أولا- فضاء النص التراثي الشعري ونقده :
لعله من المفيد لنا ونحن بصدد الاشتغال على هذه الدراسة أن نشير في عجالة إلى أن الشعر العربي القديم يتصل بشكل أو بآخر بحقائق النفس الإنسانية والطبيعة البشرية؛ فهو قد أعطى لنا صورة عن حياة البدو وطريقة تفكيرهم، إذ يمكن عده
وبهذا يكون الشعر العربي القديم بمثابة البؤرة الفضائية التي تحتضن ضروب رؤيوية تتصل بالحياة الإنسانية ، وما ينتج عند الذات الشاعرة من انفعالات وجدانية راغبة في التجسيد الإبداعي فتتحول من ذات شاعرة حالية إلى ذات شاعرة فاعلة قادرة على إثبات كيانها في عوالم نصية شعرية تجمع بين المتعة والتخليد، كم تستوجب فهمه وفق المناهج المعرفية والنقدية المعاصرة ، فإذا كان هذا الشعر يستند إلى ، فإن إنتاج هذا المستوى من الإبداع لا محالة هو بحاجة إلى رؤية قرائية نقدية تتماشى والتطور الفكري، ومواكبة التسارع الاستحداثي للحقائق المعرفية بدءا بتحديد أدوات الشاعر.
في الظاهر لا تبدو الحقيقة المعرفية التي احتضنها هذا التحديد لأدوات الشاعر، التي بينت إشارات يتكئ عليه الشاعر ليبني نصه الشعري – وأخذت فيما بعد محطات للقراءة النقدية- فكان أهمها كما يلي :
- مذهب العرب: في تأسيس شعرهم وفق الفنون والأغراض والمذاهب التي أبدعوا وفقها وأشعروا القارئ بتميز أشعارهم (السند في القراءة النقدية)
- اللغة: التي نجد معظم المناهج النقدية واللغوية نظرت إليها باهتمام كبير وتناولت جوانبها الأساسية تداوليا أو سيميائيا أو أسلوبيا أو تفكيكيا ...وما إلى ذلك ، كونها تعد العمود الفقري صناعة نصوصهم الشعرية إما بصورة عفوية أو تصنعية، ولا سيما إذا تم التسليم بأن التجربة الشعرية تنطلق من ركيزتها اللغوية التي تحقق وجودها الانفعالي والإيقاعي والتصويريو التعبيري...الخ، فاستثمار الشاعر لإمكانات اللغة -(اللفظ، المعنى، الجزالة، الإطناب، الإيجاز، العذوبة الجمال دلالة المعنى، الانسجام بين الألفاظ والمعاني، الإخراج الجمالي..)-يؤدي به إلى إرساء معالم لسياقات تكوينية مؤتلفة شعريا.
- الإيقاع: الذي وجدناه عند القدماء قاعدة لا يمكن تجاوزها في وضع أشعارهم وكانت في نقدنا المعاصر ملكة لمحاكاة الجمال وتذوق أسسه واستخراج صوره الشعرية لتقديمه أمام قاضي النقد الفني، وننوه بأنه يمكن الاصطلاح عليه بالتشكيل الموسيقي،أو الوزن، أو البحور الشعرية التي تمنح الكلام جمالا إيقاعيا يتناغم وفق مستوى سيروري في البنية النصية الشعرية ، فيحرك النفوس أثناء التفاعل معه (قراءته قراءة نقدية ).
- الصورة: التي تكفي هذه الجملة لتحديدها " تبرز في أحسن زي وأبصى صورة": قد أفضت إلى الإقرار بمعالم التواصل والتفاعل بين الشاعر المؤسس لصور إبداعاته إما واقعية أو مطعمة بأخيلة ينتقيها من جيوب تصوراته الذاتية، وفق شبكات منطقية، وتخطيطات ذهنية، كان للنقد المعاصر معها شأن في الوقوف على ما لها من حركة تأليفية تراوح الفروع المعرفية والسياقات النظمية،والتمثلات التوظيفية التي لابد أن تكون متناسبة مع الأنظمة البلاغية والدلالية.
