لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (50%)

(تلخيص بواسطة الذكاء الاصطناعي)

مقامات محمد مؤمن الجزائريّ: تحليل عنصر الراوي في المقامة السواديّة

يهدف هذا البحث إلى دراسة عنصر الراوي في المقامة السواديّة لمحمد مؤمن الجزائريّ، والتي تتميز بإبداعها وخروجها عن أصول المقامة التقليدية.

يُسلط البحث الضوء على أهمية دراسة عنصر الراوي في مقامات الجزائريّ، نظرًا لندرة الدراسات التي تُركّز على هذا الجانب، وخاصة في المقامات المخطوطة التي لم تُنشر بعد.

يُسلّط البحث الضوء على دور الراوي في المقامة السواديّة، ويُبيّن أنّ الكاتب محمد مؤمن الجزائريّ قد اعتمد أسلوب الراوي المتضمن في الحکاية، حيث يروي الأحداث باستخدام ضمير المتكلم "أنا".

يُشير البحث إلى أنّ الجزائريّ يستخدم هذا الأسلوب ليُقدّم الأحداث بمشاعر شخصية ومحدودة المعرفة، حيث يعبر عن الخوالج واللواعج الداخلية الشخصية دون القدرة على الولوج إلى قرارات أفكار الشخصيات.

من أهمّ ميزات أسلوب الجزائريّ هو تعدد الرواة ، حيث يستخدم أصواتًا متعددة و شخصيات مختلفة ليروي الأحداث من زوايا مُتعددة.

يُبرز البحث استخدام الجزائري للفن الرسائلي في المقامة السواديّة ، حيث يستخدم الرسائل كوسيلة للسرد وتعبير الشخصيات عن مشاعرها وهواجسها و أفكارها.

يُختتم البحث بالتأكيد على أهمية دراسة المقامة السواديّة للمؤلف الجزائري ، نظرًا لأنها تمثل نوعًا جديدًا من الرواية الرسائلية في الأدب العربي.


