لخّصلي

شكلت رحلتي الأولى إلى لندن في صیف عام 1959 مع والدي محط ًة فارق ًة في طفولتي. أحبب ُت لندن قبل الوصول إلیھا. وصفتھا لي والدتي عندما أخبرتني عن الخضرة الممتدة على م ّد البصر، والأشجار التي تملأ الشوارع. أخبرتني بأننا سننام في مبنى شاھق، لأن الج َّو ھناك يناسبه

النوم في الداخل ولیس كما نفعل في دبي عندما ننام على السطح. أخبرتني والدتي عن الأعداد الكبیرة من البشر الذين تع ّج بھم لندن، وملابسھم التي تشبه ملابس الضباط الإنجلیز. وأخبرتني عن سباقات كثیرة للخیول في تلك البلاد. كانت والدتي تح ِّمسني للرحلة المرتقبة،
وابتاعت لي كندورتین جديدتین وستر ًة جمیلة من أجل سفرة لندن.
أما والدي فكانت له نظرة أخرى. قضى والدي الأيام القلیلة قبل الرحلة في صمت؛ كان يفكر كیف سیطرح الكثیر من المواضیع، وكیف يستطیع العودة من لندن بأكبر عدد من المكاسب. كانت علاقاتنا مع البريطانیین باردة وتتمیز بالمجاملة ظاھرياً، ولكن في قرارة أنفسنا كنا ننتظر الیوم الذييرحلونفیهعنبلادنا.حكمتنامعھممعاھدا ٌتواتفاقیا ٌتنتولىمن
خلالھا شؤوننا الداخلیة، ويتولون ھم الشؤون الخارجیة والدفاع.
لم يكن يقطع صمت والدي إلا أسئلتي الكثیرة؛ من سنقابل؟ سنقابل رئیس الوزراء يا محمد. ومن ھو رئیس الوزراء؟ ھو مثل الشیخ عندنا. ولكن ما دور الملكة؟ ھي شیخة أيضاً ولكن رئیس الوزراء ھو الأھم. ماذا سنناقش؟ أريدك أن تر ِكّز يا محمد في كافة النقاشات وتنتبه لما يقوله المترجم. سنناقش الكثیر من المواضیع المھمة. نريد مطاراً في دبي.
وسنناقش قضايا أخرى. نعم يا أبي، نريد مطاراً في دبي.
كانت الطائرات القادمة إلى دبي تنزل في میاه الخور، ولم يكن ممكناً استقبال الطائرات التجارية الكبیرة من خلال الخور. كنا نستخدم مطار الشارقة. وكان والدي يريد بناء مھبط للطائرات مكان المطار الحالي. كان البريطانیون يرفضون إعطاء دبي حق إنشاء مطار بحجة كفاية المطار في الشارقة حیث توجد قاعدتھم العسكرية؛ كانت نظرتھم أمنیة وكانت نظرتنا تنموية. وكانت رحلة لندن محورية لحسم ھذا الملف

المستحيل وجهة نظر، والعالم يفتح الأبواب لمن يعرف ماذا يريد
كان السفر للخارج أمراً محفوفاً بالمشاق؛ إذ كان يستغرق عدة أيام والعديد من رحلات الربط والتوقف الإجباري في عدة مطارات. وصلنا إلى لندن. وقفتُ خلف والدي أترقب باب الطائرة وهو يُفتح، وقبل أن أراها من وراء قامة والدي الطويلة رحبت بي إنجلترا بطريقتها الخاصة بنفحة من الهواء البارد الجاف.
كان المطار كأنه مستعمرة ،نمل، يكتطّ بأعداد هائلة من الناس، يمشون بسرعة للحاق برحلاتهم. وكانوا يقفون في صفوف طويلة لدخول لندن أو الخروج منها. كان منظر المطار مذهلاً ومهيباً منظراً يعبّر عن قوة لندن، وعن ضخامة حركتها الاقتصادية. كان يكفي أن ترى المطار لتحترم هذه الدولة.

لا أدري لماذا ارتبطت حركة المطار النشطة في ذهني منذ ذلك الحين بقوة الدولة أو المدينة التي يمثلها. المطار يمثل الواجهة، ويميل القوة ويمثل التجارة، ويميل رغبة الملايين لزيارة هذه المدينة. نحن اليوم هنا لنحاول بناء مطارنا في دبي؛ هل سيكون في يوم من الأيام كمطار لندن؟ لم أكن أعرف ماذا تخبئ الأيام لي ولدبي، ولكني كنت أعرف شيئاً واحداً: لسنا أقل من الآخرين.