ويمكن تسجيل المسار التواصلي بين النقد العربي القديم والنقد الحديث قصد تكييف ما كان من نظريات مع ما تتطلبه القراءة الآنية للمستجدات الفكرية والثقافية، وإعادة النظر في ما أنتج وإعادة صياغته في بنية جديدة تساير التفاعل والانفتاح ، لأي الخروج من القالب التقليدي لبناء وجود حداثي يحكم العلاقات المتفاعلة بين الذات المنتجة والذات المستقبلة.
وعلى هذا الأساس لا بد من إعادة القراءة للتراث النقدي على ضوء الروية المنهجية المعاصرة وبخاصة إذا أدركنا بأن كل قراءة
هنا نجد تصريحا بضرورة إعادة القراءة للتراث الذي يعد موجودا كيانيا حاضنا لحقائق مكثفة تقتضي فك شفراتها عبر الزمن، فهو كان ولا زال مخزنا للحقائق والمعارف المتصلة بالماضي والمشاركة للحاضر والموصلة إلى المستقبل، إنه يتمتع بخصوصي تكاملية لا يمكن تجاهلها، فهي بكل بساطة تستوجب التفاعل وتقديم رسائل قرائية توسيعية تنطلق من الابتداءات لتعمل على الكشف عن التحولات عن طريق الالتفاتات نحو الماورائيات في خط وجودي له ما له في التحليل الفني الجمالي المتميز مشيرا إلى الصور البلاغية وتوزيع عناصرها مع تقديم شروحات وتوضيحات بالاعتماد على معطيات دقيقة ترتبط بالفكر واللغة والخيال، كما أنها لا تنفصل عن التدقيق والتفصيل والتفكيك والتوليد (ولعل هذا ما تتطلبه القراءة المعاصرة).
وليس غريبا أن نضغ هذه الخطاطة لنقرب التوجه الفكري في هذا الموضع:
• التراث ( ما كان هناك) عند القدماء ( دائرة الحضور الفعلي/ الما كان /الشعر القديم)
• إعادة القراءة وفق المنظور الحداثي ( ما هو حاصل هنا ) (دائرة الحضور الآني / الهنا)
• ديمومة الوجود (حضور الما كان + حضور الهنا ) علاقة التعاطي المعرفي بين الحضورين
• أكثر من متقبل واحد (انفتاح النص التراثي على قراءات عديدة ) (إنتاج المعرفة بفضل إدراك ما يقرأ)
ومن الواضح أن جسر التواصل بين التراث و إعادة قراءته وفق مقتضيات العصر وما أفرزته من نظريات جديدة تبقى مستمرة، على اعتبار أن التراث مخزون مركب مركز يستميل القارئ لاستكشاف عوالمه القرائية ، وفتح أنساقه المغلقة للاستفادة من ينبوعه المغلق وأنماطه التركيبية وتشكيلاته الصوتية ...وغير ذلك .
ومن المؤكد أن الاشتغال على قراءة الشعر العربي القديم قراءة جديدة من منظور حداثي تقتضي وعي القارئ بما يقرأ في ظل أطراف المعادلة النقدية التالية:
• المقروء (الشعر العربي القديم) زمن الشاعر ونصه غير زمن القارئ
• القارئ( المفكك والمؤول لعوامل النص القديم ) عصره غير عصر النص القديم
• بين المقروء والقارئ علاقة تشاكل وتباعد في ذات الوقت انفصال في العصر والزمن لكن سرعان ما تتحول إلى انجذاب وانصهار مع الحفاظ على الخصوصية.
ولعل توجهنا هذا يوضح أن قراءة النص الشعري القديم قيمة إضافية على ما كان تستلهم من عالم القارئ ومرجعياته الفكرية وشحناته المعرفة غير المنفصلة عن العالم النصي الشعري التراثي على الرغم من التباعد الزمني بين الطرفين إلا أن الوجهة المنهجية تدفع إلى التعرف على كيفية الاستنطاق والتوليد وهنا نتساءل: كيف نقرأ النص الشعري القديم ؟ ولمن يقرأ ؟ وبأي منهج؟
ولنعالج هذه الاشكلات نتناول العنصر الثاني من هذه الدراسة:
ثانيا- مدار النص التراثي الشعري من التجسيد إلى الرؤية النقدية الحداثية :
إذا كان الشعر –كما هو متفق عليه- يدل على الكلام الموزون المقفى الدال فإن مداره
ولنا في هذا المدار رؤية قرائية حداثية نربط فيها بين الإمكانات التي لابد للشاعر أن يحترمها في انجازه لبنيته النصية والتي في والوقت ذاته ينطلق منها القارئ المعاصر ليستند عليها في قيامه بالممارسة القرائية النقدية ، متسائلا.
