لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (100%)

5- الله يُحقق تصميمه: العناية الإلهية
ولكنها لم تخرج من يدي الخالق كاملة الكمال. إنها مخلوقة في حالة مسيرة إلى كمال أقصى عليها أن تبلغه بعد، ونحن ندعو عنايةً إلهيةً التدابير التي يقود بها الله خليقته إلى كمالها. "بالغةً من غايةٍ إلى غايةٍ بالقوة، ومدبرة كل شيء بالرفق" (حك1:8). "فلذلك ما من خليقة مستترةٌ عنها، بل كل شيء عارٍ لعينيها" (عب13:4)، حتى الأشياء التي يأتي بها عمل الخليقة الحُرّ». شهادة الكتاب المقدس إجماعية: اهتمام العناية الإلهية واقعيٌ وفوري، من أحقر الأمور الصغيرة إلى أحداث العالم والتاريخ العظيمة. والأسفار المقدسة تشدد على سيطرة الله المطلقة على مجرى الأحداث:«إلهنا في السماء وعلى الأرض، وعن المسيح قيل:«يفتح فلا يُغلق أحدٌ، ويُغلق فلا يفتح أحد» (رؤ7:3)؛ «في قلب الإنسان أفكارٌ كثيرة، هكذا نرى الروح القدس، كثيراً ما ينسب إلى الله أعمالاً، ليس ذلك «أسلوباً في التحدث» بدائياً، ولكنه نهج عميق في التذكير بأولية الله وسيادته المطلقة على التاريخ وعلى العالم، وصلاة المزامير هي المدرسة الكبرى لهذه الثقة. يسوع يطلب استسلاما بنوياً لعناية الآب السماوي الذي يُعني بأصغر حاجات أبنائه:«لا تقلقوا إذن قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب؟ (. أبوكم السماوي عالمٌ بأنكم تحتاجون إلى هذا كله. بل أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذا كله يُزاد لكم» (متى31:6-33). وليس ذلك علاقة ضعفٍ، ولكنه دليل عظمة الله الكلي القدرة وجودته؛ لأن الله لا يمنح خلائقه أن يوجدوا وحسب، بل يمنحهم أيضاً كرامة العمل الذاتي، ويشتركوا هكذا في إتمام تصميمه. والله يمنح البشر المقدرة على الاشتراك الحر في عنايته بأن يُلقي إليهم بمسؤولية «إخضاع» الأرض والتسلط عليها. وهكذا يُعطي الله البشر أن يكونوا عللاً عاقلة وحُرة لإتمام عمل الخلق، وتحقيق التناغم لصالحهم وصالح قريبهم. وإن كان البشر في كثير من الأحيان شركاء غير واعين في إرادة الله، فإنهم يستطيعون أن يدخلوا اختيارياً في التصميم الإلهي، وهم يصبحون إذ ذاك كلياً «عاملين مع الله» (1كو9:3) وملكوته. 308- حقيقة لا تنفصل عن الإيمان بالله الخالق: أنَّ الله يعمل في كل عمل لخلائقه. إنه العلة الأولى التي تعمل في العلل الثانية وبها:«الله هو الذي يفعل فيكم الإرادة والعمل نفسه على حسب مرضاته» (فيل13:2) وهذه الحقيقة بعيدة عن أن تحط من كرامة الخليقة، فالخليقة التي أنشأتها من العدم قدرةُ الله وحكمتهُ وجودته، لا تستطيع شيئاً إذا اجتُثت من أصلها، لأن «الخليقة تتلاشى بدون الخالق» ؛ وهي إلى ذلك لا تستطيع أن تبلغ غايتها القصوى بدون معونة النعمة. خالق العالم منظماً وحسناً، يعتني بجميع مخلوقاته، فلماذا الشر موجود؟ عن هذه المسألة الملحة بقدر ما هي حتمية، ما من جواب سريع يكفيها. الجواب هو مجموعة الإيمان المسيحي: جودة الخلق، أناة محبى الله الذي يسعى إلى ملاقاة البشر بعهوده، بتجسد ابنه الخلاصي، بالدعوة إلى حياةٍ سعيدة والمخلوقات الحرَّة مدعوةٌ مسبقاً إلى قبولها، كما هي قادرة أيضاً مُسبقاً، ما من حرفٍ في الرسالة المسيحية لا يدخل في الجواب عن مسألة الشر. لماذا لم يخلق الله عالماً من الكمال بحيث لا يتمكن أيُ شر من الوجود فيه؟ الله، يستطيع دائماً أن يخلق شيئاً أفضل. ومع ذلك فقد أراد الله، واختياره أن يخلق عالماً «في حالة مسيرةٍ» إلى كماله الأقصى. مع ظهور بعض الكائنات انقراض غيرها، مع أعمال بناء الطبيعة أعمال هدمها أيضاً. فمع الخير الطبيعي يوجد أيضاً الشر الطبيعي ما دام الخلق لم يبلغ كماله. بكونهم مخلوقاتٍ عاقلة وحُرة، يجب أن يسيروا نحو غايتهم القصوى باختيار حرّ ومحبة للأفضل. وهكذا دخل الشر الأدبي العالم، وإن لم يكن له وللشر الطبيعي قياسٌ مشترك، لا يدع أبداً أيَّ شر يكون في صنائعه لو لم يكن له من القدرة والجودة ما يكفي لاستخراج الخير من الشر نفسه». يستطيع أن يستخرج خيراً من عواقب شرٍ، قال يوسف لإخوته: «لا أنتم بعثتموني إلى ههنا بل الله؛ أنتم نويتم علىَّ شراً والله نوى به خيراً لكي يُحيي شعباً كثيراً» (تك8:45؛ ومن أعظم شر أدبي اقترف على الدهر، أعظم الخيور: تمجيد المسيح وفداءَنا. والشر لا يتحول مع ذلك إلى خير. «كلُّ شيء يسعى لخير الذين يحبون الله» (رو28:8). وفي شهادة القديسين المتواصلة ما يُثبت هذه الحقيقة:
وهكذا فالقديسة كاترينا السيينية تقول: «للذين يتشككون ويثورون من جراء ما يصيبهم»: «كلُّ شيءٍ يصدر عن المحبة، كل شيءٍ موجه لخلاص الإنسان. الله لا يعمل شيئاً لهذه الغاية» والقديس توما مور، يقول معزياً ابنته: «لا شيء يمكن أن يحصل بغير إرادة الله. هو مع ذلك أفضل ما يكون لنا». وتقول الليدي جوليان دي نورويتش: «لقد أدركت، أنه من الواجب أن أتشبث بالإيمان تشبثاً شديداً، وأن أعتقد اعتقاداً ليس دونه ثباتاً، أن الأمور كلها ستكون حسنة . وسترى أن الأمور كلها ستكون حسنة». نحن نؤمن إيماناً ثابتاً أن الله سيد العالم والتاريخ. عندما نر الله «وجهاً إلى وجه» (1كو12:13)، ستتضح لنا السُّبل اتضاحاً كاملاً، يقود الله خليقته عبرها إلى راحة السبت النهائي، 6- الإنسان
