لخّصلي

(هل لي أن أعرف الآن لماذا تبص عيناك وكأنهما على وشك النتوء من رأسك ؟ سألت ماريلا أن ما إن رأتها تدخل البيت بعد عودتها من مكتب البريد أتراك عثرت على روح أخرى مشابهة لروحك ؟)

كان الحماس يجلل أن كالرداء، وينبثق مشعا من عينيها، ويضطرم في كل قسمة من قسماتها. عادت راقصة على طول الدرب، كجنية صغيرة طايرتها نفخات الربح رغم أشعة الشمس الدافئة والظلال الكسولة التي توشحت بها تلك الأمسية من شهر أب.

(ليس الأمر كذلك يا ماريلا، ولكن ما الذي يمكن أن يخطر ببالك؟ أنا مدعوة إلى تناول الشاي في منزل المدرس مساء غدا تركت لي السيدة الن رسالة الدعوة في مكتب البريد تأقليها يا ماريلا، الأنسة أن شيرلي. المرتفعات الخضراء. هذه أول مرة في حياتي أدعى بها أنسة يالها من رعشة تلك التي سببتها لي سأظل محتفظة بهذه الدعوة إلى الأبد وسأعتبرها من أغلى كنوزي)

(أخبرتني السيدة ألن أنها ستدعو تلاميذها في المدرسة تباعا إلى تناول الشاي. قالت ماريلا مستقبلة ذلك الحدث ببرود. لا داعي لأن تهتاجي بسبب هذا الأمر. تعلمي كيف تتعاملي مع الأحداث بهدوء يا صغيرتي.)

كان التعامل مع الأحداث بهدوء يعني بكل بساطة تغيير طبيعة أن الفطرية. فقد كانت تلك الطبيعة المجبولة من الحيوية والنار والندى تجعلها تضاعف جميع مسرات وآلام الحياة إلى ثلاثة أضعاف كانت ماريلا تعرف هذه الحقيقة. وكان قلبها يعتلج بقلق غامض على أن لإدراكها أن الارتقاء والانحدار في هذا الوجود سيكون صعب الاحتمال على تلك الروح المندفعة التي لا تعي أن الابتهاج الهائل بتحقق المسرات قد تكون نتائجه أكثر خطورة من كونه مجرد تعويض عن خيبات أمل سابقة وشعرت ماريلا أن الواجب يقتضي منها ترويض عريكة أن بحيث تصبح ذات اتساق هادئ غير مدركة أن هذا التغيير مستحيل ودخيل على أن كما قد يكون مستحيلا ودخيلا على إشعاع شمس راقص فوق ماء جدول. ولم تحقق ماريلا أي تقدم ملحوظ كما اعترفت لنفسها بأسى. فقد ظل فشل واحد من الأمال الغالية أو المخططات يغرق أن في أعماق العذابات، كما استمر تحقق أحد الأمال أو المخططات يسموبها إلى عوالم الحبور المذهل. وكانت ماريلا على وشك اليأس من فلاحها في تشكيل تلك المنبوذة الصغيرة وفق فكرتها عن الطفلة النموذجية ذات الطباع الرزينة والسلوك العقلاني وفي نفس الوقت لم تكن تعتقد أنها ستحب أن أكثر مما تحبها لو أنها كانت تلك الطفلة النموذجية.

أوت أن إلى سريرها في تلك الليلة بتعاسة خرساء، لأن ماثيو قال إن هبوب الربح من ناحية الشمال الشرقي قد يتسبب في غد ماطر، أقلقها صوت حفيف أوراق شجر الحور حول المنزل، وتناهى إليها وكأنه وقع طقطقة حبات المطر. أما هدير الخليج الرتيب البعيد الذي كانت تنصت إليه بجذل في أوقات أخرى متيمة بإيقاعه الغريب الجهوري القلق، فقد بدا تلك الليلة وكأنه نذير عاصفة ونبوءة شؤم بالنسبة إلى بتول صغيرة أرادت الحصول على غد مشرق وهكذا، شعرت أن أن الصباح لن يطل أبدا.

