خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة
يروي الكاتب، من منفاه، شهادته عن معاناته خلال العشرية السوداء في الجزائر، مبرزًا صمت بعض رفاقه في المعتقل حتى بعد مغادرتهم الوطن. يكتب مدفوعًا بمديونية للحقيقة، كآخر الناجين من جحيم لا يجب أن يُنسى، من أجل العدالة وتاريخٍ لا يُزوّر. يشهد على وحشية النظام، مستخدماً القضاء لقمع المواطنين، مُؤكدًا أنه لا يندم على أفعاله، مُتوقعًا تغييرًا جذريًا قادمًا. يُسرد تفاصيل اختطافه وتعذيبه على يد رجال أمن ملثمين، ذكريات صديق طفولته المُقتَل كصفعة قاسية تذكّره بالظلم. يُنكر تخليه عن قناعاته، مُؤكدًا تمسكه بقيمه، مُستهجنًا قتل النظام ونهب ممتلكاتهم. يستذكر استجوابًا قاسيًا، حيث صرخ جلاده: "كل يوم يموت رجالنا مقابل راتب شهري، وأنتم تموتون من أجل قناعة تعتقدون أنها صحيحة!"، مُختتمًا بآية قرآنية عن عاقبة الظالمين. يذكر الكاتب شخصيات مثل عبد القادر دهبي وأحمد شريف، وغيرهم من المتورطين بشكل مباشر أو غير مباشر في تلك الأحداث، مُشيراً إلى رواية ضابط سكران اعترف بتربية وتدريب زملائه لحماية النظام، مُشدداً على أن هذه الأحداث ليست مرتبطة بفترة الاستعمار فقط، بل تُشبه عصور ما قبل التاريخ من ناحية الوحشية. يشير إلى أن جميع الأحزاب والشخصيات العامة لم تسلم من بطش النظام، مُختتماً بذكر الراحل رئيس حركة حماس وقصة تأسيس تشكيل سياسي يجمع تيارات الحركة الإسلامية. يُسلط الضوء على دور المؤسسة الأمنية، و"وزارة التصليح والعلاقات العامة"، في ارتكاب جرائم إبادة جماعية، مشيراً إلى اختطافه وسجنه في مراكز تعذيب مثل "عبلة"، "بربروس"، و"لامباز"، وكيف تحولت هذه الأسماء إلى رموز للرعب. يُروي تفاصيل اختطافه وتنقله بين السجون، مستذكراً مواجهته مع الجلادين، وذكريات طفولته مع اعتقال والده على يد الجنود الفرنسيين عام 1957، و مشاهدته لشباب في فيلا غامضة أصبحوا لاحقًا جلادين. ينهي الكاتب روايته بتأكيده على أنه نجا، ويكتب ليس انتقامًا بل ليُخبر الحقيقة.
رفض بعض رفاقي في المعتقل أن يخرجوا إلى العلن، تمسكوا بالصمت، وظلوا يخشون المواجهة حتى بعد الخروج، وحتى بعد أن غادروا الوطن.
اليوم، أكتب من منفاي، وقد شختُ تحت سماء ديمقراطية قديمة، آوت المئات من العائلات الجزائرية.
لكن رغم الأمان هنا، فإن ذاكرتي لم تُغادر هناك، في الزنازين، وفي الليل البارد، وفي صرخات الأمهات.
أكتب، لأنّي مدين للحقيقة. لأنّي آخر الناجين. لأنّ هذا الجحيم لا يجب أن يُنسى.
وأنا على يقين أن تلك "الوصمة"، تلك الإهانة الجماعية، ما زالت تسكننا نحن الذين خرجنا، وحتى الذين ما زالوا في غياهب الزنازين.
أنشر هذه الشهادة من أجلهم، من أجل العدالة، ومن أجل تاريخٍ لا يجب أن يُزوّر.
إنها حرب لا تقلّ وحشية عن محارق التاريخ، لكن آلتها كانت أكثر صمتًا، وأكثر دهاءً، وأشدّ بطشًا.
بكل صدق، لم أندم على قطرة دم واحدة سالت من جسدي، ولا على أي خطوة أقدمت عليها. لو عاد الزمن بي إلى الوراء، سأفعل نفس الشيء دون تردد. لأنني مقتنع بأن التغيير الجذري والحقيقي قادم، رغم كل ما يفعله هؤلاء الأوغاد الذين يحكمون الجزائر بقبضة من حديد، مستخدمين القضاء كأداة لقمع المواطن البسيط.