على صورة الله خلقه، ذكراً وأُنثى خلقهم» (تك27:1). فللإنسان محلٌّ فريد في الخليقة: إنه «على صورة الله» ؛ بين جميع الخلائق المرئية، الإنسان وحده «يستطيع أن يعرف خالقه ويحبه». إنه «على الأرض الخليقة الوحيدة التي أرادها الله لذاتها». وهذا هو سبب كرامته الرئيسي:
وقد شُغِفت بها؛ إذ إنك خلقتها بمحبة، وبمحبة أعطيتها كياناً قادراً أن يتذوق خيرك الأزلي». بل هو شخصٌ ما. إلى معاهدة مع خالقه، ولكي يقدم له الخليقة كلها:
الوجه الحي العظيم والعجيب، الأكرام في عيني الله من الخليقة كلها جمعاء: إنه الإنسان، ولأجله وُجدت السماء والأرض والبحر وسائر الخليقة، وخلاصه هو الذي علق عليه الله مثل هذه الأهمية حتى إنه لم يوفر ابنه الوحيد نفسه في سبيله. وإن الله ما انفك يسعى السعي كله لكي يرقى بالإنسان إليه ويُجلسه إلى يمينه». «إن سر الإنسان لا يفسره تفسيراً حقيقياً إلا سرُّ الكلمة المتجسد». «القديس بولس يعلمنا أن رجُلين اثنين هما في أساس الجنس البشري: آدم والمسيح . وهو يقول: إن آدم الأول خُلِق كائناً بشرياً نال الحياة؛ وأما الآخر فكائن روحاني يُعطي الحياة. الأول خلقه الآخر ومنه نال النفس التي تُحييه . آدم الثاني جعل صورته في آدم الأول عندما كان يجبله. إذ إن الأخير هو الأول في الحقيقة، على حد ما قال هو نفسه:«أنا الأول والأخير». إذا كان الجنس البشري من أصلٍ مُشترك فهو يؤلف وحدةً؛ ذلك أن الله «صنع من واحدً كل أمة من البشر» (أع 26:17):
في وحدة طبيعته، المركبة عند جميع تركيباً واحداً من جسم مادي ونفس روحانية؛ في وحدة غايته الفورية ورسالته في العالم؛ بحق طبيعي، أن يستعملوا خيراتها لكي يحافظوا على الحياة ويُنموها؛ في وحدة غايته العُليا: الله نفسه الذي يجب على الجميع أن يتوجهوا إليه؛ (. ؛ في وحدة الافتداء الذي قام به المسيح لأجل الجميع». «نظام التضامن البشري والمحبة هذا»، والثقافات والشعوب، الشخص البشري، المخلوق على صورة الله، كائنٌ جسديٌ وروحانيٌ معاً. والرواية الكتابية تعبر عن هذه الحقيقة بكلام رمزي عندما تثبت أن «الله جبل الإنسان تُراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار الإنسان نفساً حيّة» (تك7:2). فالإنسان بكامله كان في إرادة الله. كثيراً ما ترد اللفظة نفس في الكتاب المقدس بمعنى الحياة البشرية، أو كامل الشخص البشري . ولكنها تدل أيضاً على أعمق ما في الإنسان وأثمن ما فيه]، أي ما يجعله على وجه أخص صورة الله:«نفس» تعني مبدأ الإنسان الروحاني. يشترك جسدُ الإنسان في كرامة «صورة الله»: إنه جسدٌ بشريٌ لأن النفس الروحانية تبث فيه الحياة، «الإنسان واحدٌ بجسده ونفسه، وهو بوضعه الجسدي نفسه يجمع في ذاته عناصر العالم المادي، بحيث تبلغ فيه قمتها، وترفع بحرية إلى الخالق صوت حمدها. فلا يجوز للإنسان إذن أن يحتقر الحياة الجسدية، بل عليه أن يعامل جسده بالإحسان والإكرام لأنه خليقة الله ومُعدٌ للقيامة في اليوم الأخير». وحدة النفس والجسد هي من العمق بحيث يجب أن تُعد النفس «صورة» الجسد؛ في الإنسان، ليسا طبيعتين اثنتين متحدتين، الكنيسة تعلم أن كل نفس روحانية يخلقها الله مباشرة؛ وهي تعلمنا أيضاً أنها غير مائت]؛ إنها لا تتلاشى عندما تفارق الجسد بالموت، وهي تعود إلى الاتحاد بالجسد في القيامة الأخيرة. يحصل أحياناً أن نُميَّز النفس من الروح. وأجسادكم، بغير لوم عند مجيء ربنا» (1تس23:5). والكنيسة تُعلم أن هذا التمييز لا يُدخل في النفس ازدواجية. «الروح» يعني أن الإنسان موجَّه منذ خلقه إلى غايته الفائقة الطبيعة، وأن نفسه قادرةٌ على أن تُرقى مجاناً إلى الشركة مع الله. تقليد الكنيسة الروحي يُشدد على القلب بالمعنى الكتابي لـ«عُمق الكيان» (إر33:31) حيث يُقرر الشخص أنه الله أولاً. مُساواة واختلاف أرادهما الله. الرَّجُل والمرأة خُلِقا أي إن الله أرادهما: في مساواة كاملة، لكونهما شخصين بشريين من جهة، ومن جهةٍ أُخرى بكيانهما الخاص رجلاً وإمرأة. على صورة الله. فهو ليس رجُلاً ولا امرأةً. الله روح محض ليس فيه مكان لاختلاف الجنسين. وقد أرادهما الله الواحد للآخر. وكلام الله يُسمعنا ذلك بتلميحات مختلفة في النص المقدس. «لا يُحسن أن يكون الإنسان وحده فأصنع له عوناً بإزائه» (تك18:2). ما من حيوان يمكن أن يكون هذا الـ «بإزاء» الإنسان. والتي أتى بها الرجل، تبعث من الرجل صُراخ إعجاب، صراخ محبةٍ وشركة: «هوذا هذه المرّة عظمٌ من عظامي ولحم من لحمي» (تك23:2). من البشرية نفسها. الرجل والمرأة صُنِعا «الواحد للآخر»: لا أن الله صنعهما «نصفين» و«غير كاملين»؛ إنه خلقهما لشركة شخصين يستطيع فيها كل واحد أن يكون «عوناً» للآخر، لأنهما في الوقت نفسه متساويان لكونهما شخصين («عظمٌ من عظامي» ومتكاملين لكونهما ذكراً وأُنثى. وهما «جسداً واحداً» (تك24:2)، زوجين ووالدين، في