ما حقيقة تراثنا القديم/ شعرا ونقدا؟
لماذا نخضعه للممارسة النقدية؟
كيف نتعامل معه؟ وبأي منهج؟
هل نراعي فيه الأنساق النقدية؟ أم الإجراء المنهجي ؟
أسئلة تجعلنا في البداية نعطي بعض الإشارات النقدية القديمة والمعاصرة –في آن واحد - في وسم شعرنا العربي القديم في ظل مفتاح مداره الذي نلخصه انطلاقا مما ورد في هذا النص وتأكيد فاعليته بوصله بإمكاناته التي تحدده وهي:
- إقامة الوزن: الاستقطاب بالإيقاع (رؤية جمالية) - تخير اللفظ: الألفاظ الموظفة دالة على معانيها مع احترام ربط الكلام بعضه ببعض
- سهولة المخرج: النطق السليم والبناء اللغوي المتين - كثرة الماء: العفوية في قول الشعر والشفافية في إرساله
- صحة الطبع: الابتعاد عن التكلف في إخراج الكلام - جودة السبك: التركيب المتين الذي من خلاله تكون العلاقات الداخلية متينة في النص الشعري
- الصناعة وضرب من النسج:التكامل ألتوظيفي للألفاظ مع شحناتها الدلالية والعطاء المعرفي - التصوير: الأخيلة والإخراجات الجمالية وما تفجره من إدراكات تعبيرية
وإذا كان الإطار المداري-إن صح القول – للشعر العربي القديم يأخذ شكل خلية النحل –في تصورنا- ذات خطوط متوازية يربط بينها الرابط الدلالي والرمزي يقوم على فكرة السياق الدلالي الذي نسجته الملكة اللغوية التي يصمم على حسابها صرح البناء الشعري ككل، الجامع بين ما هو تراثي وما هو لبنة للقراءة الحداثية .
انطلاقا من هذه الرؤية نرى بأن الشعر العربي القديم تتجاذب وصلاته اللغوية لتستجيب- في اعتقادنا- لصوره الجمالية قرائية حداثية، فهذه الرؤية يمكن أن تجسد كينونته، حيث تنقله من حيزه المصطلحي إلى حيز النظرية الشعرية،كيف لا وأسس مداره متوفرة وتفتح آفاق الرؤية الحداثية، وهذا ما نبرزه من خلال المعادلات التالية:
- المعادلة الأولى: (إقامة الوزن) +امتلاك التركيب= إثبات الوجود عن طريق دغدغة أحاسيس المخاطَبْ الرغبة في تحقيق الانجذاب بين (المخاطِب والمخاطَب) (الإيقاع)(بالمصطلح المعاصر).
- المعادلة الثانية: تخير اللفظ+ سهولة المخرج= ترابط الوحدات المعجمية المشكلة وعلاقاتها لتولد الدلالة المتجانسة ( البنية السطحية بالمصطلح المعاصر).
- المعادلة الثالثة: كثرة الماء + صحة الطبع+ جودة السبك= المجرى الإبداعي العفوي في ثنايا المؤشرات البلاغية مع معرفة الكيفيات التوظيفية والاختيارات الجمالية (البنية التركيبية )
- المعادلة الرابعة: الصناعة + ثقافة التجانس والتمحور حول التركيب والتكامل التوظيفي
(الوجود الجمالي بالمصطلح المعاصر).
- العادلة الرابعة: ضرب من النسج + التناسق في النظم نسق الشعر والمؤثرات الداخلية
(تشكل الخطاب بالمصطلح المعاصر)
- المعادلة الخامسة: جنس من التصوير+ الإدراك التعبيري المباشر أو غير المباشر (الأخيلة)
على أن يكون هذا التصوير بتوظيف صورة معينة أو التصوير باللون أو بالحركة أو بالوزن ...الخ ( البنية الجمالية الفاعلة بالمصطلح المعاصر) ، ولا سيما إذا تم التسليم بأن
وفي ظل هذا التوجه الفكري يبدو لنا أن اللغة التصويرية شديدة التعالق مع تلك الخيوط وتنمو بنماء متانتها التوظيفية، وتشكيلاتها المتناغمة التي ينطوي عليها الشعر العربي القديم المثقل بكل الإيماءات والإيحاءات تهزها ثنائية الإقبال والإدبار قصد استنطاقها استنطاقا حداثيا ،وفق آلية من الآليات فتتكشف الماورائية فيه، على اعتبار أن
وإذا كانت عملية التمثل هذه تنطلق من اللغة الفنية فإن حركة حياكة نسيج الشعر العربي القديم له وجهته البيانية، وكذا التشكيلية والمنطقية والفلسفية،التي راعتها العملية القرائية في مسارها، فبقدر ما تتفاعل فيما بينها بقدر ما تقتضي الرؤية الحداثية التي تزيده تميزا وتدبرا ومن ثم تجاوزية.
