاده بسبب الحرب الأهلية والاحتلال الخارجي. سعى مكيافيلي لتأليف كتاب إرشادي يسترشد به جميع القادة السياسيين، سادته والقادة السابقين لفلورنسا. لم يكن «الأمير» مجرد كتاب كتبه ليلقى الحظوة لدى عائلة ميدِتشي فحسب، بل أصبح نداءً للجهاد للدفاع عن فلورنسا وإيطاليا — عن طريق الهيمنة الفلورنسية — ضد «البرابرة» الذين يقصد بهم الغزاة الإسبان والفرنسيون.من بين الأشخاص الأساسيين الذين تمثل بهم مكيافيلي في كتابه «الأمير»، الابن غير الشرعي لرودريجو بورجيا الذي أصبح البابا ألكساندر السادس في عام ١٤٩٢. قاد سيزار بورجيا الجيوش البابوية وهدد استقلال فلورنسا، ولكن لاحظ مكيافيلي نوعًا مختلفًا من القادة في سيزار؛ لأنه كان الرجل الذي قتل أحد ضباطه (ريميرو أوركو) عندما اتضح له أنه استخدم القسوة غير المبررة خلال سيطرته على مقاطعة رومانيا. كما يتذكر مكيافيلي قائلًا: «… في صباح أحد الأيام، وجدت جثة ريميرو مشطورة نصفين في ساحة مدينة سيسينا، وبجانبها كتلة خشبية وسكين ملطخ بالدماء، وأذهلت وحشية هذا المنظر سكان مقاطعة رومانيا وهدأتهم.» (الفصل السابع من أطروحة مكيافيلي «الأمير») بعد ذلك دعا سيزار الأشخاص الذين كانوا يتآمرون عليه على العشاء، استخدم مكيافيلي سيزار بعد ذلك كقدوة يحتذى بها في تنفيذ السياسة بالقوة، فقد آمن بأن سيزار استعاد السلام عن طريق اختياره للعنف. كان البديل — كما أعلن أغلب قادة هذا الوقت على الملأ — هو التصرف بنبل وأخلاق، كانت عاقبة التصرف بأخلاق في عالم لا يتسم بالأخلاق هي السماح للفاسدين بالسيطرة، حيث يقول في كتاب «الأمير»: «الحقيقة هي أن الشخص الذي يرغب في التصرف بفضيلة بجميع الطرق الممكنة لا بد أن يشعر بالأسى بين الكثيرين الذين يفتقرون إلى التحلي بالفضيلة. لكي يتمكن الأمير من الاحتفاظ بحكمه عليه أن يتعلم كيف يكون الافتقار إلى الفضيلة، ويستخدم ذلك أو لا يستخدمه تبعًا لما يتطلبه الموقف. ولكن قسوته هذه أصلحت من شأن رومانيا، يتضح أن سيزار امتلك شفقة فاقت شفقة الفلورنسيين الذين — لكي يتجنبوا وصفهم بالقساة — تركوا بيستويا للدمار …
حتى يحمي مصالح المجتمع (النقطة التي اتضحت أكثر في كتاب «نقاش عن ليفي»)، أن يفعل ما يتطلبه الأمر من أجل المصلحة العامة، تكمن في تعريف «المصلحة العامة».الإجابة هي أن المرء قد يرغب في أن يكون كليهما، ولكن من الصعب جدًّا الجمع بين الأمرين، لذا فمن الأفضل أن تكون مخيفًا على أن تكون محبوبًا إذا لم تستطع أن تجمع بين الاثنين. كاذبون ومخادعون … وعندما تتعرض للخطر يديرون ظهورهم لك. وأي أمير يعتمد فقط على الوعود دون أخذ احتياطات أخرى ضمن هلاكه … إن رابطة الحب هي رابطة … يقطعها البشر إذا كان ذلك في مصلحتهم، ولكن الخوف يقوى بخشية العقاب الفعالة دائمًا. يعتبر توماس كارليل أول كتاب «العصر الحديث» الذين كتبوا عن القيادة، حيث تحدث بدفء — في خطبته الافتتاحية عندما كان رئيس جامعة إدنبرة عام ١٨٦٦ — عن مكيافيلي وأوليفر كرومويل ، يمكننا أن نتتبع نهضة دراسات القيادة في الحقبة الحديثة — التي عاصرت نهضة المجتمعات الصناعية — وصولًا إلى محاضرات كارليل الأولى عام ١٨٤٠، الذي تسبب افتتانه «بعظماء» التاريخ في تهميش دور الأشخاص العاديين ليصبحوا مجرد «إضافات» لا قيمة لها. ومعيارية في توجهها وطبيعتها. كانت تعتمد على ما عليك أن تفعله طبقًا للأعراف الثقافية في ذلك الوقت، وكانت شبيهة بالنماذج نفسها التي انتشرت في الحقبة الكلاسيكية وأوائل الحقبة الحديثة. دار الجدل حول سياق — ومن ثم متطلبات — القيادة التي تحولت من الأفراد البطوليين إلى الأنظمة والعمليات العقلانية، عندما بدأ المعيار الصناعي ومستوى التكامل العكسي المتعلق بمصادر المواد الخام في إيجاد صناعات كبرى (خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية) التي احتاجت عددًا كبيرًا من الإداريين للحفاظ على التماسك المؤسسي. وبمجرد أن بدأ نمو الإنتاج الذي أطلق له العنان هؤلاء العمالقة في تشجيع المنافسة في السوق وتقليل هامش الربح، تحول التركيز بسرعة إلى استراتيجيات خفض التكلفة والإدارة العلمية. ركز إف دابليو تايلور — مؤسس الإدارة العلمية — على سيطرة الإدارة على المعرفة على حساب القوى العاملة، توصف القيادة ﺑ «القيادة المعرفية»؛ حيث يكون القادة هم مخازن المعرفة الإنتاجية التي تسمح لهم بالسيطرة على الإنتاج، وذلك على العكس من السيطرة على الإنتاج التي كان يمارسها الحرفيون فيما مضى. كان تحولًا كبيرًا عاد إلى السلطة المعيارية وابتعد عن عقلانية الأنظمة والعمليات العلمية، التي سيطرت على الوضع في العقدين