تصميم الله، «لإخضاع» الأرض على أنهما «وكلاء» الله. وهذه السيطرة يجب أن لا تكون تسلطاً تعسفياً وهداماً. فالرجل والمرأة مدعوان، على صورة الخالق الذي «يحب جميع الكائنات» (حك25:11)، إلى الاشتراك في «العناية الإلهية» تجاه جميع المخلوقات. ولكنه أقيم في صداقة مع خالقه، الكنيسة، آدم وحواء، ونعمة القداسة الأصلية هذه كانت اشتراكاً في الحياة الإلهية. بإشعاع هذه النعمة تقوت جميع أبعاد الحياة البشرية. فما دام الإنسان في صداقةٍ مع الله كان في منجى من الموت ومن الألم. فالتناغم في داخل الشخص البشري، والتناغم بين الرجل والمرأة، وأخيراً التناغم بين الزوجين الأولين وجميع الخليقة، كانت تؤلف الحالة المدعوة «برارةً أصلية». «إخضاع» العالم اذي ألقى به الله إلى الإنسان منذ البدء كان يتحقق قبل كل شيء في الإنسان نفسه بالانضباط اذاتي. كان الإنسان في كامل ذاته كاملاً ومنظماً، للتجشع في الخيرات الأرضية، وكانت علامة أُلفته مع الله أن جًعَله الله في الجنة. فعاش فيها «يحرث الأرض ويحرسها» (تك15:2): ليس العمل مشقة، الذي هُيئ للإنسان في تصميم الله، سيُفقد بخطيئة أبوينا الأوين. 7- السُّقوط
الله غير متناهي الجودة وجميع أعماله حسنه. ولكن لا أحد ينجو من تجربة الألم، من تجربة شرور الطبيعة- التي تبدو شبه مرتبطة بحدود الخلائق الخاصة- ولا سيّما من مسألة الشر الأدبي. من أين يأتي الشر؟ يقول القديس أوغسطينوس:«لقد فتَّشت من أين يأتي الشر ولم أجد حلاً»، ولن يجد بحثه الخاص الأليم مخرجاً إلا اهتدائه إلى الله الحي. فإن «سر الأثم» (2تس7:2) لن يتضح إلا على نور سر التقوى. وحده، غالب الشر. أو إلقاء أسماء أخرى على هذه الحقيقة الغامضة. ولكي نحاول فهم ما هي الخطيئة، يجب أولاً معرفة صلة الإنسان العميقة بالله، إذ إنه خارج هذه العلاقة، حقيقة الخطيئة، ولا سيّما خطيئة الأصول، لا تتضح إلا على نور الوحي الإلهي. ضعفٌ نفسيّ، ضلالٌ، نتيجةٌ حتميةٌ لبنية اجتماعيةٍ غير ملائمة. إلخ. ففي معرفة قصد الله بالنسبة إلى الإنسان فقط تُفهم الخطيئة على أنها سوء استعمال للحرية التي يمنحها الله للأشخاص المخلوقين، لكي يتمكنوا من محبته ومن محبة بعضهم البعض. بنمو الوحي اتضحت أيضاً حقيقة الخطيئة. وإن عرَض شعب الله في العهد القديم لآلام الوضع البشري على نور تاريخ السقوط الوارد في سفر التكوين، فإنه لم يكن باستطاعته الوصول إلى المعنى البعيد لهذا التاريخ، الذي ينجلي فقط على نور موت يسوع المسيح وقيامته. يجب معرفة المسيح ينبوعاً للنعمة لمعرفة آدم ينبوعاً للخطيئة. الروح- البارقليط الذي أرسله المسيح المنبعث، هو الذي جاء لكي «يُفحم العالم بشأن الخطيئة» (يو8:16)، إذ كشف عن الذي افتدى من الخطيئة. عقيدة الخطيئة الأصلية هي على نحوٍ ما «الوجه المناقض» للبشرى الصالحة بأن يسوع هو مخلص جميع البشر، وبأن الجميع بحاجة إلى الخلاص، والكنيسة التي عندها فكر المسيح تعلم جيداً أنه لا يمكن المساس بوحي الخطيئة الأصلية بدون الإساءة إلى سر المسيح. ولكنه يؤكد حدثاً ذا أهمية كبيرة، حدثاً جرى في بدء تاريخ الإنسان. وراء اختيار أبوينا الأولين المعصية صوتٌ مُغرٍ معارضٌ لله يحملهما، حسداً، على السقوط والموت. الكنيسة تعلم أنه كان أولاً ملاكاً صالحاً من صُنع الله. «الشيطان وسائر الأبالسة خلقهم الله صالحين في طبيعتهم، ولكنهم هم بأنفسهم انقلبوا أشراراً». الكتاب المقدس يذكر لهؤلاء الملائكة خطيئة. وهذا «السقوط» يقوم باختيارٍ حُر لهؤلاء الأرواح المخلوقة، وإننا نجد إشارةً إلى هذا العصيان في أقوال المجرب لأبوينا الأولين: «تصيران كآلهة» (تك5:3). إن ميزة الاختيار الثابت للملائكة، لا تقصيرٌ من الرحمة الإلهية غير المتناهية، هي التي جعلت خطيئتهم غير قابلة الغفران. «لا ندامة لهم بعد السقوط، كما أنه لا ندامة للبشر بعد الموت». الكتاب المقدس يُثبت الأثر المشؤوم للذي يدعوه يسوع «من البدء قتّال الناس» (يو44:8)، وأفظع نتائج أعماله كان الإغراء الكاذب الذي جرَّ الإنسان إلى عصيان الله. ولكن مقدرة إبليس ليست غير متناهية. إنه مُجرد خليقة، قديرة لكونها روحاً محضاً، وإن عمِلَ إبليس في العالم بعامل الحقد على الله وملكوته في يسوع المسيح، وإن كان لعمله أضرارٌ جسيمة- على المستوى الروحي أحياناً، وبطريقة غير مباشرة، على المستوى الطبيعي نفسه – لكل إنسان وللمجتمع، والسماح الإلهي بهذا العمل الشيطاني سر عظيم، 8- الخطيئة الأصلية
