لخّصلي

لم يترك قيام إسرائيل على أنقاض فلسطين اقتصادًا فلسطينيًا، بل نفى كافة مستويات الحياة الفلسطينية، مُجزّئًا اقتصاد كل تجمع بشري فلسطيني ورابطًا إياه بالسلطة التي خضع لها. فدمِجَ فلسطينيّو 1948 قسريًا بالاقتصاد الإسرائيلي، وانضم اقتصاد الضفة الغربية للأردني، وارتبط قطاع غزة بمصر. أما الفلسطينيون في الشتات، فلم يتمكنوا من تشكيل كيان سياسي مُنظّم، رغم تشكيلهم جاليات في دول المُضيفَة. إعلان دولة إسرائيل عام 1948 لم يُغيّر من حقيقة وجود بنيتها الاقتصادية، العسكرية، والعلمية المُتقدمة قبل ذلك، على عكس المجتمع الفلسطيني الذي مُنع من تكوين كيان خاص به. أدّى قيام إسرائيل إلى تفكيك جغرافي، سكاني، واجتماعي لفلسطين، حيث تجزأت جغرافيًا إلى الضفة الغربية (مرتبطة بالأردن)، قطاع غزة (مرتبط بمصر)، وفلسطينيي 48 (ضمن إسرائيل)، مُسبباً تفككًا سكانيًا واجتماعيًا، ومنعًا لوحدة النضال السياسي الوطني الفلسطيني. كما أدّى إلى تفكيك اقتصادي وإنتاجي، حيثُ لم يعد هناك سوق وطني فلسطيني، بل أجزاء مُلحقة باقتصادات أخرى. دعمت دول إقامة إسرائيل هجرة القوى العاملة الفلسطينية الشابة، مُعيقة الاستثمار في فلسطين لغياب الأمن والاستقرار والسيادة، رغم وجود أموال فلسطينية كبيرة في الخارج وفي البنوك الفلسطينية قبل 1948 لم تُستثمر لاحقًا لعدم وجود كيان فلسطيني. هذا بالإضافة إلى صعوبة تقدير حجم السيولة المالية غير البنكية، مُؤكداً تدمير بنية المجتمع الفلسطيني بالكامل.

قد لا يتطابق عنوان هذا الباب مع مقتضى الحال. فقيام إسرائيل على أنقاض
فلسطين لم يترك وراءه ما يمكننا تسميته اقتصاداً فلسطينيا،ً بل إن قيام إسرائيل كان
نفياً لكافة مستويات الحياة الفلسطينية بما فيها الاقتصاد، حيث تجزأ وأتبع اقتصاد كل
جزء وكل تجمع بشري فلسطيني للسلطة التي خضع لها هذا التجمع جغرافياً وسيادياً .
تم الدمج القسري للفلسطينيين المتبقين في الأراضي المحتلة عام 1948 بالاقتصاد
الإسرائيلي، وانضم اقتصاد الضفة الغربية للاقتصاد الأردني، وأصبح قطاع غزة
تحت الحكم المصري ومرتبطاً باقتصاد مصر.
أما فلسطينيو الشتات أي الذين تناثروا في كافة أرجاء الأرض، فلم يتمكنوا
من تشكيل مجموعات ذات وضع خاص بالمعنى السياسي التنظيمي، هذا، وإن شكلوا
جاليات في البلدان المضيفة ولا سيما لبنان وسوريا والعراق وغيرها من الأقطار
العربية، ناهيك عن مختلف بلدان العالم.
ولطرح الصورة بمكوناتها الرئيسية، تجدر الإشارة إلى أن إعلان دولة
إسرائيل رسميا عام 1948 لم يكن يعني أنها لم تكن موجودة بالفعل قبل ذلك، بل إن
البنية الاقتصادية الرأسمالية، والبنية العسكرية المدربة والمسلحة جدا،ً حتى أن عددها
كان أكبر من عدد الجيوش العربية التي خاضت حرب 1948 لأجل فلسطين. والبنية
العلمية التي أقيمت لصالح المستوطنين اليهود، كانت هذه جميعاً بنية دولة حقيقية،
كما رأينا في بعض ما ورد في الجزء الأول من هذه الوحدة، في حين أن الوجود
الفعلي للمجتمع الفلسطيني قد أُعيق عن أن يتحول إلى دولة حقيقية، وذلك لأن أياً من
هذه التجمعات الفلسطينية بعد عام ،1948 لم يسمح له بتشكيل كيان فلسطيني خاص
به