وفي الحقيقة ؛إن المنظور الحداثي لنقد الشعر العربي القديم وفق القراءة الجديدة بوصفها قراءة للتراث تقرب الفضاء القرائي التوليدي من عالم تاريخي خاص إلى عالم قرائي بحثي عن ما كان موجودا لتمنحه كينونة قرائية راهنة في إطار ما يعرف بحركة المد والجزر بين القارئ الحداثي والمقروء التراثي الذي حظي باهتمام كبير على مستوى الكتابات من قبل الدارسين.
ثالثا- حضور القراءة الجديدة للتراث الشعري من خلال البوابة الجزائرية للمجلات "asjp":
لو عدنا إلى البوابة الجزائرية للمجلات "asjp" لوجدنا ما نشر فيها يستحق الذكر، حيث نلمس من هذه الدراسات قيمة النص التراثي التي دفعت الباحثين والدارسين إلى التفنن في دراسة تلقي هذا الخطاب الشعري العربي القديم تعزيزا لحركته وتوسيعا لنطاقه الدراسي، مع دعم العملية العلمية التدريسية والتحصيلية،وكذا الاستفادة من الينبوع المعلوماتي، واستيعاب الحاضنة البيبليوغرافية له، بصورة ميسورة في البحث والتدقيق ولما لا الاستقراء من قبل الكوادر البحثية.
ولنا في الجدول التالي بعض الدراسات المنشورة على هذه البوابة:
الرقم المؤلف عنوان المقال المجلة التي نشر فيها العدد والسنة
01 د/ مريم سعود(جامعة الجلفة) عيون الشعر العربي القديم مجلة آفاق للعلوم(الجلفة) العدد 14/ 2019م/ المجلد 04.
02 د/ عبد الكريم معمري(جامعة المسيلة) رواية الشعر العربي القديم مجلة العمدة في اللسانيات وتحليل الخطاب(المسيلة) المجلد06 العدد01/ 2022م
03 د/ تيحال نادية (المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة الشعر العربي القديم بين التراث النقدي والمناهج الحديثة مجلة الباحث، مخبر اللغة العربية وأدابه( الأغواط) المجلد 02/ العدد 03/ سبتمبر 2010م
04 أ.د/ حسن منديل حسن العكيلي
(كلية التربية للبنات/ جامعة بغداد) قضايا أسلوبية بين الموروث العربي والمناهج الغربية الحديثة مجلة جسور المعرفة للتعليمية والدراسات اللغوية والأدبية (الشلف) العدد 02جوان 2015م
05 د/ عمر بوقمرة(الشلف) الحجاج في الشعر العربي القديم (كتاب الحجاج في الشعر العربي القديم من الجاهلية إلى القرن الثاني/ بنيته وأساليبه)سامية الدريدي أنموذجا مجلة التواصلية (مخبر اللغة وفن التواصل) جامعة المدية العدد 03/جويلية 2015م
06 د/ سليم بوزيدي(ميلة) لغة الشعر العربي القديم بين الاقتباس والتوظيف الفني، بحث في شعرية التقمص مجلة جسور المعرفة للتعليمية والدراسات اللغوية والأدبية (الشلف) المجلد 06،العدد 03/ 2020م
07 أ/ أحمد حاجي (ورقلة) مطاردة النص:بين صور الاستحضار وأسلوبية التقمص نحو قراءة بديلة للشعر العربي أبو حمو موسى الزياني نموذجا مجلة الأثر(ورقلة ) العدد 03 ماي 2004م
08 د/ نورة بن تهامي(البويرة) آليات القراءة الجديدة في نص مصطفى ناصف(قراءة ثانية لشعرنا القديم) مجلة القارئ للدراسات الأدبية والنقدية واللغوية المجلد 05 العدد 02/جوان 2022م
09 أ.د/ صالح بلعيد كيف نقرأ التراث وبأي منهج؟ مجلة اللغة العربية (المجلس الأعلى للغة العربية) العدد 17 صيف 2007م