الله خلق الإنسان على صورته وأقامه في صداقته. فهو لا يستطيع أن يعيش في هذه الصداقة إلا عن طريق الخضوع الحُر لله. «فإنك يوم تأكل منها تموت موتاً» (تك17:2). أن يعترف به اختيارياً وأن يقف عنده بثقة. وللنظم الأخلاقية التي تُنظم استعمال الحرّية. في ما بعد، ستكون عصياناً لله، وعدم ثقة في صلاحه. وبذلك عينه حَقَرَ الله: اختار ذاته على الله، على مقتضيات كونه خليقة، ومن ثَمَّ على صالحه الخاص. وبإغراء من إبليس أراد أن «يكون مثل الله»، ولكن «بدون الله، وليس بحسب الله». الكتاب المقدس يبين عواقب هذه المعصية الأولى المأسوية. التناسق الذي كانا عليه، والذي أولتهما إياه حالة البرارة الأصلية، قد تهَّدم؛ وسيطرة قُوى النفس الروحانية على الجسد تحطمت؛ اتحاد الرجل والمرأة أصبح تحت تأثير المشادات؛ وعلاقاتهما ستكون موسومة بسمة الشهوة والسيطرة. التناسق مع الخليقة نُقض: الخليقة المنظورة أصبحت بالنسبة إلى الإنسان غربية ومُعادية، وأخيراً فإن العاقبة التي أُنبئ بها بصراحة لمعصية الإنسان ستتحقق:«سيعود الإنسان إلى الأرض التي منها أُخذ. وهكذا دخل الموت في تاريخ البشرية. غمر العالم «اجتياح» للخطيئة حقيقي: قتل قاين أخاه هابيل؛ كذلك في تاريخ إسرائيل، فكثيراً ما تبرز الخطيئة كعصيانٍ خاصٍ لإله العهد، وكمخالفة لشريعة موسى؛ وبعد فداء المسيح أيضاً، تبرز الخطيئة بين المسيحيين على وجوه متعدد. والكتاب المقدس وتقليد الكنيسة لا يزالان يذكران بوجود الخطيئة وشمولها في تاريخ الإنسان:
«ما يكشفه لنا الوحي الإلهي يتفق ومعطيات خبرتنا. فإن تفحص الإنسان قلبه وجد أنه ميال إلى الشر أيضاً، وأنه غارقٌ في غمر من الشرور لا يمكن أن تصدر عن خالقه الصالح. فكثيراً ما يرفض الإنسان أن يرى في الله مبدأه، فينقض النظام الذي يتوجه به إلى غايته القصوى، جميع البشر متورطون في خطيئة آدم. وبالخطيئة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس لأن جميعهم قد خطئوا . وقد قابل الرسول شمولية الخطيئة والموت بشمولية الخلاص بالمسيح:«كما أنه بزلة واحدٍ كان القضاء على جميع الناس، كذلك ببر واحدٍ (برّ المسيح) يكون لجميع الناس تبرير الحياة» (رو18:5). لقد اتبعت الكنيسة القديس بولس، فعلمت دائماً أن الشقاء العارم الذي يهبظ البشر، وميلهم إلى الشر وإلى الموت لا يُفهمان بمعزل عن علاقتهم بخطيئة آدم، وبواقع أنه أورثنا خطيئة نُولد حاملين وزرها وهي «موت النفس». وانطلاقا من هذا اليقين العقائدي تمنح الكنيسة المعمودية لمغفرة الخطايا، حتى للأطفال الصغار الذين لم يرتكبوا خطيئة شخصية. كيف أصبحت خطيئة آدم خطيئة ذريَّته كلها؟ الجنس البشري كله في آدم «كأنه الجسد الواحد لإنسان واحد. وبسبب «وحدة الجنس البشري هذه» جميع البشر داخلون في خطيئة آدم، ومع ذلك فإن انتقال الخطيئة الأصلية سرٌّ لا نستطيع إدراكه إدراكاً تاماً. لا له وحده، بل للطبيعة البشرية كلها: وبانقياد آدم وحواء للمجرب، ارتكبا خطيئة شخصية، ولهذا فالخطيئة الأصلية مدعوة «خطيئة» على سبيل المشابهة: إنها خطيئة «موروثة» لا «مُرتكبة»، حالة لا فعل. وإن كان كل إنسان مخصوصاً بالخطيئة الأصلية، فإنها ليست ذات طابع شخصي عند أيٍ من أبناء آدم. إنها حرمان من القداسة والبرارة الأصليتين، ولكن الطبيعة البشرية ليست مُنفسِدة إنفساداً كاملاً: لقد جُرحت في قواها الطبيعية الخاصة، وأخضعِت للجهل والألم وسلطان الموت، ومالت إلى الخطيئة الأصلية (وهذا الميل إلى الشر يُسمى «شهوة»). والمعمودية بمنحها حياة نعمة المسيح، تمحو الخطيئة الأصلية وتردُّ الإنسان إلى الله، ولكن العواقب في الطبيعة المُضعفة والميالة إلى الشر، تبقى في الإنسان وتدعوه إلى الجهاد الروحي. إن عقيدة الكنيسة في موضوع انتقال الخطيئة الأصلية اكتسبت دقّةً خصوصاً في القرن الخامس، ولا سيّما مع القديس أوغسطينوس في دفق تأمُلاته ضد البلاجية، كان بلاجيوس يعتقد أن الإنسان يستطيع، بقوة إرادته الطبيعية الحرّة، بدون معونة نعمة الله الضرورية، وبعكس ذلك دعاة الإصلاح البروتستانتي الأولون يُعلمون أن الإنسان قد أصبح في عمقه فاسداً وأن حريته أصبحت، بخطيئة الأولين، سنة 529، وفي المجمع التريدنتيني، عقيدة الخطيئة الأصلية- مقرونة بعقيدة فداء المسيح – تُخول نظرة تمييز واضح في شأن موقع الإنسان وعمله في العالم. وإن لبث هذا حُراً. أعني إبليس. والسياسة، تصِمُ العالم، في مجمله، بهذا التعبير يُشار أيضاً إلى التأثير السلبي الذي تُلحقه بالأشخاص الأحوال المجتمعية، والبُنى الاجتماعية، التي هي ثمرة آثام البشر. «يتخلل تاريخ البشر العام صراع عنيف به قوى الظلمة، وقد بدأ مع وجود العالم وسيبقى على حد قول الرب، إلى اليوم الآخر. بعكس ذلك، يدعوه ويبشره، بطريقة سرية، هذا المقطع من سفر التكوين سُميّ «مقدمة الإنجيل» لأنه البشرى الأولى بالمسيح الفادي، البشرى بصراعٍ بين الحية والمرأة، وبالانتصار النهائي لنسل هذه المرأة. «بطاعته حتى الموت موت الصليب» (في8:2) يُعوض تعويضاً لا يُقاس عن معصية آدم. على أنها «حواء الجديدة». إنها تلك التي كانت الأولى، استفادةً من الانتصار على الخطيئة الذي حققه المسيح: لقد صِينت من دنس الخطيئة الأصلية كله، وعلى مدى حياتها الأرضية كها لم ترتكب أيّ نوع من الخطيئة، وذلك بنعمةٍ خاصة من الله. ولكن لماذا لم يمنع الله الإنسان الأول أن يخطأ؟ يجيب عن ذلك القديس لاون الكبير: «نعمة المسيح التي لا توصف وهبتنا خيراتٍ أعظم من تلك التي كان حسدُ إبليس قد انتزعها منا». والقديس توما الأكويني يقول:«لا شيء يمنع من أن تكون الطبيعة البشرية قد أُعدت لغايةٍ أرفع من الخطيئة.


