لخّصلي

وقد تأثر الإسلام بعوامل اجتماعية، مثل: المكان والموطن، والبنية الاجتماعية القبلية وما يتعلق بها، وتنجم عنها ظواهر التضامن والاعتصاب، وقد فرضت هذه العوامل في الإسلام في بيئته الاجتماعية، ومن الصعب تجاهل تأثيرها الكبير على توجيه حياة المسلمين وصراعاتهم، ولا يمكن إبراز هذا التأثير بالتحليل التاريخي والعلمي لتاريخ الاجتماع السياسي الإسلامي، على الرغم من أن دعوة الإسلام تجاوزت حدود الجغرافيا والبنى القبلية التقليدية، وسعت لدمج المجتمعات المتنوعة في هيكل اجتماعي واحد تحت راية التوحيد (سواء في الجانب الديني أو الاجتماعي)، إلا أن تاريخ الإسلام يكشف لنا عن التناقضات والصراعات الداخلية التي تعايشت مع تلك العوامل وصاغت فصولًا من تاريخه، وأنتجت ظواهر تبدو متناقضة مع رسالة النبي الأكرم.
ليس من قبيل الصدف إن الذي فجر التمذهب في تلك الفترة، كانت مسألة الإمامة وكذا موقف المسلمين منها، والتداعيات المرتبطة بها حول لمن أحقيتها وتحديد نصاب الشرعية والمشروعية وعلاقة الدين بمسألة الإمامة وغيرها، ولا شك أن هذا الجدل السياسي بدأ بلغة سياسية مباشرة قبل أن يتحول إلى جدل عقائدي أو في علم الكلام، يكشف لنا هذا الارتباط التكويني بين جدالية الإمامة والتمذهب في ذلك الوقت، عن العامل الأساسي أو التأسيسية لظاهرة التمذهب أو التشدد الديني الذي عاشه المسلمين جراء تأثير العامل السياسي، والتحديد نزاعهم على السلطة، وكذا فإن النزاع الذي أصاب منصب الخليفة، منذ الثورة على خلافة عثمان من أكابر الصحابة لاعترافهم بشرعية الخلافة لعليّ بن أبي طالب، وعلى مداد ذلك سطرت حروف المذهبية في الإسلام في تلك الحقبة لمنع علي بن أبي طالب عليه السلام.
لذا فإن نظام الخلافة الراشدة وخلال فترة ثلاثينيات القرن الهجري الأول وأربعينياته قد تراجع في قوته ومكانته، وشهد تصعيداً في النزاعات السياسية والصراعات الداخلية، وهذا الضعف والتدهور أثر في هيبة الحكم، وساهم في ظهور ظاهرة التمذهبية والتشدد في الإسلام، وإن استعادة الخلافة وتوحيد السلطة تحت حكم معاوية وتوقف الإمام الحسن بن علي عليه السلام عن المطالبة بالحكم كانت لحماية الوحدة الإسلامية، إلا أنها لم تنجح في وقف التفكك داخل جماعة المسلمين؛ بل استمر التمذهب والتجاذب المذهبي بقوة، مما أدى إلى حدوث صراعات وشقوق عميقة في صفوف المسلمين، مع نشوب صراعات شديدة على السلطة، وبالرغم من أن العوامل السياسية لم تكن المسؤولة الوحيدة عن ظاهرة التمذهب في الإسلام، فإنها كانت العامل الرئيسي والأكثر تأثيراً
أثناء حكم الدولة الأموية، وتأسيس نظامها الذي استند إلى العصبية العربية بشكل أساسي، واستبعاد الشيعة من آل البيت عليهم السلام كفئة معارضة محددة، حدثت حركات عسكرية ثائرة باسم إمام من أئمة أهل البيت، وتم دعوة الجمهور للثورة ضد النظام الظالم، هكذا، فإنه عندما انضمت جماعات من العالم التركي إلى الأمة الإسلامية، تدخلت في الأمور الداخلية بشكل كبير، حيث استغلت جانب الوهن لتنشئ سلطتها وهي (السلاجقة، ثم العثمانيون)، وقامت بالانتشار في الآفاق تحت اسم مذهب بعينه وهو (أهل السنّة والجماعة)، وهذا الانتشار رادفه انتشار آخر وهو (البويهيين، الفاطميين، والصفوي)، حيث جاءت تحت اسم المذهب الشيعي، واستمر هذا التمذهب في عالم السلطة إلى أن تصادم في حقبة الاجتياح الكولونيالي الفرنسية للبلاد العربية، وذلك في القرن التاسع عشر وحتى أن قامت (الدولة الوطنية) في حدود العشرينيات والخمسينيات من القرن العشرين الماضي، هذا وإن الواقع السياسة الكولونيالية الفرنسية في جبل لبنان، في حدود النصف الآخر من القرن التاسع عشر الميلادي، وإن الدخل الفرنسي جرّ إلى حدوث الداخلات بريطانية وروسية الخطيرة، حتى أشدت ضلمتها بعد اتفاقية (سايكس ـ بيكو) حيث جاءت لتقسيم المشرق، حيث قامت أسس الهندسة التقسيمية على القواعد الطائفية والمذهبية حتى بلغت ذروتها في سوريا، وبعد أن قامت (لبنان الكبير)، وكذا الأمر في فلسطين بعد حدوث «وعد بلفور» المشؤوم، وإن التطبيق الأشدّ قسوةً كان في لبنان حيث تكرّس في «ميثاق» العام 1943 اقتساماً للسلطة بين الطوائف، وسرعان ما أحدث إعادة التوزيع للحصص على أساس المذاهب داخل الطائفة الواحدة، من أجل أن تستمر تغذيتهم لحالة التمذهب في المجتمع الإسلامي إلى ما بعد استقلال تلك الدول لمصلحة الاستراتيجيات الغربية في (الشرق الأوسط)، حتى اصبح حصان رهان السياسة الكولونيالية في البلاد الإسلامية العربية (هو) الطوائف المسيحية، وذلك بحسب تحججهم بحماية وجود هذه الطوائف وحقوقها في قبال الطوائف ذات الأكثرية المسلمة في هذه البلدان، وعليه فقد كانت السياسة الغربية هي التي تتلاعب بمصير أمتنا الإسلامية، لتغذيها بشكل مكثف بآفة التمذهب بافقها العام وكل ذلك لأجل أن يخطأ المسيحيون العرب والمسلمون العرب عدوَّهم الأساسي المشترك (الصهيونية).