السابقين. اشتقت هذه «العودة» إلى النماذج المعيارية السابقة في بداية الأمر من تجارب هووثورن في العشرينيات والثلاثينيات في مصنع شركة جنرال إلكتريك بالقرب من شيكاجو، حيث تسببت تجارب تايلور العلمية من أجل تطوير ظروف بيئة العمل المثالية في حدوث ارتباك في أول الأمر، وبعد ذلك تحقق نوع من الإدراك بأن العمل لا يمكن قياسه موضوعيًّا؛ لأن عملية القياس ذاتها غَيَّرت من التجربة ومن ثم من الأشخاص الخاضعين للقياس. سلسلة كاملة من التجارب ذات الصلة التي تمكنت في النهاية من إقناع جنرال إلكتريك أولًا ثم بعد ذلك قطاعات بأكملها من الإدارة الأمريكية بأن العمال لا يتحفزون تحفيزًا يعتمد على العقل والمنطق وإنما بالقانون والنظام، وأن ثقافتهم تركز على الجماعة لا الفرد.المثير للجدل أن نماذج القيادة المتعاقبة تلك — أولًا، النموذج «المعياري» لكارليل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تبعه بعد ذلك النموذج «العقلاني/العلمي» لتايلور وفورد في العقدين الأولين من القرن العشرين، اللذين تعرضا للتبديل بدورهما بالعودة إلى النموذج «المعياري» لتجارب هووثورن التي ترسخت في منهج «العلاقات الإنسانية» في الثلاثينيات والأربعينيات — تعكس ظاهرتين أكثر شمولًا: الأولى؛ الدورات الاقتصادية للحقبة الزمنية، والأخرى: النماذج السياسية للحقبة الزمنية. كانت الدورات الاقتصادية المذكورة هي حجر الأساس لنظرية كوندراتييف الجدلية عن الموجات الاقتصادية الطويلة، في حين لم تكن الدورات السياسية على نفس القدر من الجدلية بل كانت أكثر إثارة للاهتمام؛ لأنه من غير المرجح أن تكون الصناعة قد عزلت نفسها عن النهضة العالمية للحركات الشعبية الشيوعية والفاشية في أواخر العشرينيات والثلاثينيات، في حقبة كانت فيها الحركات السياسية الكبرى تتحرك طبقًا للانصياع للإرادة الجماعية — ولكنها ظهرت في شكل ولاء تام لزعيم الحزب — وكانت هذه الحركات بارزة للغاية، كان من الطبيعي أن نزعم بأن الطريقة المثلى لقيادة مؤسسة صناعية هي أن تعكس هذا الافتراض: يجب أن يكون العمل معياريًّا بدلًا من أن يكون منظمًا بطريقة عقلانية، من خلال مجموعات يقودها قادة يجسدون كقدوة يحتذى بها الرغبات الجلية نفسها التي تعتنقها الجماهير.بمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعودة الازدهار الاقتصادي، تحول النموذج الذي بدأ في السيطرة على الغرب مرة أخرى من العقيدة المعيارية للجماهير والأبطال — التي عكست قوة الشيوعية الفاشية — إلى عقيدة يهيمن عليها التحليل العقلاني للوضع؛ شهدنا بأعيننا نهضة حركة إثبات الذات الأمريكية، التي ظهرت جلية بشكل خاص في «هرم الاحتياجات» لماسلو، الذي أكد أن القادة عليهم أن يفهموا احتياجات الصحة والأمن لأتباعهم قبل أن يركز أتباعهم على احتياجات «أعلى»، وفي تخلص ماكجريجور من «النظرية س » (البشر أنانيون، لذا يمكنك قيادتهم عن طريق السيطرة عليهم) ووضعه «النظرية ص » (البشر متعاونون، لذا يمكنك قيادتهم عن طريق تشجيعهم) بدلًا منها.جاء التحرك بعيدًا عن المعايير والعودة مرة أخرى إلى الفهم العقلاني للسياقات بعد الانتقادات المتزايدة للسمات البشرية وكذلك أعمال جامعة ميشجن ودراسات ولاية أوهايو، حيث قدمت الأخيرة إطار عمل للتطور الجذري: نظرية الاحتمالية. تحت الغطاء العام الذي وفرته نظرية الاحتمالية، تلقى الضعف النظري الخاص بالاعتماد على قائمة لانهائية محتملة من الخصال وجاذبية البشر الخارقين — ظاهريًّا — ضربة أصابته بالشلل، ومنذ ذلك الحين، لم يصبح الأمر المهم هو وجود قائد جذاب ليقود مجموعة الأتباع المغرمين به، بل وجود استيعاب عقلاني للموقف والاستجابة له بالشكل الصحيح: الجدل الذي تناولناه في الفصل السابق.منذ الأيام الأولى التي ظهر فيها منهج الاحتمالية هذا، «تطورنا» عن طريق العودة إلى أهمية وجود قادة يعملون ﺑ «الثقافات القوية» (المعيارية) المفضلة لدى كل من بيترز وووترمان ، ثم إلى التدريس (العقلاني) لإعادة هندسة ثورة التسعينيات، تسببت هذه التحولات في ظهور الإدارة العامة الحديثة في الثمانينيات والتسعينيات، التي بسببها — على سبيل المثال — تحول القطاع العام البريطاني ظاهريًّا من كونه تنينًا كسولًا وبيروقراطيًّا إلى مزود خدمات نشط عن طريق التوغل في السوق وضبط الأهداف وإدارة الأداء. يبدو أن هذا الأمر قد ضمن عودة أساليب الخصال المعيارية الأصلية: يبدو أننا قد تقدمنا نحو الماضي، هذا لأننا قد (عدنا) مؤخرًا إلى كوننا عبيدًا للأفراد الملهمين، الذين حباهم الله بقائمة طويلة من المهارات الأساسية التي قد يمتلكها القادة المعاصرون،