ما زلت أؤمن بأنه من الضروري حماية حقوقي، بما في ذلك الدفاع عن نفسي من أي محاولة اختطاف أو هجوم. لكنني كنت أتساءل: كيف كان يجب أن أتصرف في تلك اللحظة التي وجدت نفسي فيها محاطًا بمجموعة من الرجال المسلحين، يرتدون الأسود من الرأس إلى القدمين، ويعرفون كل تحركاتي؟
تذكرت صديق طفولتي، الذي وجدته ملقى في زقاق قريب من بيتنا، جسده مثقوب بالرصاص على يد نفس هؤلاء الرجال. هذا المشهد كان بمثابة صفعة قاسية على وجهي، تذكرتني بأنني أعيش في عالم من الظلم والتربة الغاشمة.
لم أكن أبحث عن تبرئة من إخوتي الذين تخلوا عني، أو من أولئك الذين انضموا إلى عصابات العسكر بدافع الغريزة القبلية. كنت أقول لهم بكل وضوح: أنا لم أتخلَ عن قناعاتي أبدًا. أنا من قبيلة متمردة، تعاهد أفرادها على الموت دفاعًا عن الحق، عن العرض، عن الشرف، عن المال. هذا هو إرثي، وهذا ما لا يمكن محوه أو تبديله.
رغم أن أحكام الشريعة الإسلامية لم تُطبق، وحل محلها قوانين وضعية، إلا أن هذا لا يعطي الحق لمجموعة من الأوغاد أن يقتلونا، يسرقوا أملاكنا، ويستولوا على بناتنا .ونساءنا. نحن خلق الرحمن، وفي يوم من الأيام، سيأتي وقت الحساب، وسيكون الأخيار في أعلى المراتب، خالدين فيها.
في أحد استجواباتي، صرخ في وجهي أحد جلادي، وهو يرتدي زيًا عسكريًا ويحمل سلاحًا: "كل يوم يموت رجالنا مقابل راتب شهري، وأنتم تموتون من أجل قناعة تعتقدون أنها صحيحة!"
كنت أعرف أنه يقول الحقيقة، لكن هذه الحقيقة كانت مريرة. فوق تلك الطاولة التي قُتل عليها المئات من الجزائريين، شعرت بلحظة من الخلاص والراحة، شعور لا يمكن وصفه إلا بقول الله تعالى في سورة النمل: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ".
في تلك اللحظة، أدركت أن النهاية ليست مجرد موت، بل هي بداية لحساب عسير ينتظر الظالمين. وأنا، رغم كل شيء، ما زلت أقف هنا، أحمل قناعتي، وأؤمن بأن العدالة ستأتي، ولو بعد حين.
"تستهدف هذه الشهادات بشكل خاص شخصيات مثل عبد القادر دهبي وأحمد شريف، وغيرهم من العناصر النشطة أو الخاملة، سواءً من شاركوا بشكل مباشر أو غير مباشر في تلك الأحداث. لا نكتب هنا عن السجناء السابقين من أصحاب البصمات الزرقاء، بل نوجه حديثنا إلى تلك الفئة من الجزائريين الذين يريدون بصدق سماع قصة رجل عانى وقاسى أنواعاً لا تحصى من المعاناة والوحشية الجسدية والنفسية، بما في ذلك الاعتداءات الجنسية على أيدي آلاف الجلادين الذين أنجبتهم بلادنا الجزائر بسوء حظ.
في الختام، أدعو أحد هؤلاء الضباط البائسين من عملاء النظام الذين ظهروا عام 1992 للرد، ذلك الضابط الذي جاء وهو سكران ليعترف بحزن وأسى بحقيقة كانت أكثر إيلاماً مما كنا نتخيل. لقد اعترف بأن زملاءه الذين يعملون معه قد ربّوهم ودرّبوهم، والهدف الوحيد كان حماية النظام الذي نشأوا فيه. بصراحة، لم أستطع تصديق ما سمعته من كلماته التي كانت تؤكد الحقائق المروعة عن تلك الشياطين العارية التي خصصت فيلات لهؤلاء الشباب مجهولي النسب أو عديمي العائلات، والذين سنتحدث عنهم بتفصيل في فصل آخر من هذا الكتاب.