10 د/ قيزة عيسى آليات قراءة التراث البلاغي: الرؤية والمنهج مجلة ميلاف للبحوث والدراسات (ميلة) المجلد×7، العدد02/ ديسمبر 2021
11 د/ ناجي نادية (تيسمسيلت) قراءة التراث لدى المفكرين العرب من منظور حداثي مجلة المعيار(جامعة تيسمسيلت) المجلد 13 العدد01/جوان 2022/
12 أ.د/محمد مرتاض التراث والقراءة الحداثية مجلة الفضاء المغاربي(مخبر الدراسات النقدية والأدبية وأعلامها في المغرب العربي(جامعة تلمسان) المجلد 03/ العدد01/يناير، فبراير 2019م
13 د/ رفاس نورالدين القراءة المعاصرة للتراث عند محمد أركون مجلة التدوين (جامعة وهران 02) المجلد 13/ العدد01 أوت 2021م
هذه عينة فحسب من المقالات المنشورة في البوابة الجزائرية للمجلات العلمية والتي أخذت على عاتقها دراسة التراث بمنظار حداثي في إطار نظام إلكتروني فعال يسمح بالاطلاع على كل ما هو متعلق بالحركة النقدية المعاصرة مع إعادة إحياء التراث الشعري العربي القديم، وتوسعة نطاقه في الأوساط الأكاديمية عموما والأكاديمية الجزائرية على وجه الخصوص، فكان دور المنصة هنا في غاية الأهمية، فهي صلة وصل بن النص التراثي في زمنه والقارئ المعاصر وتوجهاته القرائية النقدية الحداثية،كما أنها تكشف الستار عن ذاك النص التراثي والإنتاج القرائي الحداثي المتولد عنه.
ولعل المدقق في العينة التي أوردناها يلاحظ أن أصحابها تناولوا النص التراثي من زوايا مختلفة (حقيقته، روايته، قراءته بمناهج نقدية معاصرة، أسلوبيته، أبنيته، شعريته، آليات قراءته وقراءة جانبه البلاغي...الخ).
ومما لا شك فيه أن تناول المنظور الحداثي لنقد الشعر العربي القديم في ضوء القراءة الجديدة يجعل من هذا التراث أيقونة متحررة من القيود محافظة على خصوصية خطابها، ووسائطها، وربما هذا ما أدركه الدارس الأكاديمي ومن ثم جعل من التراث قبلة له ومن النشر في تلك البوابة هدفا لابد من تحقيقه.
الدارس المنجز والناشر لتلك الدراسات على منصة asjp كان يختار ما يدرسه بعناية؛ حيث نجد قراءته للعينة حينا نظرية وحينا آخر تطبيقية وحينا يخضعها لما يعرف بنقد النقد، وهذا كان بوعي من الدارس الذي يتقفى مسار مساق نصه المقروء، متجاوبا مع توجهه الفكري ومدركا لحقيقة النص التراثي الشعري والصورة المعاصرة لقراءته إما نظريا أو ممارسة.
يمثل هذا الفهم نواة العلاقة بين القارئ( المشتغل على قراءة النص التراثي) و المقروء( النص التراثي الشعري الذي أخضع للممارسة النقدية)،إما تأصيلا أو تأسيسا أو استكشافا أو نقدا أو نقدا للنقد، كلها منافذ للتعامل مع ذاك النص (التراثي)
وفضلا عن ذلك فإن قراءة التراث الشعري من منظور حداثي يستوجب ما يلي:
- استيعاب أبعاده النظرية وكذا الابستيمولوجية ومنحها تصورا جديدا تحتضنه الأجهزة المفاهيمية المدركة لحقيقته
- العناية بساقه التاريخي وزواياه المختلفة المتصلة بالجانب المعرفي والدلالي و البلاغي.
- إتباع منهجية مناسبة لما انطوى عليه من مناظر ومناسبة لما يتولد منه في إطار القراءة المعاصرة (الإحياء)
- احترام الأنساق المتشابهة والمكونات الخطابية، مع الأخذ بعين الاعتبار الإمكانات المحتملة في قراءة المنجزات الذهنية( التراث العربي الشعري).