النص الأصلي

1-المقدّمة
کتبَ بديعُ الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري أوّل عمل سردي متکامل وسمّاه المقامة، ثمّ أتّبعه عددّ کبير من الکتّاب فکتبوا في هذا الفنّ، وأوّلُ هؤلاء وأشهرُهم کان الحريريّ الذي کتب مقاماتِه المشهورة. فحاولَ باقي الأدباء أن يحذوا حذوَهما ويبلغ شأوَهما. من الجدير بالذکر أنّ المقصد الأوّل لمقامات الهمذاني ومقامات الحريري کان تعليمَ اللغة للناشئين من طريق الحکايات، وکانت الکُديةُ الموضوعَ الرئيسَ للمقامة لديهما «حتّی جاء الزمخشري (ت. 538هـ) فأخرج فنّ المقامة عن موضوع الکُدية، وصنّفَ مقاماتِه في موضوع الوعظ، وهو أبعد ما يکون عن شرط المقامة القائمة علی الکُدية، وکذلك فعل السيوطي (ت. 911هـ) في مقاماته الوصفيّة في وصف الرياحين وبعض الثمار، ولم تقم علی موضوع الکُدية، فهي بذلك تختلف عن مقامات بديع الزمان والحريري.» (اختيار، 2021 : 5)
وأمّا أحد الأدباء المهتمّين بهذا الفنّ فهو محمّد مؤمن الجزائريّ الشيرازيّ (کان حيًّا : 1130هـ.). وهو کاتب شاعر أديب؛ وجزائريّ أصلًا، وشيرازيّ موطنًا. وله الکثير من المقامات، إلّا أنّ مُعظمَها قد بقيت في ثنايا المخطوطات ولم تَرَ النورَ بعد. إنّه تطرّق إلی فنّ المقامة في ثلاثة کتب فحسب، وهذه الکتب هي : المقامات الناسخة للمقامات، طيف الخيال في مناظرة العلم والمال، وخزانة الخيال المشحونة بدُرَر الأقوال وغُرَر الأمثال. الجدير بالذکر أنّ کتاب مقامة طيف الخيال في مناظرة العلم والمال هو أطول مقامة في الأدب العربي «وهي مقامة لا نعرف لها نظيرًا في الطول إذ إنّها استغرقت أکثر من أربعمائة صفحة» (عوض، 1979 : 259) کما قال ذکاوتي أيضًا «إنّ طيف الخيال يُعَدّ أطول مقامة في هذا الفنّ، هذا الکتاب يحتوي علی مقامات مختلفة وقِصَص متنوّعة» (ذکاوتي، 1363 : 77).
لا شكّ في أنّ المقامات التي ألّفها محمّد مؤمن الجزائريّ تختلف عن مقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري أسلوبًا، وموضوعًا وهدفًا. قد خرج الکاتب عن الأصول السابقة في المقامة. حيث نستطيع القول إنّ هذه الفوارق جعلت أسلوب الکاتب في المقامة مميّزًا ومختلفًا ونوعًا ما صنعت من الکاتب شخصًا مُبدعًا في هذا النمط الأدبي. هنالك مقامة لمحمّد مؤمن الجزائري لَفَتَ انتباهَنا من بين کلّ مقاماته، وهذه المقامة مسمّاة بالسواديّة، وهي المقامة السابعة في کتاب طيف الخيال في مناظرة العلم والمال حيث الکاتبُ خرقَ الأصول التي أرسی قواعدَها بديع الزمان الهمذاني والحريري فيها. جاء هذا البحث ليسلّطَ الضوءَ علی عنصر الراوي وأنواعه في هذه المقامة ويبيّن القيمة الفنّية والجماليّة لهذا العنصر فيها معتمدًا علی أدوات منهجيّة حديثة.
2-أهمية وضرورة البحث:
ثمّة دراسات عالجت فنّ المقامة عند الجزائري ولکن هذه الدراسات حتی الآن لم تعالج عنصر الراوي کما لم نعثر علی دراسة ترکّز عليه ککاتب متذوّق في فنّ المقامة. لذا نری الحاجة لاتزال قائمة للدراسة والتقصّي. ومن هذا المبدأ لقد ظهرت أهمّيّة هذه الدراسة في إلقاء الضوء علی جانب مغمور من کُتُبه وهو الرواي .
واللافت للنظر أنّ أکثر مقامات الجزائري لاتزال مخطوطة، ومن هنا تکتسب الدراسة أهمّيّةً قُصوی، وفي هذا الخصوص نودّ الإشارة إلی قول أحد الباحثين وهو يؤکّد علی التوجّه نحو التراث المخطوط قائلا : «جميع تلك الدراسات کانت تنتظر نشر الأعمال المقاميّة وبعثها من أُقبِيَة المخطوطات، وأقترح أن يکسرَ أفقُ الانتظار فتتوجّه الأبحاث نحو التراث المخطوط الذي لا يعني عدمُ نشره أنّه لا يتّسم بالثراء والتنوّع» (الجديع، 2007 : 79).
هذه المؤشّرات تُشير إلی أهمّيّة هذه الدراسة وبأنّها تستطيع أن تُسهم في إضافة علميّة جديدة لاستمرار المشوار البحثي في مقامات الجزائري.
3-هدف البحث:
يهدف هذا البحث إلی الوقوف علی عنصر الراوي في المقامة السواديّة التي لفتت انتبهانا من بين باقی المقامات لما فيها من الإبداع وخرق الأصول التي أرسی قواعدَها بديع الزمان الهمذاني والحريري في فنّ المقامة. وسوف ندرس الراوي أي الشخص الذي يسرد الحکاية ونبيّن كيفيّة تشكّل المشاهد القَصَصيّة التي أعطت صورةً متعدّدة الأبعاد في المقامة السواديّة عبر استخدام الکاتب لهذا العنصر ونسلّط الضوء علی أسلوب الکاتب وإبداعه في کتابة هذا النمط الأدبي.
4- الدراسات السابقة
توجَد دراسات عالجت مقاماتِ الجزائري أو تطرّقت إليها؛ وهي:
عوض (1979م.)، أوّل باحث درس مقامة طيف الخيال للجزائري، واعتمد في بحثه نسخة المقامة المخطوطة المحتفظة في دارالکتب المصريّة. يقول الباحث عن موضوع هذه المقامة: «هذه المقامة مناظرة بين العلم والمال ينتصر فيها الشيرازي للعلم، ولايُنکر بعض فضائل المال، وهي تعبّر عن لحظة من لحظات التجلّي عاشها الشيرازي بعد أن أخفق في مَساعيه من أجل کسب المال». يؤکّد الباحث علی خروج الکاتب في کتابة المقامة علی الأصول المعروفة السابقة کما يُشير إلی إطالة الراوي في تقديم مناظرته إطالة مُفرطة.
ذکاوتي قَراکُزلو (1363ش.)، يعالج، وبصورة موجَزة، کتابة المقامات وکُتّاب المقامات من بعد الهمذاني حتّی مُنتصف القرن الرابع عشر. الباحث في مقاله يتطرّق إلی مقامة طيف الخيال للجزائري ويأتي بشرح مختصر له. الباحث اعتمد في بحثه علی کتاب عوض.
رضائي (1388ش.)، اهتمّ بسيرة حياة الجزائري وذکر أهمّ تأليفاته، ثمّ قام بتحقيق کتاب المقامات الناسخة للمقامات التي نُسختها المخطوطة الوحيدة موجودة في مکتبة جامعة شيراز. هذا الکتاب يحتوي علی مقدّمة ومقامة واحدة باسم المقامة القمريّة، وهذه المقامة تشبه المقامة الکوفيّة للحريري. اکتفی الباحث بتحقيق المخطوطة وشرح بعض المفردات الصعبة فيها.
تَختي ومَرعشي (1394ش.)، درسا البنية السرديّة في مقامتَي الربيعيّة والجدليّة للجزائري، وقد وردت هاتان المقامتان في کتاب خزانة الخيال. يُعَدّ هذا البحث أوّلَ بحث درس مقامات الجزائري أسلوبًا. لقد رکّز هذا البحث علی أهمّ عناصر الرواية في المقامتَين. وأهمّ ما توصّل إليه هو أنّ الجزائري، رغم مُراعاته لمبادئ کتابة المقامة القديمة، ينفرد أسلوبُه بسِمات فريدة ومبتكرة. ولکنّنا من خلال قرائتنا لمقامات خزانة الخيال کشفنا بأنّ أسلوب الجزائري في کتابة المقامة بعيدٌ عن مبادئ المقامة القديمة فکريًّا حيثُ الموضوعُ لا يتمحور حولَ الکُدية، وأسلوبًا حيث لا وجود لراوٍ ثابت وبطل ثابت في مقاماته.
برکت (1397ش.)، أشار إلی أنّ الجزائري قد نقل المقامة القمريّة من المقامات الناسخة للمقامات إلی کتاب طيف الخيال.
فؤاديان ورضائي (1399ش.)، يُشيران في بحثهما إلی أنّ بعض عناوين کتاب خزانة الخيال تحتوي علی المقامات، أي إنّنا نجد مقامات متفرّقة في ثنايا الکتاب، وبعض هذه المقامات تشبه مقامات الهمذاني والحريري في الأسلوب والشخصيّة، ولکن هناك فارق بين أسلوبه وأسلوبهما، وهو أنّ البطل في أکثر مقامات الجزائري يکون الکاتب نفسه، وأيضًا موضوع أکثر مقاماته ليس الکُدية والاحتيال، بل هو مناقشة وجدال في مسألة علميّة وحجّة جدليّة.
الکعبي (2005م.)، أشارت في کتابها إلی الجزائري ومقامته طيف الخيال، فذکرت بأنّ مقامته تميّزت «بالخروج عن بنية المقامة التقليديّة؛ إذ اتّخذت هذه المقامة الطويلة التي تستغرق أکثر من أربعمئة صفحة أسلوب المناظرة بين العلم والمال. وانتصر فيها الشيرازي للعلم مع عدم إنکاره فضل المال.» اعتمدت الکعبي في کتابها علی ما ذکره عوض.
إسماعيل (2007م.)، يدرس فنّ المقامة ويذکر أنّ المقامة هي الحکاية الشعبيّة الرسميّة، أي أنّها حکاية تقدّم خطابًا شعبيًّا بأسلوب رسمي، و«السفر في المقامة هو أسّ مرادفات تحوّل الفضاء في المقامات، من الهمذاني في القرن الرابع الهجري إلی طيف الخيال عند الشيرازي، والمقامة الحلبيّة لعصام الدين العُمَري في القرن الثاني عشر الهجري.»
عبد المؤمن (2011م.)، درس في أطروحته مقامات عائض القرني الکاتب السعودي المعاصر، واعتبر المقامة السابعة من المقامات القرنيّة لونًا من ألوان المناظرات والمقارنات، وقال: «وکان صاحب المقامات القرنيّة سار علی منوال الشيرازي صاحب مقامة طيف الخيال الذي قام بالمناظرة بين العلم والمال وانتصر فيها للعلم ومع ذلك لا يُنکر بعض فضائل المال. وممّا دعا الشيرازي إلی هذا الإنصاف ما مارسه من فاقة العيش التي سبّبت رحلته من بلده إلی بُلدان أخری بحثًا عن الفرج. لأنّ حالته تبدّلت مِن الغنی إلی الفقر ومِن اليُسر إلی العُسر.» اعتمد الباحث في بحثه علی کتاب عوض أيضًا.