هذه الرواية لن تتناول كل ملامح العشرية السوداء والرحلة الجهنمية الشاملة للجزائر في تسعينيات القرن الماضي. البعض يظن أن هذه الأحداث مرتبطة بفترة الاستعمار، ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً. فالمشاهد البشعة والمروعة التي لا يمكن تحملها تنقلنا بعيداً عبر الزمن إلى عصور ما قبل التاريخ.
في الحقيقة، لا يمكن تصور حجم العار والوحشية بأشكالها التي لا تعد ولا تحصى في مراكز التعذيب العسكرية بالجزائر. جميع الأحزاب السياسية والشخصيات العامة لم تسلم من هذا البلاء، بما في ذلك قادة حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وحركة مجتمع السلم، وحركة النهضة، والعديد من السياسيين الآخرين الذين وقعوا في شباك المؤسسة العسكرية. بعضهم سحقهم النظام الذي ساهموا في بنائه.
وهنا تأتي خصوصية الراحل رئيس حركة حماس الذي كان الأول على قائمة المرشحين لقيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ. بعد ساعتين فقط من طرح فكرة إنشاء تشكيل سياسي يجمع كل تيارات الحركة الإسلامية، كان لي شرف حضور اليوم الذي ولدت فيه هذه الفكرة، والتي سأرويها مع مجموعة من الحقائق والأحداث التي عشتها شخصياً."
لطالما سحرنا ذاك الكيان الغامض الذي يُعرف بـ"الأمن العسكري" أو "المخابرات". كنا، كأبناء أمةٍ سيادية، نُضفي عليه هالة من القداسة والهيبة. كان ذكره وحده يثير فينا رهبة ممزوجة بالإعجاب، ويُشعل خيالنا بأساطير عن قدراته الخارقة، عن عيونه التي لا تنام وآذانه التي تسمع الهمس من وراء الجدران.
غير أن ما خفيَ من تلك الأساطير، كان أفظع مما تخيّله خيالنا الجماعي.
ما سأرويه ليس أدبًا متخيّلًا، ولا سردًا مشحونًا بالمبالغة.
إنه خلاصة أحداثٍ وقعت في سنة 1992، لحظةً لحظة، على يد رجال جهازٍ أُوكلت إليه مهمة واحدة: أن يُحوّل الجزائر إلى جحيم يسكنه أهلها.
وقد اتخذتُ قراري أخيرًا بأن أكتب، أن أضع بين أيديكم بعض الصفحات المروّعة عن "قدرات" هذا الجهاز، لا من باب الإثارة، بل من باب الشهادة.
إن المؤسسة الأمنية الجزائرية، بما فيها المخابرات وما كانت تُعرف بـ"وزارة التصليح والعلاقات العامة"، قد لعبت أدوارًا غامضة منذ أيام الثورة، إذ جُنّدت لخوض معارك من نوع خاص. لم تكن مهمتها مواجهة الاستعمار وحده، بل امتدت لاحقًا إلى تصفية قيادات وطنية، وعندما ورثها الجيل الجديد في بن عكنون، حصل على حصانة مطلقة، وانفلت من كل مساءلة.
لقد ارتكب هؤلاء جرائم إبادة جماعية، اجتثوا قرى بأكملها من الخريطة، لم يفرّقوا بين رجلٍ وامرأة أو بين شيخٍ ورضيع.
وكان من السهل عليهم ذلك... فقد عُيّن أغلب عناصرهم من بيئات تعج بالقسوة، ونُسجوا في محيطٍ جعل من العنف بديهةً، ومن الإذلال عادة. بدل أن يوظفوا ذكاءهم في خدمة الوطن، استبدلوه بسياسة الترهيب والترغيب، فمارسوا كل أنواع الرقابة والقمع بأبشع الصور.
وُلدتُ في قرية نائية على حواف منطقة القبائل البحرية، قرية تعلو قمم الجبال وتنظر بعين الكبرياء نحو البحر والمهاوي. كانت الطريق إليها ملتوية، صعبة، لكنها تليق بمكان نشأت فيه أرواح لا تعرف الانكسار. رجالها ونساؤها ساهموا جميعًا في الثورة التحريرية، وكانوا يحلمون بجزائر حرة كريمة.