صافحنا عدداً من الأشخاص قبل أن نركب السيارات التي كانت بانتظارنا. وطوال تلك الفترة كان الشيخ مكتوم الذي رافقنا يتوقف ليدفعني لأسير أمامه، وإن لم يفعل ذلك كنتُ سأظل واقفاً في مكاني لشدّة الذهول. في الطريق جلستُ وأنفي ملتصق بالنافذة كانت أمي محقة. كلّها خضراء لا وصف كان كافياً ليجعلني أتخيّل جمال هذا المكان. كانت التلال المكسوة باللون الأخضر تمتدّ على وسع النظر. طلبت من أبي تخفيف السرعة كي يتسنّى لي الاستمتاع بالمناظر ابتسم وطمأنني بأنه سيكون لديّ متّسع من الوقت. وهكذا أسرعنا في طريقنا إلى الفندق

عندما وصلنا إلى غرفتنا جلس والدي على سريره. كان يبدو عليه الانشغال الذهني والتفكير العميق. استيقظتُ صباحاً، ولكن بعد ليلٍ صاخب لم يهدأ. كانت أصوات صفارات الإنذار والحريق تقلق نومي. فتحتُ عيني لأرى والدي يبتسم في وجهي بعينيه "محمد.. تعال اغتسل وصل وارتد ملابسك يجب أن نقابل رئيس الوزراء".

عندما وصلنا إلى شارع 10 داوننغ ستريت مقر رئاسة الوزراء في لندن، طلب مني الجلوس مقابل رئيس الوزراء آنذاك هارولد ماكميلان "الشيخ "ماكميلان كما كنت أسميه. كنتُ أتتبّع حركات هذا القائد وأدرسها باهتمام شعرتُ بالاستفزاز عندما رأيته يرفع ساقه ويضعها فوق الأخرى. كانت تلك بمثابة إهانة كبيرة في الجزيرة العربية؛ أن تضع ساقاً فوق الأخرى في وجه الضيف، فقد كان هذا السلوك ينبئ عن نظرة استعلاء تجاه الضيف كنتُ مستعداً للتعامل مع الرجل لتصحيح هذا الخطأ الجسيم قبل أن ألاحظ والدي وقد جلس على يمينه وليس مقابله عندها تنفّست الصعداء وشعرتُ براحة كان صوت تنهيدتي مسموعاً لدرجة أن والدي قرأ أفكاري وابتسم في وجهي ابتسامة صارمة ولكن مشجعة

تذكرتُ حينها بأن عليّ أن أجلس باستقامة، وأستمع جيداً، كما قال لي والدي.
أنصت باهتمام إلى المترجم المهذب الذي كان يترجم نقاشهما حول موضوع مهبط الطائرات كان والدي حازماً خلال النقاش حول قدرة دبي على تشغيل المطار، واحتياجاتها المتزايدة لتكون مربوطة بخطوط طيران مباشرة مع بقية دول العالم وفي ختام نقاش طويل، حصلنا على الموافقة لبناء مهبط جديد.

كنتُ من أكثر الناس حماسةً لإنشاء مطار جديد في دبي. وبعد سنوات من إنشاء المطار في السبعينات كلّفني والدي بقيادة التطوير في مطار أضفت الكثير من المباني، وأعلنتُ سياسة الأجواء المفتوحة، دبي. وربطت ذلك مع تطوير السياحة عبر تطوير أول استراتيجية سياحية في دبي. أنشأنا "طيران الإمارات" وبذلنا جهوداً كبيرة لتطوير مطار دبي وجعله نقطة ربط عالمية. اليوم، تستقبل مطاراتنا أكبر عدد من المسافرين الدوليين على مستوى مطارات العالم، وتستقبل مدننا أكثر من 20 مليون سائح سنوياً، وتزدحم أجواؤنا بأكثر من 113 شركة طيران تربطنا مع كافة مدن العالم. المستحيل وجهة نظر ، والعالم يفتح الأبواب لمن يعرف ماذا يريد.