بيرهجکلي (2011م.)، أتی هذا البحث للکشف عن معنی مصطلح المفاخرات الأدبيّة وعن مدی علاقة هذا الفنّ بالفنون الأدبيّة کالرسالة والمقامة. وبما أنّ کتاب طيف الخيال مقامة علی هيئة المناظرة بين العلم والمال وفخر المال عند العلم وفخر العلم لدی المال إذن عَدّه الباحث من ضمن المفاخرات الأدبيّة.
إبراهيم (2016م.)، أشار في کتابه إلی أسماء کُتّاب المقامة الذين خرجوا عن البنية التقليديّة للمقامة، ومنهم: محمّد مؤمن الجزائري.
شوکال (2022م.)، أشار إلی مقامة طيف الخيال للجزائري إذ قال: «وأهمّ ما نجده في القرن الثاني عشر مقامة طيف الخيال للشيرازي، وهي مقامة طويلة موضوعها مناظرة بين العلم والمال ضمّنها المؤلّف کثيرًا من آرائه في الفکر والأدب والحياة، ونقد فيها الحياة المادّيّة نقدًا مُرًّا.» اعتمد الکاتب في بحثه علی کتاب عوض أيضًا.
مَرعي ومَرعشي (2022م.)، درسا أسلوب کتابة الجزائري في المقامة القمريّة علی أساس المستويات الأسلوبيّة. الجدير بالذکر أنّ هذا البحث قد أشار إلی تطوّرات وتغيّرات حصلت في نصّ المقامة القمريّة عندما أوردَها الجزائري في کتاب طيف الخيال، ومنها تغيير اسم البطل فيها.
ومن خلال عرض هذه الدراسات تبيّن أنّ المقامة السابعة من کتاب طيف الخيال في مناظرة العلم والمال المسمّاة بالمقامة السواديّة لم تدرس أسلوبيا وفکريا بعد لذا جاء هذا البحث ليغور في بحر هذه المقامة ويستخرج منه لآلي الفکر والبيان.
5-منهج البحث:
اعتمد هذا البحث علی المنهج السردي لتناول القضايا السردية«التي تبحث في مکونات البنية السردية للخطاب من الراوي والمروي له، وتعني بالظواهر الخطاب السردي أسلوب وبناء ودلالة، وتأسيسا علی ذلک فإن علم السرد هو العلم الذي موضعه البنية السردية، الذي يعني البناء أو الطريقة التي يقام بها البناء» (لويزة، 2022: 8). هذا البحث باعتماده علی المنهج السردي يهدف إلی کشف عنصر الراوي في المقامة السوادية لمحمد مؤمن الجزائري.
6-أسئلة البحث
أمّا الأسئلة التي نحاول الإجابة عنها في هذا المجال، فهي:



  • کيف يکون عنصر الراوي في المقامة السوادية؟
    -ما هي إبداعات الکاتب السرديّة في هذا المجال؟
    7-البنية السردية
    الدراسات النقدية الحديثة ركزت على السرد والسردیات نظرًا لأهميتها الكبيرة في تحليل الأدب الإبداعي القديم والحديث، حيث تمثل السردية الخطاب الذي يقوم به السارد أو الراوي ليرسله إلى المتلقي أو الطریقة التي تحکي بها القصة أو الحکاية.أن مصطلح السرد هو من المصطلحات الحديثة التي أصبحت موضع اهتمام نقدي تحتتأثير البنيوية. حيث قام الباحثون بدراسة السرد بسبب دوره المهم في بناء النصوص وإيجاد تدفقات عاطفية ومواضيع دالة تجعل النص في حالة حركية تجذب القارئ نحوها. والسرد لها بنية خاصة من الأصول القصصية التي تشکل من مکوّنات من قبيل الشخصية، والحدث، والحبکة، والفضاء وغيرها، ولها بالنسبة إلی بنية السرد انسجام وتناغم متقابل»(عرب يوسف آبادي، 1396؛ 107). على الرغم من اختلاف المدارس الفكرية، تتفق المنهجيات النقدية على أن تحليل الفن السردي يجب أن يبدأ بالبنية السردية وخصائصها النوعية المتأصلة . من خلال التعريف السابقة نستنج بأن السردية تهتم بدراسات الخطاب السردي والبحث في العناصر المکونة للسرد من الراوي، والزمن، والمکان، والشخصيات، والحوار. لقد جاء هذا البحث ليسلّط الضوء علی المقامة السواديّة ويحللها تحليلا سرديا ويُعالج عنصرًا من عناصر السرد ألا وهو عنصر الراوي.بداية تطرق هذا البحث إلی العنصر الراوي ودوره في العمل السردي وبيّن لنا علاقة هذا العنصر مع باقي أرکان السرد الأخری، ثم قدّم لنا معلومات وجيزة ومفيدة عن مدی علاقة هذا العنصر بالکاتب بوصفه شخصًا من الواقع يقوم بخلق الشخصيّات في روايته، ثم عالج الأشکال التي یتخذها الراوي لتقدیم السرد وفي النهاية سلّط الضوء علی الأسلوب الذي اتخذه الجزائري لروایة الأحداث في المقامة السَّواديّة.
    1-7-لراوي
    عندما يستقبل المتلقّي نصًّا سرديًّا يجد نفسه أمام ثلاث مكوّنات مِن راوٍ ومَرويّ ومرويّ له أي ساردٍ ومسرودٍ ومسرودٍ له. كلّ نصّ سرديّ كما يَرى تودورف ينبغي أن تتوافرَ فيه هذه العناصرُ الأساسيّةُ الثلاث، مُسمّيًا إيّاها «الذي نتحدّثُ عنه، الذي يتحدّث، الذي نتحدّثُ إليه» (تودوروف، 2005 : 13) هذه العناصر أساسيّة لتكوين أيّ قصّة، بالإضافة إلى أنّ كلّ عُنصر يتطلّب وجود عناصرَ أخرى.
    عندما ندرس الهيكلَ السرديَّ في نصّ معيّن، نفكّر في الشخص الذي يَقِف وراءَ هذا السرد ونتصوّر أن يكونَ الصوتُ صوتَ الکاتب أو ربّما راوٍ آخرَ تَقَمّصَه الکاتبُ لِيَروِيَ به قصّتَه. إذن کما يعتقد زيدان لا ينشأ العملُ السرديّ من فراغ، لابُدّ أن خلقَها ساردٌ أو مؤلّف، فالسارد أو الراوي في الخطاب السرديّ يُعَدّ أحد أهمّ العناصر البنية السرديّة لأنّ الخطاب به يتّجه نحو السرد (زيدان، 2004م : 71).نستنتج من ذلک أن للراوي دور أساسي في الخطاب السردي، حيث يكون هو الذي يروي القصة كفكرة مكشوفة وقادمة من الخارج، وهو الذي يبتكر الحوادث والشخصيات، ويكون على دراية بأفكار الشخصيات وأسرارهم ویری كل شئ ویسمعه«إنّ الراوي هو من یجسد الأصول التي تعتبر الأساس للتقویم فهو الذي یخفی عنا أفكار الشخصیات أو یظهرها لنا وبذلك یعرض علینا انطباعه عن (علم النفس) فهو الذي یختار الكلام المباشر أو غیر المباشر أو یختار الترتیب الزمني الممتد أو الفوضي الزمنیة فمن غیر وجود الراوي لا توجد قصة إطلاقا»(تودوروف، 2003م: 71-72).
    ثمة علاقات متشعبة ومتشبکة بين الراوي وأرکان السرد الأخری، کما أن للراوي علاقة وطيدة بالکاتب بوصفه شخصًا من الواقع يقوم بخلق الشخصيّات في روايته، وهذه الشخصيّات لا تتولّد من فراغ، فهناک کثير من العناصر التي يستعيرها الراوئي من المحيط الخارجي ومن مخزون ذاکرته وقد يحاول تجميعها في شخصيّة أو أکثر من بين شخصيّات روايته « الراوي أحد عناصر المبني الحکائي، لأنّه أحدی الشخصيات التخييليّة فيه، لکنّه يتميّز منها بمسؤوليّات جعلته شخصيّة نوعية ذات تأثير علی عناصر المبني الرّوائي من جهة وعلی مکوّنات السّرد من جهة أخری، ثم بيّنت الأبحاث والدراسات أنّ علی الرّاوي تقع مسؤوليّة کبری في تجديد آليّة السّرد ومقاماته، لأنّه المسؤول الأوّل عن توصيل السّرد إلی المتلقّي» (شبيب، 2013؛103
    وأمّا النص السردي یحدث أن یكون السارد أو الحاكي خارج نطاق النص وهذا ما یطلق علیه الرواي العلیم أو الراوي الغريب عن الحکاية «في هذا النوع من الحكيَ یستخدم الضمیر (هو) الذي یعدّ من أكثر الضمائر توظیفاً في الرّوایة نظراً لبساطته وسهولة استیعابه من قبل المتلقي، ویكون حكي الرَاوي الغائب حكیاً أو سرداً موضوعیاً وتكون زاویة رؤیته من الخلف وعلیه نجد الراوي مُلماً بكلّ ما یحدث داخل الرَوایة وهو مسیطر علی الشخصیات ومُتحكم في أسرارها ومصائرها، كما أن الرَاوي یستغل عادة هذا الضمیر لیمرر ما یشاء من أفكار وآراء ومواقف دون أن یبدو تدخله صارخاً ولا مباشراً» (رابح، 2017م: 100).ویحدث أن یكون النص السردي علی لسان الرواي أي یكون الراوي موجوداً في داخل النص وهذا ما يسمونه الراوي المتضمن في الحکاية وأمّا في المقامة السوادية فيتّخذ المؤلّفُ أسلوب الراوي المتضمن في الحکاية لسرد الأحداث وسيحاول هذا البحث تسليط الضوء علیه.