لكنّ الحلم تبدّد صبيحة الحادي عشر من يناير سنة 1992، حين أُلغيت الانتخابات التشريعية الحرة في صفعةٍ ضد الإرادة الشعبية.
في ذلك اليوم، ارتدى الجيش الجزائري بذلة الخيانة، وكانت تلك هي البداية لسقوطٍ أخلاقيٍّ طويل، لن تُمحى وصمته من الذاكرة.
نشأتُ في أسرة بسيطة، خبزنا مغمّسٌ بالدموع، لكننا نحمل عناد الجبال.
كنت دائمًا ضد العنف، رافضًا للظلم، ولذلك اعتبرتُ أن قول الحقيقة هو ربحي الوحيد، حتى لو دفعتُ ثمنه غاليًا.
وهذا النص، الذي أبذل فيه جهدًا مضنيًا، ليس إلا محاولة لصياغة شهادة صادقة، بلغة محترمة، تحكي عن أفعال مُنحطّة جرت تحت أنظار القيادة العسكرية، إن لم تكن بأمرٍ منها.
لن أنسى ما رأيته بأمّ عيني...
عبّاس غزيل، أحدهم، وهو يركل جسدًا عاريًا، غائبًا عن الوعي، ألقي تحت قدميه كتحذير لبقية المعتقلين.
شابٌ جزائري، وقف لساعاتٍ طويلة، عارٍ في برد الشتاء القارس، حتى بدأوا في ضربه بعنف على رأسه وصدره، إلى أن فارق الحياة.
لم يكن سوى واحد من آلاف الضحايا الذين غُيبوا بين جدران المراكز السوداء.
لقد تراجعت في وقت سابق عن كتابة هذا العمل، إذ امتلأتُ بغضبٍ لا يحتمل، وخشيت أن أكتبه بلغة انتقامية لا تليق بالحقيقة. لكني اليوم أكتب بنَفَسٍ هادئ، صادق، ومُخلص، حتى لو تعارض ذلك مع رغبة بعض العائلات أو الأصدقاء الذين عاشوا المحنة ورفضوا أن تُذكر أسماؤهم.
وأنا أتفهم دوافعهم، فالصمت أحيانًا يكون درعًا ضد ألم لا يُحتمل.
لكنّي، بصفتي شاهدًا على كل ما جرى، أعتبر من واجبي أن أُبلغكم، كقرّاء ومُستمعين، أن هناك آلة تعذيب ممنهجة، ووقائع دامغة داخل هياكل المخابرات الجزائرية، ليست من صنع الخيال، بل حقائق مؤلمة سأرويها بتفاصيلها كما عشتها، دون تحريف أو استغلال أو تزييف.
سأذكر الأماكن، وأقرّب التواريخ ما أمكن، وسأخفي هويات بعض الضحايا احترامًا لخصوصيتهم، لكني لن أُخفي شيئًا من الحقيقة.
تجربتي الشخصية مع الاختطاف والاحتجاز تبدأ من "مركز عبلة" — الاسم الذي تحوّل مع الزمن إلى رمز للرعب في الذاكرة الجماعية الجزائرية، كما في ذاكرتي. بعدها تنقلتُ بين أقبية الظلمة: من سجن "بربروس" إلى "لامباز"، ثم إلى إقامة جبرية أطلقوا عليها اسم "سجلّ الخوف". كانت درجات الحرارة فيها تنزل تحت الصفر، وكان الحراس — رجال الأمن والمخبرين — يتجولون كالذئاب، بينما ابنتي الصغيرة، عبدو، تجوب الزنازين بحثًا عني في كل موعد زيارة... عبثًا.
لم يكن اختفائي سوى بداية سلسلة انتقالات قصيرة، لكنها دامية، من زنزانة إلى أخرى، ومن مواجهة إلى مواجهة، كنت أقبل بها طوعًا حفاظًا على حياة من تبقى من معارفي وأحبتي.
ثلاث فروع ورثتها المؤسسة الأمنية عن وزارة "التصليح والعلاقات العامة":
ما زالت التواريخ مطبوعة في ذاكرتي كوشم لا يُمحى... لكنها مشوّشة بفعل الحزن، والوجع، ومرور السنين. لذلك، لن أتحدث عن كل شيء، بل فقط عن المحطات التي أراها ضرورية ليعرفها الرأي العام.
كانت أولى مشاهد الرعب بالنسبة لي وأنا طفل لا يتجاوز الثالثة.