لكن ما من شيء إلا وله نهاية بما في ذلك الليالي التي تسبق يوم الدعوة إلى تناول الشاي في منزل المدرس. ورغما عن توقعات ماثيو كان ذلك الصباح صاحيا، ومعه ارتقت معنويات أن إلى أعلى قممها.

(أوه يا ماريلا إن في داخلي اليوم شيئًا يجعلني أحب جميع الناس الذين أراهم) هتفت بينما كانت تغسل أطباق وجبة الإفطار. (أنت لا تعرفين عمق إحساسي بالسعادة اليوم أما كان من اللطيف لوظل هذا الإحساس مستمرا ؟ أظن يا ماريلا أنني إذا دعيت إلى تناول الشاي كل يوم، سيكون من السهل علي أن أغدو بننا مثالية، لكن هذه ليست مجرد دعوة، بل هي مناسبة رسمية أيضا، وهذا يجعلني قلقة جدا. ماذا لولم أحسن التصرف ؟ تعرفين أنه لم يسبق لي أبدا تناول الشاي في منزل مدرس، ولست واثقة من استيعابي لجميع آداب السلوك، رغم أني داومت على دراسة قواعد آداب السلوك الموجودة في كتاب دليل العائلة منذ أن جئت إلى هنا وأخشى أن أرتكب حماقة ما أو أنمى أداء عمل ينبغي لي أداؤه ترى أهو من غير اللائق أن تتناولي المزيد من أي صنف من أصناف المأكولات التي تحبينها كثيرا ؟)

(مشكلتك يا أن أنك تجعلين تفكيرك يتمحور حول نفسك كثيرا. ما ينبغي لك هنا هو التفكير بالسيدة آلن وما الذي يناسبها ويكون مستحسنا بالنسبة إليها) أجابتها ماريلا التي استطاعت لأول مرة في حياتها إسداء نصيحة صحيحة وجوهرية، وهذا ما أدركته أن في الحال.

(أنت محقة يا ماريلا، سأحاول ألا أجعل تفكيري ينصب على نفسي بعد الآن.)

كان من الواضح أن أن تمكنت من قضاء زيارتها بدون أي خرق لآداب السلوك. فقد عادت إلى البيت مع حلول الشفق تحت السماء العظيمة التي وشتها أذيال غيوم زعفرانية ووردية، وهي سعيدة، وشرعت تروي الماريلا تفاصيل زيارتها بسعادة، بينما اقتعدت العتبة الحجرية الحمراء عند باب المطبخ، وتوسد رأسها الصغير المتعب حضن ماريلا.

هبت ريح باردة فوق حقول المحاصيل من فوق حواف التلال الغربية التنوبية، وصفرت بين شجر الحور، بينما أطلت نجمة واحدة صافية على البستان، وطارت الحباحب فوق الدرب متغلغلة حينا بين السراخس وحينا خارجها وحينا آخر بين الأغصان المخشخشة. كانت أن ترقب هذا المشهد أثناء حديثها مع ماريلا، وشعرت أن الربح والنجوم والحباحب قد تشابكت فيما بينها بطريقة ماء . ما، مشكلة شيئًا ساحرًا يعجزه الوصف.