    7-1-1- الراوي المتضمن في الحکاية
    يحدث هذا الأسلوب بتوظیف ضمیر المتكلَم (أنا) في النص «إنَّ ضمیر المتكلم یذیبُ النّص السّردي في النّاص فیجعل القارئ ینسی المؤلَف وهكذا یستطیع التَوغل إلی أعماق النَفس البشریَة فیعرَیها بصدق ویكشف عن نوایاها ویقدّمها للقارئ كما هي لا كما یجب» (مرتاض،1991م: 195) کما يقول الجزائري في بداية مقامته:
    «ساقَتني مُهاجرةُ الأوطان، ومُلازمةُ ومتابعةُ الشّيطان، إلى سَواد مُلتان، فوجدتُها مصرًا عذبٌ نِيلُها، وجَريٌ مَجرَى عَينِ الحياةِ سلسبيلُها، كأنّها جَنّةٌ حَلّت فيها الغِلمانُ والحُور، وخَلَت قُصورُها المشيّدةُ الأنيقةُ عن القُصور، مَرابعُها مَراتعُ الخصبِ والرّفاهِ للشّريفِ والوَضيع، أراضيها مخضرّةُ الأرجاء كيف لا وجميع فُصولها ربيع... فَأَلقَيتُ فيها المَراسي، وشَدَوتُ بها أَمراسي، وأَنَختُ مَطايا التِّسيار، وانتقلتُ من الأَكوار إلى الأوكار...»( الجزائري، 1116ق:143). ترسم هذه الجمل الاستهلال القصيرة صورة واضحة عن الراوي الذي يتکفّل بمهمة الرواية ألا وهو المؤلف نفسه. الجزائري يقصد بـ«سحبان هذا البيان ولقمان هذا الزمان وحَسّانُ هذي الأوان، وثاني بديع همذان» (السابق: 143). نفسه کما يصف نفسه في المقامات الأخری بـ«هادي هذا الوادي وحادي هذه البوادي». (السابق: 135) وفي المقامة الثامنة المعروفة بالطوسيّة يقول: « قال مُنشي هَذه الأخبار، ومُفشي هذه الأسرار» (السابق: 179). ومقامته التاسعة المسمّاة بالجزائريّة بـــهذه الجملة الاستهلاليّة:« قال قطبُ فَلکِ هذه السّرآير، ومرکز مُحيط کُلّ هذه الدوآئر، حداني حُبُّ الوَطنِ إلی أرض الجزائر، ومَسکن أجدادي المشهورين کالمثل السآئر» (السابق؛ 189).
    إنّ المؤلف في المقامة السواديّة حَلَّ محل الراوي الخارجي وبدأ يسرد الحکاية باستخدام أسلوب الکلام المباشر بدون توظيف عبارات مثل: حدّثني، أخبرنِي، حکی، روی. استخدم الکاتب فعل قال،ولکنّه لم يصرّح باسم الراوي وإنّما وصف الراوي بصفات مختلفة، أي بعبارة أخری، الکاتب خلق من نفسه شخصيّة جديدة تقمّصها للاختباء وراءها حتّی تتحمّل مسؤوليّته، سننظر إلی طریقة سرد الجزائري في تقدّم الأحداث:
    « قال سَحبانُ هذا البَيان، ولُقمانُ هذا الزّمان، وحَسّانُ هذي الأَوان، وثاني بديعِ هَمدان: ساقَتني مُهاجرةُ الأوطان، ومُلازمةُ ومتابعةُ الشّيطان، إلى سَواد مُلتان، فوجدتُها مصرًا عذبٌ نِيلُها، وجَريٌ مَجرَى عَينِ الحياةِ سلسبيلُها، كأنّها جَنّةٌ حَلّت فيها الغِلمانُ والحُور» (السابق: 143)
    في هذا النشاط السردي الکاتب يأخذ علی عاتقه دور الراوي وهو السارد المتضمن(الضمني) يقدم الأحداث والمواقف ويقوم بمهمّتَين: رواية الحدث من جهة والبطولة من جهة أخری. إنّه استخدم ضمير المتکلّم لسرد الأحداث التي وقعت له «إنَّ ضمیر المتكلم یذیبُ النّص السّردي في النّاص فیجعل القارئ ینسی المؤلّف وهكذا یستطیع التَوغّل إلی أعماق النَفس البشریَة فیعرَیها بصدق ویكشف عن نوایاها ویقدّمها للقارئ كما هي لا كما یجب» (مرتاض،1991م: 195).
    يمتاز هذا المنظور الشخصي بأنّ السارد فيها«يعرف أقل مما تعرفه أية شخصية، وهو يکتفي فقط بأن يصف لنا ما يری ويسمع، أي أنّه لا يستطيع أن يلج إلی قرارة نفس شخصياته» (جنداري، 2003؛85)
    يسيطر على هذه المقامة أسلوب سردي محدود المعرفة، حيث يمتلك الراوي معرفة قليلة عمّا يجري في عقول شخصياته، مع الأخذ في اعتبار تطور الشخصية وتوليها قيادة السرد؛ لنر في هذه السطور کيف الکاتب يتکلم عن مشاعر الشخصيات کأنّه لا علم له بما يحدث:
    «فما طَلَت أيّامًا بِلَعَلَّ ولَيت، وتَعَلّلتُ أسبوعًا بِكَيتَ وكَيت، حتّى رَضِيَت بعدَ شِقّ النّفس، وقَبِلَت غِبّ إنضاءِ العَنس، وسَرّت قلبي يومًا بوَعد إنشاءِ السُّرور، وسَرَت إليّ ليلةً كالنَّسيمِ حينَ عَسعَسَ الدَّيجور، ونَثَرَت بخُطُواتِ الأقدامِ أوراقَ الأوراد، وخَلَعَت بنُور وجهِها عن الليلِ لباسَ السّواد، ودَخَلَت مجلسي مع جَمٍّ غَفير من رَبّات رَنّات الرّباب، وجمعٍ كثيرٍ مِن اللِّداتِ والقُوّاد والأصحاب» (الجزائري، 1116ق:145).
    هنا الکاتب يعامل المتلقي وکأنّ لا علم له بأحداث القصة ولا يعرف ماذا سيحدث،حيث یتفاجأ بالأحداث التي تحدث والأمور التي تقع هو ذا الکاتب يعبر عن سروره برضا الحبيبة علی قبول الدعوة بعد جهود کثیرة من جانبه وبعد شقّ النّفس.