كان ذلك في نوفمبر من عام 1957. كنا نقطن حي "لو بروفال"، قرب الفاصلة الإدارية الفرنسية، حين جاءت ليلة العتمة.
في التاسعة مساءً، جزائري ملثم جرّ معه كتيبة من الجنود الفرنسيين إلى دارنا، حيث اقتحموا البيت، جرّدوا والدي من ملابسه، وألقوه عاريًا تحت مطرٍ شتويٍّ غزير، ثم شرعوا في حفر الأرض بحثًا عن أسلحة مزعومة. لم يجدوا شيئًا، فانهالوا عليه بالضرب وهو ممدّد على الأرض، بينما كنت أبكي وأصرخ وأرتجف.
لم يُحرّك بكائي فيهم شيئًا، سوى ضابط شاب، أمر جنوده باصطحاب والدي، ثم أخذني من حضن أمي، وأعطاني ثلاث قطع شوكولا، كأنها تعويذة لسحر طفلي، وابتلاع الكارثة.
بعد أسبوع، سُمح لنا بزيارة والدي في مركز اعتقال بدراية، في العاصمة.
ثم، بين عامي 1970 و1971، وجدتني واقفًا أمام "الفيلا الغامضة"، حيث كانت سيارات فخمة تروح وتجيء. كنت أراقب وجوهًا شابة، لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين، ملامحهم جامدة، عيونهم غائرة، ولا أثر فيها للابتسام.
لم أكن أعلم أن أولئك، في الغد، سيكونون هم الجلادين... هم صنّاع التعذيب ومهندسو الرعب، وسيُسلّطون على المعارضة وأقاربها ومحيطها.
رأيت بعيني وجوهًا أعرفها: فرحات عباس، محمد السعيد، الإخوة رحّال (علي وسعيد)... الفيلا التي مرّوا بها شهدت على الإهانة، وعلى السقوط البشري لآلة الدولة الأمنية.
وقد تبيّن لاحقًا أن أولئك، الذين تخرّجوا من عرين الشياطين، هم من شكلوا نواة الشرطة السياسية لاحقًا، وأسسوا أجهزة المخابرات الجديدة.
وفي سنة 1992، بعد انقلاب الجيش، اجتمعوا، واتفقوا على تصفية الإسلاميين دون رحمة.
انطلقت آلة الإبادة، فيما أُلصق بالضحية لقب "إرهابي".
اليوم، وبعد عقود، خرج الشعب في حراك سلمي يندد بكل ذلك، ويطالب بالحقيقة، والعدالة، والحرية.
لكن نفس الأيادي القذرة، أُطلقت من جديد في وجه الشباب المتظاهر. نفس طرق الاغتيال والتصفية عادت للظهور، كما لو أن الزمان لا يتحرك.
وما زال أبناء "عرين الشياطين"، يتربعون على مفاصل الجيش، وعلى رأسهم قائد الأركان، كرموز للوحشية العسكرية الراسخة في الذاكرة الجماعية الجزائرية.
أنا واحد من القلائل الذين نجوا، وخرجوا أحياء من بين أنيابهم.
أكتب لا من باب الانتقام، بل لأكون أوّل من يقول: لقد كنّا هناك... وهذه هي الحقيقة.
لم يكن صباح ذلك اليوم مختلفًا عن غيره، سوى في هدوئه المريب. كانت الشمس تلوح من خلف ستائر الغرفة، لكنني لم أشعر بدفئها. كانت الحاسة السادسة تهمس لي بأن شيئًا مريعًا يقترب، شيئًا لن أقدر على صده، ولن أستطيع تجاهله.
في تمام الساعة السادسة والنصف صباحًا، دوّى طرقٌ عنيف على الباب. لم أكن بحاجة إلى النظر من العين السحرية. كنت أعلم من جاء.
فتحوا الباب كما لو كانوا يقتلعونه من جذوره. رجال بملامح جامدة، لا أثر فيها للرحمة، ولا حتى الفضول. وجوه مألوفة من كوابيس الأمس... رجال مديرية الاستعلامات والأمن، الذراع الحديدية للدولة، أصحاب السلطة التي لا تقف أمامها حصانة، ولا يشفع ضدها قانون.