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

Lakhasly. (2024...

Lakhasly. (2024). وتكمن أهمية جودة الخدمة بالنسبة للمؤسسات التي تهدف إلى تحقيق النجاح والاستقرار. Re...

‏ Management Te...

‏ Management Team: A workshop supervisor, knowledgeable carpenters, finishers, an administrative ass...

تسجيل مدخلات ال...

تسجيل مدخلات الزراعة العضوية (اسمدة عضوية ومخصبات حيوية ومبيدات عضوية (حشرية-امراض-حشائش) ومبيدات حي...

My overall expe...

My overall experience was good, but I felt like they discharged me too quickly. One night wasn't eno...

- لموافقة المست...

- لموافقة المستنيرة*: سيتم الحصول على موافقة مستنيرة من جميع المشاركين قبل بدء البحث. - *السرية*: سي...

تعزيز الصورة ال...

تعزيز الصورة الإيجابية للمملكة العربية السعودية بوصفها نموذجًا عالميًا في ترسيخ القيم الإنسانية ونشر...

وصف الرئيس الأم...

وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مساء الثلاثاء، الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة بأنها "مأساوية"، متعه...

Mears (2014) A ...

Mears (2014) A system of justice that could both punish and rehabilitate juvenile criminals was the ...

تراجع مكانة الق...

تراجع مكانة القضية الفلسطينية في السياسة الدولية فرض على الجزائر تحديات كبيرة، لكنه لم يغيّر من ثواب...

أيقونة الكوميدي...

أيقونة الكوميديا والدراما بقيمة 100 مليون دولار. قابل عادل إمام ولد عام 1940 في المنصورة، مصر، وبدأ ...

أتقدم إلى سموكم...

أتقدم إلى سموكم الكريم أنا المواطن / أسامة سلطان خلف الله الحارثي، السجل المدني رقم/١٧٣٧٣٨٣ ، بهذا ا...

[1] الحمد لله ...

[1] الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا أخذه ورسوله صلى ...