1 التفكيك الجغرافي
أدت إقامة إسرائيل على أنقاض فلسطين إلى تفكيك التكوين الجغرافي
لفلسطين، حيث تجزّأت إلى ثلاثة أجزاء )الضّفة الغربية المرتبطة بالأردن، وقطاع
غزة المرتبط بمصر، وفلسطينيي 1948 الذين أدمجوا بالدولة الاستيطانية الجديدة(.
2 التفكيك السكاني
وعلى أساس التفكيك الجغرافي، حصل بالطبع التفكيك السكاني حيث أصبح
كل جزء من الشعب الفلسطيني يعيش على قطعة من فلسطين، تابعاً للسلطة السيادية
على الأرض، هذا ناهيك عن الذين تشردوا في أماكن عديدة من العالم على شكل
مجموعات صغيرة، وبعيداً عن الأرض الفلسطينية. ولا شك أن التفكيك السكاني
يعني بشكل رئيسي تفكيك المبنى الاجتماعي حيث تجزات كل طبقة أو مجموعة
اجتماعية فلسطينية طبقاً للتجزؤ الجغرافي، وهو الأمر الذي كان الهدف منه تفكيك
النضال السياسي الوطني الفلسطيني مما يحول دون العمل من أجل هدف سياسي
موحد للشعب، وكذلك لتحويل القضية السياسية الوطنية إلى قضية لاجئين، تجري
إغاثتهم لتحصيل قوت يومهم. لذلك بالطبع، لم تعد هناك جنسية فلسطينية بالمعنى
الرسمي، اللهم سوى لسكان قطاع غزة. ولكن هذا لم يغير في ذاكرة الشعب
الفلسطيني الذي حمل هويته كذاكرة لم تنته بتقادم الأيام.
3 التفكيك الاقتصادي
ولكي ينجح التفكيك الجغرافي والسياسي والاجتماعي، ترتب عليه التفكيك
الاقتصادي وتحديداً الإنتاجي فقد كان جزء من تجزئة البقعة الجغرافية تجزئة للبنية
الأساسية، ولقطاعات الإنتاج الزراعة والصناعة والتجارة وعمليا،ً لم يعد هناك ما
يمكن تسميته السوق الوطني الفلسطيني(، وإذا الاقتصاد الفلسطيني مجزا وكل قسم
منه ملحق باقتصاد آخر.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدولة العصرية، كما يقول علم السياسة، لا تتحقق
وتتقدم إذا لم يكن لها سوقها الوطني، وهو السوق الذي تعمل الطبقة الراسمالية من
البلد على التحكم به كي لا تنازعها أية دولة أخرى.
4 تشجيع الهجرات
قامت الدول التي دعمت إقامة إسرائيل على أنقاض فلسطين، قامت عملياً
بتشجيع هجرة قوة العمل الفلسطينية الشابة والذكورية بالطبع كي تهاجر بعيداً عن
فلسطين نفسها. ومعروف بالطبع، أن تهجير قوة العمل الشابة، هو ضربة للاقتصاد
حتى لو لم يُعانِ من تمزق جغرافي. أما التهجير فكان الهدف منه أن يجد المهجرون
أماكن عمل "جيدة وحياة مريحة، وبالتالي يتنازلون عن حقهم في العودة إلى وطنهم.
لذلك لا غرابة أن كان هدف الدول الغربية هو توطين اللاجئين الفلسطينيين بعيدا عن
حدود فلسطين، أي في الجزيرة الفراتية.