النص الأصلي

5- الله يُحقق تصميمه: العناية الإلهية
للخليقة جودتها وكمالها الخاصان، ولكنها لم تخرج من يدي الخالق كاملة الكمال. إنها مخلوقة في حالة مسيرة إلى كمال أقصى عليها أن تبلغه بعد، كمالٍ أعدها الله له. ونحن ندعو عنايةً إلهيةً التدابير التي يقود بها الله خليقته إلى كمالها.
«الله يصون ويسوس بعنايته كلَّ ما خلق، "بالغةً من غايةٍ إلى غايةٍ بالقوة، ومدبرة كل شيء بالرفق" (حك1:8). "فلذلك ما من خليقة مستترةٌ عنها، بل كل شيء عارٍ لعينيها" (عب13:4)، حتى الأشياء التي يأتي بها عمل الخليقة الحُرّ».
شهادة الكتاب المقدس إجماعية: اهتمام العناية الإلهية واقعيٌ وفوري، فهي تُعني بكل شيء، من أحقر الأمور الصغيرة إلى أحداث العالم والتاريخ العظيمة. والأسفار المقدسة تشدد على سيطرة الله المطلقة على مجرى الأحداث:«إلهنا في السماء وعلى الأرض، كل ما شاء صنع» (مز3:115). وعن المسيح قيل:«يفتح فلا يُغلق أحدٌ، ويُغلق فلا يفتح أحد» (رؤ7:3)؛ «في قلب الإنسان أفكارٌ كثيرة، لكن مشورة الرب هي تثبت» (أم21:19).
هكذا نرى الروح القدس، وهو مؤلف الكتاب المقدس الرئيسي، كثيراً ما ينسب إلى الله أعمالاً، بدون أن يذكر لها عللاً ثانية. ليس ذلك «أسلوباً في التحدث» بدائياً، ولكنه نهج عميق في التذكير بأولية الله وسيادته المطلقة على التاريخ وعلى العالم، ويبعث الثقة. وصلاة المزامير هي المدرسة الكبرى لهذه الثقة.
يسوع يطلب استسلاما بنوياً لعناية الآب السماوي الذي يُعني بأصغر حاجات أبنائه:«لا تقلقوا إذن قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب؟ (...) أبوكم السماوي عالمٌ بأنكم تحتاجون إلى هذا كله. بل أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذا كله يُزاد لكم» (متى31:6-33).
الله هو سيد تصميمه المطلق. ولكنه يستعين أيضاً، في تحقيقه، بعمل خلائقه. وليس ذلك علاقة ضعفٍ، ولكنه دليل عظمة الله الكلي القدرة وجودته؛ لأن الله لا يمنح خلائقه أن يوجدوا وحسب، بل يمنحهم أيضاً كرامة العمل الذاتي، وأن يكون بعضهم عِلَلَ البعض الآخر ومبادئه، ويشتركوا هكذا في إتمام تصميمه.
والله يمنح البشر المقدرة على الاشتراك الحر في عنايته بأن يُلقي إليهم بمسؤولية «إخضاع» الأرض والتسلط عليها. وهكذا يُعطي الله البشر أن يكونوا عللاً عاقلة وحُرة لإتمام عمل الخلق، وتحقيق التناغم لصالحهم وصالح قريبهم. وإن كان البشر في كثير من الأحيان شركاء غير واعين في إرادة الله، فإنهم يستطيعون أن يدخلوا اختيارياً في التصميم الإلهي، بأعملهم، وصلواتهم، ثم بآلامهم أيضاً . وهم يصبحون إذ ذاك كلياً «عاملين مع الله» (1كو9:3) وملكوته.
308- حقيقة لا تنفصل عن الإيمان بالله الخالق: أنَّ الله يعمل في كل عمل لخلائقه. إنه العلة الأولى التي تعمل في العلل الثانية وبها:«الله هو الذي يفعل فيكم الإرادة والعمل نفسه على حسب مرضاته» (فيل13:2) وهذه الحقيقة بعيدة عن أن تحط من كرامة الخليقة، فهي تُعليها. فالخليقة التي أنشأتها من العدم قدرةُ الله وحكمتهُ وجودته، لا تستطيع شيئاً إذا اجتُثت من أصلها، لأن «الخليقة تتلاشى بدون الخالق» ؛ وهي إلى ذلك لا تستطيع أن تبلغ غايتها القصوى بدون معونة النعمة.
ذا كان الله الآب الكلي القدرة، خالق العالم منظماً وحسناً، يعتني بجميع مخلوقاته، فلماذا الشر موجود؟ عن هذه المسألة الملحة بقدر ما هي حتمية، والأليمة بقدر ما هي سرّية، ما من جواب سريع يكفيها. الجواب هو مجموعة الإيمان المسيحي: جودة الخلق، مأساة الخطيئة، أناة محبى الله الذي يسعى إلى ملاقاة البشر بعهوده، بتجسد ابنه الخلاصي، بموهبة الروح، بتجميع الكنيسة، بقوة الأسرار، بالدعوة إلى حياةٍ سعيدة والمخلوقات الحرَّة مدعوةٌ مسبقاً إلى قبولها، كما هي قادرة أيضاً مُسبقاً، وبسر رهيب، أن تتجنبها. ما من حرفٍ في الرسالة المسيحية لا يدخل في الجواب عن مسألة الشر.
لماذا لم يخلق الله عالماً من الكمال بحيث لا يتمكن أيُ شر من الوجود فيه؟ الله، في قدرته غير المتناهية، يستطيع دائماً أن يخلق شيئاً أفضل. ومع ذلك فقد أراد الله، في حكمته وجودته، واختياره أن يخلق عالماً «في حالة مسيرةٍ» إلى كماله الأقصى. وهذه الصيرورة تقتضي، في تصميم الله، مع ظهور بعض الكائنات انقراض غيرها، مع الأكمل الأقل كمالاً أيضاً، مع أعمال بناء الطبيعة أعمال هدمها أيضاً. فمع الخير الطبيعي يوجد أيضاً الشر الطبيعي ما دام الخلق لم يبلغ كماله.
الملائكة والبشر، بكونهم مخلوقاتٍ عاقلة وحُرة، يجب أن يسيروا نحو غايتهم القصوى باختيار حرّ ومحبة للأفضل. فبإمكانهم أن يضلوا. وقد خطِئوا فعلاً. وهكذا دخل الشر الأدبي العالم، وهو، وإن لم يكن له وللشر الطبيعي قياسٌ مشترك، يفوقه خطورةً. والله ليس البتة علة الشر الأدبي، ولا مباشرةً ولا بوجهٍ غير مباشر. ولكنه يسمح به، مراعياً حرية خليقته، ويعرف، بطريقةٍ سرية، كيف يستخرج منه الخير:
«فالله الكلي القدرة (...)، في صلاحه المطلق، لا يدع أبداً أيَّ شر يكون في صنائعه لو لم يكن له من القدرة والجودة ما يكفي لاستخراج الخير من الشر نفسه».