لم يمنحوني وقتًا لارتداء حذائي. سحبوني من بين أهلي، وأعينهم تفيض رعبًا لا حول لهم به ولا قوة. كانت نظرات ابنتي الصغيرة، وهي تحتضن دميتها وتصرخ باسمي، هي آخر ما رأيته قبل أن يطبق السواد على عيني.
عُصبت عيناي بقطعة قماش خشنة، ويداي مقيدتان بأسلاك بلاستيكية تقطع في الجلد ببطء، كما لو أن الألم مقصود بذاته. لم ينطق أحد بكلمة، كانوا يعرفون أن الصمت أبلغ، وأكثر ترويعًا من ألف تهديد.
اقتادوني إلى حيث لا أعرف، ولا هم سمحوا لي أن أعرف. كل شيء كان محسوبًا... سرعة السيارة، تعرجات الطريق، رائحة العفن التي بدأت تزحف إلى أنفي، تشير إلى مكان لا يليق بالبشر.
وصلنا بعد ما بدا وكأنه ساعات. سُحبتُ من السيارة كما يُسحب كيس نفايات. دخلنا مبنى، كانت أرضيته رطبة وجدرانه تتنفس رطوبة قديمة، كما لو أنها شهدت عشرات الصرخات قبل أن تصلني.
أزيل الغطاء عن عيني لأجد نفسي في زنزانة لا تتجاوز المترين، بلا نوافذ، بلا ضوء، فقط مصباح واحد يتدلى من السقف، يضيء ويخفت كما لو أنه يتنفس معي.
ذلك المكان... كان مركز "عبلة"، الاسم الذي يخفي وراءه واحدة من أفظع منشآت القمع في تاريخ الجزائر المعاصر. كانت عبلة لا تشبه مركزًا أمنيًا، بل كانت جرحًا نازفًا، يغرق فيه كل من يُلقى بداخله.
بدأت رحلة الاستجواب في اليوم الأول. لم يكنوا يبحثون عن إجابات، بل عن اعترافات. أي اعتراف، حتى لو اخترعوه لك. فكلما أنكرت، زادوا في وسائلهم... صعق، تعليق، ضرب حتى الإغماء، وساعات لا تُحصى من الوقوف الإجباري تحت برد يقص العظم.
كنت وحدي، محاطًا بالأسلاك، الصراخ، الصمت الثقيل، ووجوه الجلادين الذين لم تتغير ملامحهم قط. وكأنهم آلات وُجدت للتعذيب فقط.
مرّت الأيام، لا أعرف عددها بدقة. كل شيء كان مائعًا، الزمان، المكان، الوعي نفسه. ثم في إحدى الليالي، أدخلوني إلى قاعة مواجهة. قالوا إنهم وجدوا من "يعرفني". وكنت أعلم، أن تلك المواجهات، غالبًا ما تكون تصفية حسابات، أو محاولات لزرع الوهم في النفس المنهكة.
لكنني... صمدت.
بعد أسابيع من الحبس الانفرادي، نُقلت إلى سجن "بربروس"، ثم إلى "لامباز"، والرحلة بينهما لم تكن أقل رعبًا من الإقامة فيهما. كانوا ينتقلون بي كما لو أنني طرد مشؤوم، لا أحد يريد الاحتفاظ به طويلاً، لكن لا أحد يجرؤ على تركه يذهب.
في بربروس، تعلمت كيف يمكن للماء أن يُصبح أداة تعذيب. وفي لامباز، أدركت أن الصمت حين يُفرض بالقوة، يكون أبلغ من كل الصراخ.
أما "الإقامة" كما يسمونها، فهي كانت مرادفًا لأسوأ أنواع الإذلال... غرف شبيهة بالقبور، برد لا يُطاق، وحراس لا يعرفون غير الصراخ والركل.
كانوا يتعاملون معنا كأننا وباء يجب عزله، كأننا خونة الوطن، بينما الحقيقة أن الخيانة كانت في نظراتهم، في سكاكينهم التي تنهش أجسادنا، في ولائهم الأعمى للجلاد.
ووسط هذا الجحيم، كان هناك دائمًا سؤال يتردد في رأسي: "لماذا؟ لماذا كل هذا؟ ومن أجل من؟"
أنا واحد من القلائل الذين نجوا، وخرجوا أحياء من بين أنيابهم.
أكتب لا من باب الانتقام، بل لأكون أوّل من يقول: لقد كنّا هناك... وهذه هي الحقيقة.