5 قطع فرص الاستثمار
.
كما لاحظنا في الاقسام السابقة، فإن مقادير كبيرة نسبياً من الأموال كان قد
رصدها فلسطينيون في الخارج، أو حملوها معهم أثناء التشرد ولكن هذه الأموال لم
تجد المناخ الاقتصادي المناسب لجذبها ثانية لتعود وتستثمر في الضفة الغربية أو
قطاع غزة. فقد كان التشريد قوة طرد للتمويل كذلك. وهذا يصب بالطبع في خانة
تثبيت تشتيت الشعب الفلسطيني. فعدم وجود سلطة وسيادة واستقلال تؤكد أن المنطقة
غير آمنة، وهذا يدفع برأس المال إلى الخارج. ووصلت الودائع العربية في بنكي

باركليس والبنك العثماني إلى قرابة 3 ملايين جنيه فلسطيني مع منتصف عام
،1948 وكان هناك 300 ألف جنيه فلسطيني أخرى في البنوك الإسرائيلية... ومن
مجموع رأس المال الذي كان في مجمل فلسطين عام ،1945 كانت الموجودات
السائلة الأجنبية، جنيه فلسطيني منها للعرب 39,300,000 جنيه
.Smith , 1989 :pp 18,19"فلسطيني
وتشير هذه الأرقام إلى أن هناك قدراً ملموساً من الأرصدة المالية كانت
بايدي الفلسطينيين عشية اغتصاب بلادهم. ولكن المعضلة كانت في انعدام مناخ
وفرص الاستثمار. وكان بعض هذه الأموال مرصوداً في الخارج والبعض الآخر في
البنوك داخل فلسطين، لكنها لم تستثمر في الصناعة بعد عام 1948. والسؤال هو:
أين تستثمر بعد الترحيل ؟ فلم تعد هناك كيان فلسطيني، بأي معنى من المعاني، وحتى
الأردن الذي أصبح موئل العدد الأكبر من الفلسطينيين كان يعاني من فقره وصغر
سوقه. ولكن لو كانت لدى الحكومات الأردنية المتعاقبة توجهات تنموية، لكانت
أغرت بعض الرأسماليين الفلسطينيين بالاستثمار أكثر في الأردن.
ولعل ما ساعد على عدم الاستثمار في قطاع غزة والضفة الغربية، أن من
الموجودات المنقولة، أنواعا يسهل اقتناؤها في المنفى إن الأرصدة التي وضعت
بالجنيه الاسترليني في لندن وهي تمثل معظم الموجودات السائلة المرصودة في
الخارج، هي واحد من الأمثلة ومثال آخر مكون من المبالغ المرصودة أو
الموضوعة كسند لحامله كانت قد أصدرتها حكومة فلسطين قبل نهاية الانتداب. إن
قيمة ما أودع من قبل فلسطينيي المنفى في الخارج عام 1949 حسب تقديرات الأمم
المتحدة يصل بالاسترليني إلى 1,7 مليون جنيه. إن تحويل الأموال كان بقدر
ملموس أيضا فمن 60 مليون جنيه استرليني كانت في التداول في فترة الهزيمة
هناك فقط قرابة 27 مليوناً تحولت إلى حكومة إسرائيل ليتم تحويلها إلى العملة
الإسرائيلية".
لا توجد هناك تقديرات للسيولة المالية غير البنكية سواء بالعملة الفلسطينية،
أو بالذهب، بما هي مدخرات منزلية اسرية أو مكتنزات. وهذه إما استثمرت لاحقاً
بعد النكبة، أو أنفقت على المعاش اليومي للاجئين لذلك يبقى ضبط هذه الأمور
صعبا،ً أما المهم فإننا نتحدث عن بنية مجتمع جرى تدميرها بالكامل