لخّصلي

لقد قام "روبرت ميرتون" بتطوير نظرية اللامعيارية التي جاء بها "دوركهايم" فقد استعار مفهوم الأنوميا منه، حيث أن محاولة "دوركهايم" للتمييز أو التعرف على الحالات السوية والباثولوجية داخل المجتمع كانت تهدف إلى عزل الحالات التي تهدد النظام العام، هذه الحالات هي نتيجة للامعيارية حسب دوركهايم([1]).

غير أن الإختلاف الذي حصل بينهما يكمن في أن "دوركهايم" يرى أن حالة الأنوميا (اللامعيارية) تسود المجتمع في حالة مفاجئة كحالة الكساد الإقتصادي بينما يرى "ميرتون" أن حالة عدم التكامل بين ما يحدده النسق الثقافي و ما يقدمه البناء الإجتماعي لتحقيق الهدف عند الفرد مما يؤدي إلى انحرافه، و بالتالي فالإنحراف و العنف يصيب البناء الإجتماعي للمجتمع، أي أنه لا يحدث بصورة فجائية([2]). ف"دوركهايم" يعتبر أن حالات اللامعيارية داخل المجتمع تنجم عن الأزمات الاقتصادية والأسرية ما يؤدي إلى ظهور السلوكات الإنحرافية، أما "ميرتون" فيرى أن النقص الكبير في التكامل بين الوسائل والغايات في النمط الثقافي وبناء طبقي معين يعملان معا على زيادة تكرار السلوك المضاد للمجتمع في هذه المجتمعات.

لقد جعل "ميرتون" مفهوم الأنوميا أكثر تنظيما و تنسيقا حيث وجه الانتباه إلى أنماط العلاقة بين الأهداف و القيم الإجتماعية و بين الوسائل أو المعايير الثقافية المتاحة لتحقيق هذه الأهداف، إذ يعتبر أن الصور المختلفة للسلوك المنحرف تنجم عن التفاوت أو عدم القدرة على تحقيق الأهداف بالوسائل الشرعية، وأن التناقض بين الإيدولوجيا المنتشرة وهي المساواة في إتاحة الفرصة بدرجة متساوية أمام الجميع وبين الحالة الواقعة فعليا يساهم في تشكيل السلوك المنحرف.

لقد عرض "ميرتون" نظريته هذه في مقال بعنوان "البناء الاجتماعي و اللامعيارية" عام 1938 و يوضح فيه أن بعض الأفراد يتعرضون بسبب إهمالهم من قبل الجماعة، وكذلك بسبب خصائص معينة في شخصياتهم إلى التوترات الناشئة عن التعارض بين الأهداف الثقافية والوسائل الفعالة لتحقيقها، ويكون هؤلاء الأفراد عرضة للسلوك الإنحرافي... و يرجع ذلك إلى أنهم يحتلون وضعا مهملا من الناحية الموضوعية داخل الجماعة... وفي هذا الصدد يمكن أن تعزز الظروف الأسرية لاستهداف الضغوط اللامعيارية ومن تم فهم يكونون أكثر عرضة للسلوك الانحرافي أو لانتهاك المعايير النظامية الذي يكافئ في بعض الحالات من خلال إنجاز الأهداف وتلك مكافأة اجتماعية بلا شك([3]). معنى هذا أن السلوك الانحرافي لا يؤثر على الأفراد الذين تواطؤا فيه فقط، بل ينتقل تأثيره إلى أفراد آخرين ممن يرتبطون بهؤلاء ارتباطا متبادلا في النسق، و بالتالي فإن هذه العملية تؤدي إلى اتساع نطاق اللامعيارية.

و يؤكد "ميرتون" على فكرة أساسية مفادها أن طبيعة البنية الإجتماعية هي التي تدفع الأفراد إما إلى السلوك المتكيف أو المنحرف، ولفهم البنية الإجتماعية لأي مجتمع يحدد عنصرين أساسين هما المعايير و الأهداف الثقافية:

• 
  

  المعايير: مجموعة القواعد التي تحكم السلوك وتضبط وسائل الوصول إلى الأهداف من خلال قنوات معينة، وترتب هذه المعايير الوصول إلى الأهداف حسب قيمتها الاجتماعية فهناك طرق مثلى وطرق مستحسنة وأخرى مقبولة وغيرها ممنوعة.

  
  


• 
  

  الأهداف الثقافية: لكل مجتمع مجموعة من الأهداف والإهتمامات المحددة، وتشكل هذه الأهداف الآمال المشروعة التي يحددها المجتمع لأفراده.

  
  

يمكن القول أخيرا حول نظرية "روبرت ميرتون" أنه عندما تتعارض الأهداف مع المعايير أو الوسائل، ولا تحقق الفائدة لكل أعضاء المجتمع يحدث الخلل، ويظهر شكل من أشكال الإنحراف داخل المجتمع، فالأهداف والمعايير ليسا مستقرين في اتصالهما أو ترابطهما، فقد يحدث أحيانا في بعض المجتمعات التأكيد على الأهداف على حساب المعايير أو الوسائل ليصبح بذلك بلوغ الهدف بأي وسيلة شائعا داخل المجتمع، وهذا ما ينتج عنه انحراف الأفراد ونكون أمام مجتمع غير متكامل أو مصاب بالخلل. وقد يحدث أن تصبح الوسائل ذاتها أهدافا، حيث يكون الامتثال الكامل للقواعد السلوكية هو الأساس في سلوك الفرد، كما في حالات التزمت الاجتماعي أو الفردي، وهذا ما يؤدي إلى جمود في بنية المجتمع وعدم تطوره.