- عدم الإغفال عن الأنساق المعرفية التي يتحرك في حماها النشاط القرائي.
- الوعي بالتشابك الفعال بين النص التراثي والتراث النقدي والحدث القرائي والمعارف النتباينة المتصل بالكل.
ويمكن لهذه الأمور أن تترافق وتتداخل في علاقاتها لتبرز طريقة القراءة للنص الشعري القديم لتكون ملامح قراءته في >
وعلى هذا الأساس يكون النص الشعري التراثي قابلا للقراءة والفهم والاستيعاب، بل حتى التداول، وبخاصة إذا تم الإقرار بأن القراءة الجديدة للتراث الشعري ما هو إلا حدث ثابت/ ساكن وقراءته حدث متحرك/ نشط، منفتح يسمح بالتجاوز
وبذلك يكون المشتغل على نقد الشعر العربي القديم-" التراث العظيم " - وتناوله من منظور حداثي طرفا فاعلا وفعالا في إخضاعه للممارسة النقدية، وعمله هذا ليس بالانجاز والانتهاء؛ وإنما هو حدث له ديمومته الوجودية بحضوره الدائم، الممتد في منظوراته من خلال معطيات وتفصيلات يتوصل إليها القارئ/ الناقد وهذه ما جعل الكثير من الدارسين يجعلونه أرضا خصبة ليقدموا إسهاماتهم القرائية النقدية في البوابة الجزائرية للمجلات asjp فكانت بذلك مادة قابلة للدراسة بطرق مختلقة وبدرجات متفاوتة بتفاوت مستويات القراء شريطة إدراك كنهه وفهمه حتى يتمكنوا من استنطاقه، وينقلوا الإدراك مما هو كائن(القديم) إلى ما يمكن أن يكون( القراءة الناقدة)، عن طريق كسر أغلال الغموض واللبس ورسم عوالم نصية جديدة تميز هذا عن ذاك.
وهذا ليس بالأمر الجديد في التعامل مع نقد الشعر العربي القديم من منظور حداثي بل كانت لبعض النقاد المعاصرين تجربة في ذلك من أمثال
ويمكن الإشارة قول"زكي نجيب محمود"في هذا الصدد:
ومما يبدو لنا أن ما تركه القدماء من شعر قديم وما كانت له من قراءات إلا أنه يقرأ في الراهن وفق رؤى حديثة يتم من خلاه إحياءه على كل المستويات فهو ، فهو منغلق على ذاته يحتاج إلى قراءة نافذة وتوظيف دقيق ، ولا سيما وأن هذا الشعر يمثل ، فإدارة محتويات نقد الشعر العربي القديم تتعاقب عليه الأجيال فيجعلون له صرحا قرائيا يتماشى ومتطلباته الخاصة، فيكون غيابه محل الحضور ليؤصل لوجوده الفاعل والفعال فينفتح على الحاضر في إطار مشروع لا يمحو ما كان من قراءات، وإن كان بعضها يتعقب البعض الأخر بكل ما توحي إليه عبارة إعادة القراءة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن التعامل برؤية نقدية مع الشعر العربي القديم وقراءته قراءة جديدة يتحرك في حمى ثلاثة دوائر قرائية تناولها"جابر عصفور" على النحو التالي:
- القراءة الانتقائية: التي كان هدفها السعي نحو تحقيق التوافق بين الأصالة والمعاصر(بين الما كان والما سيكون) .
- القراءة التثويرية: وتعني إقامة الثورة على الما كان والرغبة في إعادة التشكيل والبناء.
- القراءة التنويرية: وهدفها تنوير عقل القارئ العربي لاكتشاف الأنظمة المعرفية التي ينطوي عليها الشعر العربي القديم.
وهكذا يكون نقد الشعر العربي القديم وفق قراءته بصورة جديدة تضمن له حركيته وسيرورته حتى لا يبقى دائرة القديم ولتضفي عليه الرؤى النقدية الحداثية رؤية جديدة وفق استراتيجيات قرائية نقدية تختلف من ناقد إلى آخر، انطلاق من النظريات والأنظمة المنتهجة، كونه يملك أبنيته التي تؤمن له العديد من الاحتمالات القرائية.