(لقد قضيت وقتا من أروع الأوقات يا ماريلا، وأشعر الآن أن حياتي لم تذهب هدرًا، ولسوف أبقى محتفظة بهذا الشعور وإن لم أدع مرة ثانية إلى تناول الشاي في منزل مدرس. لاقتني السيدة الن أمام الباب عندما وصلت، وكانت تبدو كملكة بفستانها الجميل من الموسلين الوردي الفاتح وكشاكشه الكثيرة وأكمامه التي تصل إلى المرافق. أعتقد يا ماريلا أني أرغب في الزواج من مدرس عندما أكبر. فالمدرس قد لا يهتم كثيرا بشعري الأحمر لأنه لن يكون منشغل البال بالأمور الدنيوية ولكني في هذه الحالة يجب أن أكون صالحة، وأنا لن أكون كذلك أبدا. ويبدو أن لا فائدة من تفكيري بهذا الأمر. إن بعض الناس، كما تعلمين هم ذوو فطرة طيبة في الأساس، وبعضهم الآخر ليسوا كذلك. أنا واحدة من أولئك الآخرين. وتعتقد السيدة ليند أني مشبعة بالخطيئة الأصلية، وأن لا أمل في محاولتي كي أكون صالحة. ومهما فعلت لن أتمكن من إحراز أي تقدم يذكر، كما تجري الأمور مع الناس ذوي الفطرة الطيبة. وأظن أن الأمر يشبه إلى حد ما مشكلتي مع الهندسة. ولكن ألا تعتقدين يا ماريلا أن المحاولة قد تثمر شيئا؟ السيدة الن هي واحدة من أولئك الأشخاص ذوي الفطرة الطيبة. وأنا أحيها كثيرا يا ماريلا، فهناك أشخاص مثل ماثيو والسيدة ألن يمكنك التعلق بهم تلقائيا بدون أي عناء وهناك آخرون مثل السيدة ليند. من الذين عليك بذل مجهود كبيركي تحبهم، فأنت تعرفين أنه لا يسعك إلا أن تحبهم، لأن معلوماتهم غنية ولأنهم أعضاء فعالون ونشطون في المدرسة شرط أن تذكري نفسك دوما بهذه الحقيقة وإلا فإنك تكونين عرضة للنسيان اجتمعت في منزل المدرس ببنت أخرى كانت مدعوة إلى تناول الشاي، وهي من المدرسة في بلدة وايت ساندس اسمها لوريتا برادلي، وهي لطيفة جدا. كان الشاي رائعًا، وأظنني راعيت آداب السلوك كما يجب. بعد تناول الشاي عزفت السيدة ألن وغنت وجعلتنا نغني أنا ولوريتا أيضا. وقالت إن صوتي جيد وعلي الغناء في جوقة المدرسة. لا يمكنك يا ماريلا تصوّر الحماس الذي انتابني من مجرد التفكير بهذا. لطالما تشوقت إلى الغناء في جوقة المدرسة كما تفعل ديانا، ولكني كنت أظنه شرقا لا يمكنني الطموح إلى نيله أبدا. اضطرت لوريتا إلى المغادرة في وقت مبكر لأن هناك حفلا موسيقيا في فندق وايت ساندس الليلة، وستشارك فيه شقيقتها قالت لورينا إن الأميركيين في الفندق يقيمون حفلا موسيقيا كل أسبوعين ويخصصون ربعه لمستشفى تشارلوت تاون، ويطلبون من أهالي وايت ساندس المشاركة فيه. وأخبرتنا لورينا أنها تتوقع أن يطلبوا منها المشاركة ذات يوم، واكتفيت يا ماريلا بالحملقة فيها مشدوهة. بعد أن غادرتنا، تحدثنا أنا والسيدة الن حديثا من القلب إلى القلب. أخبرتها كل شيء عن السيدة توماس وعن التوائم وعن كيتي موريس وفيوليتا، وعن مجيني إلى المرتفعات الخضراء ومشاكلي في الهندسة، وهل تصدقي أمرًا يا ماريلا ؟ أخبرتني السيدة الن أنها كانت هي أيضا بليدة في الهندسة، ولا يمكنك أن تتصوري كم شجعني ذلك جاءت السيدة ليند إلى منزل المدرس قبل أن أغادر بقليل، وماذا تظنين يا ماريلا ؟ لقد قام الأوصياء على المدرسة بتسليم مهمة التعليم فيها إلى إمرأة اسمها الأنسة موريل ستيمي. أليس هذا الاسم اسما شاعرنا ؟ قالت السيدة ليند إنه لم يسبق أن كان في أفونليا معلمة من قبل، وتعتبر هذا التجديد تجديدا خطيرًا. أما أنا فأظن أنه من الرائع الحصول على معلمة، ولا أعرف كيف سأتمكن من تمضية هذين الأسبوعين بانتظار أن تفتح المدرسة أبوابها، لأني اتحرق شوقا إلى رؤيتها.)