وهكذا، مع الوقت، يمكن اكتشاف أن الله، في عنايته الكلية القدرة، يستطيع أن يستخرج خيراً من عواقب شرٍ، ولو أدبياً، سببته خلائقه. قال يوسف لإخوته: «لا أنتم بعثتموني إلى ههنا بل الله؛ (...) أنتم نويتم علىَّ شراً والله نوى به خيراً لكي يُحيي شعباً كثيراً» (تك8:45؛ 20:50). ومن أعظم شر أدبي اقترف على الدهر، أي نبذ ابن الله وقتله، بسبب خطيئة جميع البشر، استخرج الله، في فيض نعمته، أعظم الخيور: تمجيد المسيح وفداءَنا. والشر لا يتحول مع ذلك إلى خير.
«كلُّ شيء يسعى لخير الذين يحبون الله» (رو28:8). وفي شهادة القديسين المتواصلة ما يُثبت هذه الحقيقة:
وهكذا فالقديسة كاترينا السيينية تقول: «للذين يتشككون ويثورون من جراء ما يصيبهم»: «كلُّ شيءٍ يصدر عن المحبة، كل شيءٍ موجه لخلاص الإنسان. الله لا يعمل شيئاً لهذه الغاية» والقديس توما مور، قُبيل استشهاده، يقول معزياً ابنته: «لا شيء يمكن أن يحصل بغير إرادة الله. ومن ثمّ فكل ما يريده، مهما ظهر لنا سيئاً، هو مع ذلك أفضل ما يكون لنا». وتقول الليدي جوليان دي نورويتش: «لقد أدركت، بنعمة الله، أنه من الواجب أن أتشبث بالإيمان تشبثاً شديداً، وأن أعتقد اعتقاداً ليس دونه ثباتاً، أن الأمور كلها ستكون حسنة ... وسترى أن الأمور كلها ستكون حسنة».
نحن نؤمن إيماناً ثابتاً أن الله سيد العالم والتاريخ. ولكن سُبل عنايته كثيراً ما تخفى عنا. ففي النهاية فقط، عندما تنتهي معرفتنا الجزئية، عندما نر الله «وجهاً إلى وجه» (1كو12:13)، ستتضح لنا السُّبل اتضاحاً كاملاً، السُّبل التي، حتى في ما بين مآسي الشر والخطيئة، يقود الله خليقته عبرها إلى راحة السبت النهائي، الذي لأجله السماء والأرض.
6- الإنسان
«خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأُنثى خلقهم» (تك27:1). فللإنسان محلٌّ فريد في الخليقة: إنه «على صورة الله» ؛ في طبيعته الخاصة يجمع ما بين العالم الروحاني والعالم المادي ؛ خُلِقَ «ذكراً وأُنثى»؛ اختصه الله بصداقته.
بين جميع الخلائق المرئية، الإنسان وحده «يستطيع أن يعرف خالقه ويحبه». إنه «على الأرض الخليقة الوحيدة التي أرادها الله لذاتها». إنه وحده المدعو إلى المشاركة في حياة الله بالمعرفة والمحبة. خُلِقَ لهذه الغاية، وهذا هو سبب كرامته الرئيسي:
«ما الداعي الذي جعلك تكون الإنسان على هذه العظمة؟ المحبة العظمى التي نظرت بها إلى خليقتك في ذات نفسك، وقد شُغِفت بها؛ إذ إنك خلقتها بمحبة، وبمحبة أعطيتها كياناً قادراً أن يتذوق خيرك الأزلي».
بما أن الفرد البشريَّ على صورة الله فمقامه مقام شخص: فهو ليس شيئاً ما وحسب، بل هو شخصٌ ما. إنه قادر على أن يعرف نفسه، وأن يضبطها، وأن يبذل ذاته باختياره، وأن يدخل في شركة غيره من الأشخاص؛ وهو مدعوّ، بالنعمة، إلى معاهدة مع خالقه، وإلى تلبيته تلبية إيمانٍ ومحبةٍ لا يستطيع أحدٌ غيره أن يقوم مقامه فيها.
الله خلق كل شيء للإنسان، ولكن الإنسان خُلِقَ لخدمة الله ومحبته، ولكي يقدم له الخليقة كلها:
«فمن هو الكائن الذي سيأتي إلى الوجود في مثل هذه الهالة من التقدير؟ إنه الإنسان، الوجه الحي العظيم والعجيب، الأكرام في عيني الله من الخليقة كلها جمعاء: إنه الإنسان، ولأجله وُجدت السماء والأرض والبحر وسائر الخليقة، وخلاصه هو الذي علق عليه الله مثل هذه الأهمية حتى إنه لم يوفر ابنه الوحيد نفسه في سبيله. وإن الله ما انفك يسعى السعي كله لكي يرقى بالإنسان إليه ويُجلسه إلى يمينه».
«إن سر الإنسان لا يفسره تفسيراً حقيقياً إلا سرُّ الكلمة المتجسد».
«القديس بولس يعلمنا أن رجُلين اثنين هما في أساس الجنس البشري: آدم والمسيح ... وهو يقول: إن آدم الأول خُلِق كائناً بشرياً نال الحياة؛ وأما الآخر فكائن روحاني يُعطي الحياة. الأول خلقه الآخر ومنه نال النفس التي تُحييه ... آدم الثاني جعل صورته في آدم الأول عندما كان يجبله. من هُنا أُلقيت عليه مهمته واسمه وذلك لكي لا يُعرض من صنعه على صورته للضياع. آدم الأول، وآدم الأخير: الأول ابتدأ، والأخير لن ينتهي؛ إذ إن الأخير هو الأول في الحقيقة، على حد ما قال هو نفسه:«أنا الأول والأخير».
إذا كان الجنس البشري من أصلٍ مُشترك فهو يؤلف وحدةً؛ ذلك أن الله «صنع من واحدً كل أمة من البشر» (أع 26:17):
«إنها لرؤيا عجيبة تلك التي تجعلنا نتأمل الجنس البشري في وحدة أصله في الله؛ في وحدة طبيعته، المركبة عند جميع تركيباً واحداً من جسم مادي ونفس روحانية؛ في وحدة غايته الفورية ورسالته في العالم؛ في وحدة مسكنه: الأرض التي يستطيع جميع اللبشر، بحق طبيعي، أن يستعملوا خيراتها لكي يحافظوا على الحياة ويُنموها؛ في وحدة غايته العُليا: الله نفسه الذي يجب على الجميع أن يتوجهوا إليه؛ في وحدة الوسائل لبلوغ هذه الغاية؛ (...)؛ في وحدة الافتداء الذي قام به المسيح لأجل الجميع». «نظام التضامن البشري والمحبة هذا»، فضلاً عن وفرة تنوع الأشخاص، والثقافات والشعوب، يؤكد لنا أن جميع البشر إخوة في الحقيقة.