في ظلمة تلك الزنازين، لا شيء يبقى لك إلا الصوت… أنين خافت، شهقة مقموعة، أو صرخة فجائية تشق جدار الصمت كسكين في لحم ميت. كان الليل في مركز عبلة لا يُقاس بالساعات، بل بالوجوه التي تظهر وتختفي، بأسماء تمر كطيف، وبصدى حكايات لا يجرؤ أحد على إتمامها.
هناك، كنت ألتقي كل يوم بوجه جديد… وجه بلا ملامح تقريبًا، محفور عليه الرعب، العجز، وأحيانًا، ومضات كرامة تُقاوم الغرق.
أذكر جيدًا أول من تكلمت معه عبر فتحة التهوية الضيقة في زنزانتي. كان صوته ضعيفًا، مترددًا، لكن كلماته كانت تحمل دفء الوطن كله. قال لي: "اسمّي رابح… ماشي مهم منين، غير قول لي، واش باقي تعيش؟"
بقيت لحظة أصغي… سؤاله كان بسيطًا، لكنه في جوف ذلك الرعب كان أعظم من أي خطاب: "هل أريد أن أعيش؟" نعم، رغم كل شيء، نعم.
كان رابح أستاذًا جامعيًا، اختطفوه بسبب منشور كتبه ضد تعليق المسار الانتخابي. ذنبه الوحيد أنه ظن أن للكلمة قوة تفوق الرصاصة. "كانوا يضربوني وهم يضحكون…"، قالها لي ذات مرة، ثم سكت طويلاً، طويلاً، حتى ظننت أن روحه رحلت.
وفي ليلة أخرى، سُمعت صرخة... ليست عادية، بل كانت من النوع الذي لا يُمكن نسيانه. صرخة رجل ينفجر فيه شيء ما. بعد ساعات، همس لي السجّان وهو يضحك: "ذاك كان سعيد… رفض يقول وين خبا الوثائق، غنّينا عليه النشيد الوطني بالكيبل حتى سكت للأبد."
سعيد… كان يبيع كتبًا في سوق الحراش. لا أكثر.
تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص
يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية
يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة
نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها
اﻟﻨﺎﻓﻊ اﻟﻌﻠﻢ ﻋَﻼﻣَﺎتِ ﻣﻦ -٤٤ وھﻰ: اﻟﻨﱠﺎﻓِﻊِ، اﻟْﻌ ِ ﻠْﻢ ِ ﻋَﻼَﻣَﺎتِ ﻣﻦ ﺣ َ ﻈﱠﻚ ِ ﻋﻦ ﻧَﻔْﺴ ِ ﻚ َ ﻣَﻊَ...
In Kuwait, the numbers are growing at an alarming rate.Studies, such as the one by Al Hasan et al. (...
تيث يعتبره البعد الحائز على شهاده علميه في حين يعتبره البعض الاخر المبدع في مجال معين الا انه لا يمع...
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة الأصنام سرا ،حذرامن قريش المتعصبة ل...
تعريف التحليل الاقتصاديللمؤسسة :يتركودز التحليل الاقتصادي حول مشكلة عامة هي كيف يتم توزيع الموارد ال...
من البديهي أن يُركّز كل بلد على القطاع التربوي إذا كان والعلمي كأساس لنهضته، فإن لبنان الذي لا يتمتع...
البيئة المستدامة هي بيئة نحافظ فيها على الموارد الطبيعية ونستخدمها بشكل معتدل بحيث تلبي احتياجاتنا ا...
تقيد المدرسة حرية الطلاب من خلال عدة طرق، بما في ذلك القواعد والسلوكيات التي تحدد سلوك الطلاب في الم...
4 مقتل العباس بن مؤمون بمنبج : كان العباس بن المأمون مع عمه المعتصم في غزوة عمّورية. وكان هناك رجل ...
There it stood patiently, gobbling the animals, one by one, the dark unsolved mystery... upheld for ...
إن لمسؤولیة السلطة العامة دون خطأ، المبنیة على الإخلال بالمساواة أمام الأعباء العامة، علامات فارقة ...
عيدَ بِنكْهَةِ مُخْتَلِقَةٍ اسْتَيْقَظْنا عَلى صَوْتِ أُمّي الَّتي تَبْدو الْيَومَ مَسْرورَةً أَكْث...