7-1-1-1 تعدّد الرواة
سابقا ذکرنا بإنّ الجزائري يعتبر الراوي الذي يختبئ وراء الضمير "أنا" المستخدم في السرد. يدير الكاتب دفّة السرد بإدخال أفكاره ومشاعره ورؤيته للأحداث والشخصيات. يستمد الكاتب قوته من قدرته على نقل القصة بطريقة تجعل القارئ يعيشها ويتفاعل معها بشكل عميق. بالإضافة إلى ذلك، یمتلك الكاتب القدرة على ابتكار العوالم والشخصيّات الجديدة وإبراز الجوانب المختلفة من الحياة من خلال أسلوبه السردي الفريد. لنری في هذه السطور کيف الکاتب یعبر عن خوالج صدره ولواعج نفسه ویحترق ویتألم ویجعل غيوم الحزن تخيم علی قلب المتلقي:
«فضاعَفُوا التَّعنيف، وأَكثَرُوا الأَراجيف، وجَعَلوا ذلك التَّلبيس، أَشهَر مِن كُفرِ إبليس، وَوَصَفوني بكلّ عَيب، وَاغتابوني رَجمًا بِالغَيب، وحَسَدوني ألا خَذَلَ اللهُ الحَسود، وكَفّروني وويلٌ لمن كَفّرَه نمرود... فأَخَذوا يُوَبّخوني في كلّ مكان، ويضربون مِنّي كلَّ بَنان، ويَشتِمونَني جهرًا بكلّ لسان... فكم مِن شامِتٍ جعلَ عِرضي غَرَضًا لِمَراميه، وقَلّدَني خِلالًا لَم تَزَل فيه، وكم من عدوٍّ انتَضَی عليَّ سيفَ عَداَوتِه، وشَحّذَ لي ظُبَةَ مُديَتِه، وكم مِن باغي بَغاني بمَكائدِه، ونَصَبَ لي شَرَكَ مَصايدِه...ـ» (الجزائري،1116ق:156).
إنمّا الجزائري لا يکتفي بسرد الأحداث بصيغة (أنا) «وإنّما هو أحد المتورطين فيها، وهذا الراوي يصنّف عادةً باعتباره ساردًا من داخل الحکاية، ساردًا مشارکًا، وهو أحد الأبطال، وهو السارد الممسرح أي أنه راوٍ له دوره في التمثيلية، إذا ساغ التعبير» (خليل، 2010؛78).
«فلمّا غَلَبَني الِاشتياق، وأَحرَقَني الِافتراق، عَرَضَني مرضُ الجنون، وصاحِبُ الغَرَضِ كالمجنون، وبِتُّ أسبوعًا أُناجي القلبَ المعذّب، وأُقَلّبُ العزمَ المذَبذَب، حتّى استقرَّ رائي على طلبِها مع بُعدِها بمراحل، فبعثتُ لها شيئًا كثيرًا من الهدايا والرُّسُل والرسائل» (الجزائري، 1116ق:154)
أن الكاتب بمثابة الساحر الذي يعزف على أوتار الكلمات ويخلق عوالمَ ساحرةً بأفكاره وخياله. يمتلك الكاتب القدرةَ العجيبة على جذب القرّاء وإيقاعهم في عوالمه المختلفة، مما يجعل القراء يعيشون تجارب رائعة ومثيرة خلال قراءة أعماله.
الجزائري في هذه المقامة ليس مطلعًا على كل ما يحدث، بل يتيح للقارئ متابعة الأحداث والتعرف على تفاصيلها من خلال منظور الراوي أو أحد شخصيات المقامة. كما يمنح الشخصيات الفرصة لتروي حكاياتها مما يسهل عليها عرض قضاياها أو كشف أسرار تخصّها. يستند هذا النمط السردي إلى الرؤية الداخلية ووجود راوٍ مشارك کما نری في النص التالي الجزائري يحکي لنا الحکاية علی لسان أحد الشخصيات ويروي بداية القصة من لسانه :
«فبَينا أنا جالسٌ بعضَ الأيّام، مُنتظمٌ معهم في سِلكِ الالتيام، إذ أَسَرّ إليّ بعضُ الجُلّاس...، أنّه مُنذ خَلَت مِن العَسكر المنصور دارُ الأمان، انشقّت بَيضَةُ البَلَدِ عن البِيضِ الحِسان...، وطَلَعَت شُموسٌ بازغةٌ من أُفُقِ الخَفاء، ولَمَعَت بُدورٌ كانت في حجابِ الحَياء، ولاسيّما مُطربةٌ مَليحة، وجيهةٌ صَبيحه، مُغَنّيّةٌ فصيحة، ، رَقّاصةٌ قَوّالة، كالشّعلةِ الجَوّالة، أو البدرِ بينَ الهالة، حُلوةُ الكلام، سَلوةُ الغَرام، مُعتَدِلةُ القَوام، كالبَدر التّمام..، اِسمُها سَواد...،فقلتُ: في أيّ الشِّعابِ وِجارُها؟ ومن أيّ الشعوبِ نِجارُها؟ وبأيّ الوُجوه سِرُّها وجِهارُها؟فقال: قريبةُ الدّار، نجيبةُ النّجّار، كثيرةُ الأَعذار، سريعةُ الِاعتذار، بعيدةُ الِانتظار، وحشيّةُ الأَنظار، كالشمسِ في رابعةِ النّهار...» (الجزائري، 1116ق:144)
« وقد يجتمع الکاتب في روايته بين رواةٍ کثير. وقد يکون عددهم بعدد الشخصيات الرئيسة في الحکاية» ( خليل، 2010؛ 87) الجزائري في السطور المذکورة أعلاه قد جمع بین الراویین: الراواي الأول هو رواي المقامة الذي يلعب دور بطل القصة أيضا والراوي المشارک هو عابر السبیل الذي لا دورا مهما له في مجری القصة. في هذا النشاط السردي الراوي أو بطل المقامة بالصدفة یلتقي بأحد الجلّاس ويستمع إلی کلامه ومن خلال الحوار الذي يجري بينهما یتعرف علی مطربة مليحة ذات وجه جمیل وصوت شجين باسم سَواد ومن هنا تبدأ القصة ويقع البطل في حب المطربة.
في مکان آخر يجمع الکاتب بين الراويين وهما: بطل القصة وحبيبته وتارة يتکلم عن لسان البطل وتارة أخری عن لسان الحبيبة حيث يقول:
«فشاوَرَتني سَوادُ في الاستقار، واختيار الفِرارِ على القَرار.
فقلتُ لها لابدّ أن تَتَغرّبوا وأَطلُبُ بُعدَ الدّارِ عنكُم لِتَقرُبوا
فاذهَبي حَفِظَكِ اللهُ عن فقدِ المسرّة، ولا ابتَلاكِ اللهُ بمضرّة الضّرّة، فما خُنتِ فيما صُنت، واللهُ معكِ أينما كُنت، فلمّا أَزِقَ التَّرحال، وعُكِمَتِ الرجال، وأُفرِزَ لِرُكوبِها بَغلٌ مِن المراكب...،قامَت إلى موقفِ الوَداع، وقالت لي: سماع سماع، إنّي أُقسِمُ عليكَ بفَضلِكَ العَميم، ولُطفِكَ القديم، ووَجهِكَ الوَسيم، (وَإِنّهُ لَقَسَمٌ لَو تَعلَمونَ عَظيم)، أَن تَحفَظَ لي ذَمامَ الذّمام، وتُذَكّرُني بالهدايا والسّلام، فأنتَ الذي مَلاذي ومَعاذي، وحَبيبي وطَبيبي، ومَفزَعي ومَرجِعي، في تُربَتي وغُربَتي، ونَجعَتي ورَجعَتي، وغَيبَتي وأَوبَتي، وذَهابي وإِيابي، وسَكَني ومَسكَني، ومالي ومَآلي» (الجزائري،1116ق:152).
تعدد الرواة يُضفي عمقًا على السرد، ويتيح للكُتّاب التعبير عن مجموعة متنوعة من الآراء والمشاعر والأحاسيس من خلال استخدام أكثر من راوٍ. هنا في هذا النص السردي الکاتب استخدم عدّة أصوات أو شخصيات لرواية الأحداث مما يتيح تنوعًا في وجهات النظر والأساليب السردية. الصوت هنا يکون لبطل القصة تارة ويصبح الصوت صوت المعشوقة تارة أخری وکأنّ الکاتب ماسکا الميکروفون أمام شخصيات القصة ویمنحهم حرية التعبیر، هذا الأسلوب يثري السرد ويجعله أكثر ديناميكية ويُعتبر علامة من علامات الحداثة في السرد، حيث يتجاوز الكتاب التقليديون الاعتماد على صوت واحد أو راو أحادي ولکن الجزائري رغم إنّه عاش في القرن الثاني عشر للهجرة استخدم هذا الأسلوب البديع الذي يدلّ علی إبداع الکاتب في کتابة المقامة.
لقد وجدنا الکاتب يستخدم هذه التقنية مرارا وتکرار في أماکن مختلفة في هذه المقامة بأغراض مختلفة منها تعزيز التفاعل بين الشخصيات لنری في هذا النص المقتطف من المقامة السوادية کیف تتفاعل شخصية سواد مع الأزمة التي واجهها بطل القصة:
« فلمّا رَأَت داري بيتَ الحُزن، ونفسي في قَيدِ المِحَن، وقلبي في أَسرِ الشَّجَن، وصدري في ضَيقِ العَطَن، وطَرفي يتقطّرُ دمًا، وخاطري متفكّرٌ نَدمًا، وأنا في حَومَةِ ذُلّ، وحَلقةِ غُلّ، وعَرصةِ بلاء، وجَولةِ عناء، عافَت رِثاثَةَ هيئتي، ونَقَضَت عهدَ مودّتي... فقالت ما أَجهَلَك، ما لي ولك، بئسَما ما ظَنَنت، وما أَدري مَن أنت، وعُفِيَ رَسمُك، ما أدري ما اسمُك، ويا ليتَ بيني وبينَكَ بُعدَ المشرقَين، وإنّ الفقرَ سَوادُ الوجهِ في الدّارَين، أَلم تَدرِ أنّه إذا بَقِيَت الأَكُفُّ صِفرًا، انقَلَبَتِ الألوانُ مِن الحرمانِ صُفرًا، ولذا قيلَ كادَ الفقرُ أن يكونَ كُفرًا، فاسئلوا الآن عن حُبّ وصالي، واكتَفِ عن رؤيةِ جمالي بخَيالي، وهكذا حَرَمَتني وشَتمَتني، ولو ذاتُ سوارٍ لَطَمَتني» (الجزائري،1116ق:158)
هنا الجزائري باتکاء علی تقنية تعدّد الرواة يستكشف العلاقات الإنسانية بشكل أعمق، حيث تتفاعل الشخصيات مع بعضها البعض من خلال سردها الخاص. في النموذج السابق تتقلب مشاعر الحبيبة وأحسايسها تجاه حبيبها إثر الأزمات التي حدثت للحبیب ها هو القناع يسقط من وجه الحبيبة المشرق الذي لطالما کان ينير عتمات درب الحبيب وها هو الحزن يخيم علی قلبه المکسور.
إنّ هذا النمط السردي يتيح للقارئ رؤية الأحداث من زوايا متعددة و يعزز من تعقيد السرد ويعكس تعقيدات الحياة. تعدد الرواة في السرد لا يعزز فقط من جمالية النص بل أيضًا يعكس تعقيدات الحياة وتجارب الإنسان المتنوعة، مما يجعل القراءة تجربة أكثر ثراءً وتفاعلاً.
2-1-1-7 -الحکایة الرسائلية
هنالک نوع أدبي آخر يمثل تعدّد الرواة وهو السرد الرسائلي، في هذا النوع من السرد يتم استخدام رسائل أو مذكرات كوسيلة للسرد. كل شخصية تروي قصتها عبر رسالة أو نص مكتوب، مما يتيح للقارئ رؤية الأحداث من زوايا متعددة. «الراوئي يلجأ عادة إلی العديد من التقانات السردية المهمة لإيصال نصه الروائي، ومنها الرسائل التي يهدف منها إلی تمکين الشخصيات من التعبير عن نفسها بحرية أکبر، فهي صيغة ذاتية، وهي حدث کتابي محدد بموضوع معين يتم الکشف عنه من خلال القراءة المتبادلة من طرف المرسل والمرسل إليه» ( البیاتي، 2019: 8).
إنّ الجزائري استخدم الرسائل كوسيلة سردية في مقامته السوادية . الکاتب بهذا الطريق قدم للمتلقي مشاعر وهواجس متعددة من خلال الرسائل التي تبادلت بين الشخصيات.
أن الحکاية الرسائلية تعتمد على المراسلات الافتراضية أو الحقيقية لتطوير السرد والحوار، مما يسهم في تشكيل الأحداث بطريقة فريدة. للنظر إلی الرسائل التي تبادلت بین بطل القصة وحبیبته سواد فسنجد بأن هذه الرسائل تعکس وساوس وهواجس الشخصيات و تقوم على استخدام عدة شخصيات تسرد الأحداث من وجهات نظر مختلفة، مما يخلق عمقًا في السرد ويعزز من تفاعل القارئ مع النص وأخيرا تحل عقدة القصة بعد منعطفات ومرتفعات کثیرة إليکم هذه الرسالة من سواد إلی حبیبه:


«سلامٌ مثلُ رَوحٍ مِن جِنانِ سلامٌ مثلُ رَوحٍ في جَنانِ
سلامٌ مِن سَوادَ على حكيمٍ مريضِ القلبِ مِن عشقِ القِيانِ
أمّا بعدَ إهداءِ أَحسَنِ التّحيّات، والتهنئةِ برفعِ تلك البَلِيّات، وبَثّ شَكوَى الفِراقِ إليك، وعَرضِ طولِ الاشتياقِ عليك، فإنّي لَعَمرُكَ لستُ أعتقدُ غيرَك لِلمُخالَطَةِ أهلًا، وكنتُ قبلَ البُعدِ ألَمَ المهاجرةِ سهلًا، (فراوَدَتني عَن نَفسي) مخادعةُ الزمن، وأَلجَأَتني إلى السّفر مفاجاةُ الفِتَن، فاخترتُ لنفسي شدائدَ لا اختيارَ لي منها، فإذا أنا بِداهِيَةٍ لا مفرَّ لي عنها، فتقطّعتِ الأَوصال، بِبُعدي عن الوِصال، وساقَني شوقُ الجمال، وشاقَني سوقُ الجمال، إلى الرجوعِ إليك، لِتَقبيلِ قَدَمَيك، اعتمادًا على خُلقِكَ الجميل، واتّكالًا على صَفحِكَ الجليل، فعَفوَكَ عمّا سَبَقَ مِن ذَنبي مأمولٌ، (وَالعُذرُ عندَ كِرامِ النّاسِ مَقبولٌ)» (الجزائري،1116ق:167).
وأما فنری رد الحبیب علی رسالة سواد:
«هوايَ نجدٌ وهواكَ الشّامُ وذا وذا يا مَيّ لايَلتامُ
لقد صرفتُ يا سَوادُ قلبي عنكَ فتمّ العشقُ والسّلامُ
أمّا بعدَ إهداءِ السّلام، وأداءِ تحيّة الإسلام، على مَن يَليقُ بالإكرام، فإنّي أُشير لك إلى هَنٍ وهَن، وإنّكَ بالصّيفِ ضيّعتِ اللّبن، فإليكِ عنّي يا شَوهاء، والدّاهيةِ الدّهياء، لقد وهبتُ وصلَكِ لطالبِك، وأَلقَيتُ حَبلَكِ على غارِبِك، وصرفتُ سيلَ الميلِ عن قُطبِ رَحاك، ومنعتُ نفسيَ البهيميّةَ عن مَرعاك، وطارَ قلبي عن فَراخِ وَكرِك، وأعوذُ بالله مِن كَيدِكَ وَمَكرِك، إنّ مَكرَكُنّ أَليم، و (إِنَّ كَيدَكُنّ عَظيم)، فاسكُتي يا فُلانَة، فقد خُنتِ في الأمانة، واخسائي يا ثُمالَةَ الرّجال، وفضالةَ الأرذال، والعِهنُ المنفوش، والجدارُ المنقوش، والبِساطُ المفروش، والدرهمُ المغشوش، والقُطنُ المحلوج، والعضوُ المفلوج، والظرفُ المكسور، والقوسُ الموتور، والدّرُّ المثقوب، والضرعُ المحلوب، والعظمُ البالي، والشنُّ الخالي، والثوبُ المستعمل، والسُّؤرُ المستبذَل، والشارعُ العامّ، والطّريقُ الحرام، والمُضغَةُ القَذِرَة، والجِيفَةُ النَّخِرَة، لاجَفَّ خِجرُك، ولاطابَ نَشرُك، ولاأقبلَ مُرادُك، ولاأَيقَلَ مُرادُك. لقد وَجَدتُكِ قليلةَ الحياء، عديمةَ الوفاء، زَوّارَةً في الغناء، فَرّارَةً في العَناء، فَتَرَكتُكِ لِذاك، وَسَلَوتُ عن هَواك، وَاستَرَحتُ مِن شَينِك، وهذا فراقٌ بيني وبينَك.»
(الجزائري، 1116ق:170).
اعتمدت هذه الرسائل على تعدد الرواة لتقديم أصوات متعددة وشخصيات متنوعة التي تعکس الأقوال والأفعال والمشاهد المختلفة.إنّ استخدام الرسائل في هذه المقامة کان بمثابة أداة للبوح ساعدت علی الکشف عن مکبوت نفوس شخصیاتها وقربتهم إلی القارئ. في الواقع « استخدام الرسائل هو تقنية سردية يفرضها الغرض التعبيري. فالرواية الرسائلية إذن: هي نوع من أنواع الرواية، التي تشتمل علی العناصر الأساسية التي تحويها الرواية، لکن يؤطر ذلک بإطار الرسائل، التي تُنسج من خلالها الأحداث، ويتعرف فيها القارئ شخصيات الرواية وجميع عناصرها» (الشايقي، 2022: 25). لقد وجد هذا البحث کثیر من هذه الرسائل في ثنایا المقامة، قد أبدع الجزائري باستخدام فن الرسالة في مقامتة السوادية ونستطيع القول بأنه يعتبر من السابقين والأولين في کتابة هذا النمط السردي في الأدب العربي. تنبثق أهمية المقامة السوادية المخطوطة التي لم تر النور بعد کونها متکونة من جنس روائي فرعي جديد في حقل السرد لاسيما الحکاية الرسائلية وهو جنس سردي أدبي لم یحظ باهتمام وافر بعد من قبل الباحثین والنقاد. وأمّا في مجال الرواية الرسائلية فيقال «هذا النوع من الروايات ليس بدعا في أدبنا العربي، بل ظهر في الأدب الإنجليزي والفرنسي کجنس أدبي في القرن السابع عشر، وبلغت قمة ازدهاره في القرن الثامن عشر. وأمّا في أدبنا العربي فهناک نماذج کثيرة استخدمت مثل تلک التقنية السردية، ومنها علی سبيل المثال لا الحصر: رواية (أديب) لطه حسين، ورواية ( زهرة العمر) لتوفيق الحکيم، ورواية (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس، ورواية ( رامة والتنين) لإدوار الخراط، وغيرها» (الشايقي، 2022: 24) بغض النظر عن نظريات المنظرين والباحثين حول مفاهيم الرواية ومنشأها وبغض النظر عن تأريخ ظهور أول الرواية في العالم العربي نستطيع القول إن محمد مؤمن الجزائري بتداخل الأجناس الأدبية في المقامة السوادية استطاع أن يبدع نمطا أدبيا جديدا وفريدا يحتوي علی عناصر المقامة والرواية لاسيما الرواية الرسائلية ولربما لو کان المنظرون والنقاد والباحثون مطلعين علی هذه النسخة المخطوطة لم یدلوا بآرائهم عندما قالوا : « أن تاريخ الرواية الرسائلية العربية عموما نشأ بعد بزوغ نجم الرواية العربية بحوالي عقد ونصف من الزمن تقريبا؛ ومن هنا فإن الرواية الرسائلية العربية في بادئ الأمر لم تنل اهتماما بالغا من الرصد والإبداع، وإنما نشأت في أول أمرها علی استحياء، وکانت بذلک قريبة العهد من نشأة الرواية العربية عموماً، حتی توافرت نماذجها في أواخر القرن العشرين» (البکر، 2022: 85).