الشخص البشري، المخلوق على صورة الله، كائنٌ جسديٌ وروحانيٌ معاً. والرواية الكتابية تعبر عن هذه الحقيقة بكلام رمزي عندما تثبت أن «الله جبل الإنسان تُراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار الإنسان نفساً حيّة» (تك7:2). فالإنسان بكامله كان في إرادة الله.
كثيراً ما ترد اللفظة نفس في الكتاب المقدس بمعنى الحياة البشرية، أو كامل الشخص البشري . ولكنها تدل أيضاً على أعمق ما في الإنسان وأثمن ما فيه]، أي ما يجعله على وجه أخص صورة الله:«نفس» تعني مبدأ الإنسان الروحاني.
يشترك جسدُ الإنسان في كرامة «صورة الله»: إنه جسدٌ بشريٌ لأن النفس الروحانية تبث فيه الحياة، والشخص البشريَّ بكامله مُعد لأن يصبح، في جسد المسيح، هيكل الروح:
«الإنسان واحدٌ بجسده ونفسه، وهو بوضعه الجسدي نفسه يجمع في ذاته عناصر العالم المادي، بحيث تبلغ فيه قمتها، وترفع بحرية إلى الخالق صوت حمدها. فلا يجوز للإنسان إذن أن يحتقر الحياة الجسدية، بل عليه أن يعامل جسده بالإحسان والإكرام لأنه خليقة الله ومُعدٌ للقيامة في اليوم الأخير».
وحدة النفس والجسد هي من العمق بحيث يجب أن تُعد النفس «صورة» الجسد؛ أي أن الجسد المركب من مادة يصبح بالنفس الروحانية، جسداً إنسانياً وحياً، الروح والمادة، في الإنسان، ليسا طبيعتين اثنتين متحدتين، ولكن اتحادهما يكون طبيعة واحدة.
الكنيسة تعلم أن كل نفس روحانية يخلقها الله مباشرة؛ - إنها ليست من «صُنع» الوالدين-؛ وهي تعلمنا أيضاً أنها غير مائت]؛ إنها لا تتلاشى عندما تفارق الجسد بالموت، وهي تعود إلى الاتحاد بالجسد في القيامة الأخيرة.
يحصل أحياناً أن نُميَّز النفس من الروح. وهكذا فالقديس بولس يُصلي قائلاً:«وليحفظ كل ما فيكم أرواحكم، ونفوسكم، وأجسادكم، بغير لوم عند مجيء ربنا» (1تس23:5). والكنيسة تُعلم أن هذا التمييز لا يُدخل في النفس ازدواجية. «الروح» يعني أن الإنسان موجَّه منذ خلقه إلى غايته الفائقة الطبيعة، وأن نفسه قادرةٌ على أن تُرقى مجاناً إلى الشركة مع الله.
تقليد الكنيسة الروحي يُشدد على القلب بالمعنى الكتابي لـ«عُمق الكيان» (إر33:31) حيث يُقرر الشخص أنه الله أولاً.
مُساواة واختلاف أرادهما الله. الرَّجُل والمرأة خُلِقا أي إن الله أرادهما: في مساواة كاملة، لكونهما شخصين بشريين من جهة، ومن جهةٍ أُخرى بكيانهما الخاص رجلاً وإمرأة. أن يكون «رجُلاً» وأن تكون «امرأة» تلك حقيقة حسنة وقد أرادها الله: للرجل والمرأة كرامةٌ ثابتةٌ تأتيها مباشرةً من الله خالقهما. الرجل والمرأة هما، في الكرامة الواحدة، على صورة الله. وهما يعكسان حكمة الخالق وجودته في «كيان الرجولة» وفي «كيان الإنوثة».
يس الله على صورة الإنسان البتة. فهو ليس رجُلاً ولا امرأةً. الله روح محض ليس فيه مكان لاختلاف الجنسين. ولكن «كمالات» الرجل والمرأة تعكس شيئاً من كمال الله المتناهي: كمالات الأم، وكمالات الأب والزوج.
الرجل والمرأة خُلِقا معاً، وقد أرادهما الله الواحد للآخر. وكلام الله يُسمعنا ذلك بتلميحات مختلفة في النص المقدس. «لا يُحسن أن يكون الإنسان وحده فأصنع له عوناً بإزائه» (تك18:2). ما من حيوان يمكن أن يكون هذا الـ «بإزاء» الإنسان. المرأة التي «بناها» الله من الضلع التي أخذها من الرجل، والتي أتى بها الرجل، تبعث من الرجل صُراخ إعجاب، صراخ محبةٍ وشركة: «هوذا هذه المرّة عظمٌ من عظامي ولحم من لحمي» (تك23:2). الرجل يكتشف في المرأة «أنا» آخر، من البشرية نفسها.
الرجل والمرأة صُنِعا «الواحد للآخر»: لا أن الله صنعهما «نصفين» و«غير كاملين»؛ إنه خلقهما لشركة شخصين يستطيع فيها كل واحد أن يكون «عوناً» للآخر، لأنهما في الوقت نفسه متساويان لكونهما شخصين («عظمٌ من عظامي» ومتكاملين لكونهما ذكراً وأُنثى. وفي الزواج يجمعهما الله بحيث، وهما «جسداً واحداً» (تك24:2)، يستطيعان أن يُعطيا الحياة البشرية: «انموا واكثروا واملأوا الأرض» (تك28:1). والرجلُ والمرأة، زوجين ووالدين، عندما يُعطيان نسلهما الحياة البشرية يُسهمان إسهاماً فريداً في عمل الخالق.
الرجل والمرأة مدعوان، في تصميم الله، «لإخضاع» الأرض على أنهما «وكلاء» الله. وهذه السيطرة يجب أن لا تكون تسلطاً تعسفياً وهداماً. فالرجل والمرأة مدعوان، على صورة الخالق الذي «يحب جميع الكائنات» (حك25:11)، إلى الاشتراك في «العناية الإلهية» تجاه جميع المخلوقات. من هنا مسؤوليتهما عن العالم الذي عهد الله فيه إليهما.
الإنسان الأول لم يُخلق صالحاً وحسب، ولكنه أقيم في صداقة مع خالقه، وفي تناغم مع ذاته ومع الخليقة التي حوله والتي لا يفوقها إلا مجد الخليقة الجديدة في المسيح.
الكنيسة، عندما تفسر رمزي الكلام الكتابي على نور العهد الجديد والتقليد تفسيراً أصيلاً، تعلم أن أبوينا الأولين، آدم وحواء، أقيما في حالة «قداسة وبرٍ أصلي». ونعمة القداسة الأصلية هذه كانت اشتراكاً في الحياة الإلهية.
بإشعاع هذه النعمة تقوت جميع أبعاد الحياة البشرية. فما دام الإنسان في صداقةٍ مع الله كان في منجى من الموت ومن الألم. فالتناغم في داخل الشخص البشري، والتناغم بين الرجل والمرأة، وأخيراً التناغم بين الزوجين الأولين وجميع الخليقة، كانت تؤلف الحالة المدعوة «برارةً أصلية».