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

أهم نقاط الـ Br...

أهم نقاط الـ Breaker Block 🔹 ما هو الـ Breaker Block؟ • هو Order Block حقيقي يكون مع الاتجاه الرئي...

دوري كمدرب و مس...

دوري كمدرب و مسؤولة عن المجندات ، لا اكتفي باعطاء الأوامر، بل اعدني قدوة في الانضباط والالتزام .فالم...

سادساً: التنسيق...

سادساً: التنسيق مع الهيئة العامة للزراعة والثروة السمكية وفريق إدارة شؤون البيئة لنقل أشجار المشلع ب...

I tried to call...

I tried to call the hospital , it was too early in the morning because I knew I will be late for ...

أكد موقع " cons...

أكد موقع " construction business news " في أحد تقاريره عزم الشركات اليابانية والصينية على استهداف ال...

This paragraph ...

This paragraph is a description about ... The relation).. I am ... (name of the person)....•• is thi...

عام. يمكن القول...

عام. يمكن القول إن نظام المعلومات يعزز شفافية السوق من خلال توفير المعلومات اللازمة ويعزز تداولية ال...

In this present...

In this presentation, I will focus on main points: First, I will provide a definition of the concep...

في خسائر فادحة ...

في خسائر فادحة للذرة، والمحاصيل السكرية، والأعلاف النجيلية، والكينوا. لمواجهة هذه التحديات بفعالية،...

أدى الإنترنت وا...

أدى الإنترنت والتطور الرقمي إلى إحداث تحول جذري في أساليب التواصل وتبادل المعلومات بين الأفراد. فنحن...

تم في هذا المشر...

تم في هذا المشروع تطبيق مكونات الواجهة الأمامية (Front-end) والواجهة الخلفية (Back-end) الشائعة لضما...

تُعد عدالة الأح...

تُعد عدالة الأحداث من أهم القضايا التي تشغل الأنظمة القانونية والاجتماعية في مختلف دول العالم، نظرًا...