«إخضاع» العالم اذي ألقى به الله إلى الإنسان منذ البدء كان يتحقق قبل كل شيء في الإنسان نفسه بالانضباط اذاتي. كان الإنسان في كامل ذاته كاملاً ومنظماً، إذ كان محرراً من الشهوات الثلاث التي كانت تُخضعه لُمتع الحواس، للتجشع في الخيرات الأرضية، وإثبات الذات في وجه أوامر العقل.
وكانت علامة أُلفته مع الله أن جًعَله الله في الجنة. فعاش فيها «يحرث الأرض ويحرسها» (تك15:2): ليس العمل مشقة، ولكنه إسهام الرجل والمرأة مع الله في إكمال الخليقة المرئية.
هذا التناغم كُلُّه في البرارة الأصلية، الذي هُيئ للإنسان في تصميم الله، سيُفقد بخطيئة أبوينا الأوين.
7- السُّقوط
الله غير متناهي الجودة وجميع أعماله حسنه. ولكن لا أحد ينجو من تجربة الألم، من تجربة شرور الطبيعة- التي تبدو شبه مرتبطة بحدود الخلائق الخاصة- ولا سيّما من مسألة الشر الأدبي. من أين يأتي الشر؟ يقول القديس أوغسطينوس:«لقد فتَّشت من أين يأتي الشر ولم أجد حلاً»، ولن يجد بحثه الخاص الأليم مخرجاً إلا اهتدائه إلى الله الحي. فإن «سر الأثم» (2تس7:2) لن يتضح إلا على نور سر التقوى. إن كشف المحبة الإلهية في المسيح أظهر مدى الشر وفيض النعمة معاً. يجب أن نعرض إذن لمسألة مصدر الشر ونظر إيماننا مُثبتٌ على من هو، وحده، غالب الشر.
الخطيئة موجودة في تاريخ الإنسان: قد تكون من العبث محاولة تجاهلها، أو إلقاء أسماء أخرى على هذه الحقيقة الغامضة. ولكي نحاول فهم ما هي الخطيئة، يجب أولاً معرفة صلة الإنسان العميقة بالله، إذ إنه خارج هذه العلاقة، لا يُكشف عن شر الخطيئة في حقيقة كونه رفضاً ومقاومةً في وجه الله، مع بقائه عبثاً ثقيلاً على حياة الإنسان وعلى التاريخ.
حقيقة الخطيئة، ولا سيّما خطيئة الأصول، لا تتضح إلا على نور الوحي الإلهي. فدون المعرفة التي يعطيناها عن الله لا تمكن معرفة الخطيئة معرفة واضحة، فنكون معرضين لتفسيرها على أنها نقصٌ في النمو فقط، ضعفٌ نفسيّ، ضلالٌ، نتيجةٌ حتميةٌ لبنية اجتماعيةٍ غير ملائمة..إلخ. ففي معرفة قصد الله بالنسبة إلى الإنسان فقط تُفهم الخطيئة على أنها سوء استعمال للحرية التي يمنحها الله للأشخاص المخلوقين، لكي يتمكنوا من محبته ومن محبة بعضهم البعض.
بنمو الوحي اتضحت أيضاً حقيقة الخطيئة. وإن عرَض شعب الله في العهد القديم لآلام الوضع البشري على نور تاريخ السقوط الوارد في سفر التكوين، فإنه لم يكن باستطاعته الوصول إلى المعنى البعيد لهذا التاريخ، الذي ينجلي فقط على نور موت يسوع المسيح وقيامته. يجب معرفة المسيح ينبوعاً للنعمة لمعرفة آدم ينبوعاً للخطيئة. الروح- البارقليط الذي أرسله المسيح المنبعث، هو الذي جاء لكي «يُفحم العالم بشأن الخطيئة» (يو8:16)، إذ كشف عن الذي افتدى من الخطيئة.
عقيدة الخطيئة الأصلية هي على نحوٍ ما «الوجه المناقض» للبشرى الصالحة بأن يسوع هو مخلص جميع البشر، وبأن الجميع بحاجة إلى الخلاص، وبأن الخلاص مقدمٌ للجميع بفضل المسيح. والكنيسة التي عندها فكر المسيح تعلم جيداً أنه لا يمكن المساس بوحي الخطيئة الأصلية بدون الإساءة إلى سر المسيح.
قَصَصُ السقوط (تك3) يعتمد أسلوباً خيالياً، ولكنه يؤكد حدثاً ذا أهمية كبيرة، حدثاً جرى في بدء تاريخ الإنسان. والوحي يُعطينا اليقين الإيماني، ب؟أن تاريخ البشر كله موسومٌ بالخطيئة الأصلية التي اقترفها أبوانا الأولان باختيارهما.
وراء اختيار أبوينا الأولين المعصية صوتٌ مُغرٍ معارضٌ لله يحملهما، حسداً، على السقوط والموت. الكتاب المقدس وتقليد الكنيسة يريان في هذا الكائن ملاكاً ساقطاً يُدعى شيطاناً أو إبليس. الكنيسة تعلم أنه كان أولاً ملاكاً صالحاً من صُنع الله. «الشيطان وسائر الأبالسة خلقهم الله صالحين في طبيعتهم، ولكنهم هم بأنفسهم انقلبوا أشراراً».
الكتاب المقدس يذكر لهؤلاء الملائكة خطيئة. وهذا «السقوط» يقوم باختيارٍ حُر لهؤلاء الأرواح المخلوقة، الذين رفضوا رفضاً باتاً وثابتاً الله وملكوته. وإننا نجد إشارةً إلى هذا العصيان في أقوال المجرب لأبوينا الأولين: «تصيران كآلهة» (تك5:3). الشيطان «خاطئ من البدء» (1يو8:3)، «أبو الكذب» (يو44:8).
إن ميزة الاختيار الثابت للملائكة، لا تقصيرٌ من الرحمة الإلهية غير المتناهية، هي التي جعلت خطيئتهم غير قابلة الغفران. «لا ندامة لهم بعد السقوط، كما أنه لا ندامة للبشر بعد الموت».
الكتاب المقدس يُثبت الأثر المشؤوم للذي يدعوه يسوع «من البدء قتّال الناس» (يو44:8)، والذي حاول أن يحول يسوع نفسه عن الرسالة التي تقبلها من الآب. «ولهذا ظهر ابن الله: لينتقض أعمال إبليس» (1يو8:3). وأفظع نتائج أعماله كان الإغراء الكاذب الذي جرَّ الإنسان إلى عصيان الله.
ولكن مقدرة إبليس ليست غير متناهية. إنه مُجرد خليقة، قديرة لكونها روحاً محضاً، ولكنه لا يخرج عن كونه خليقة: لا يستطيع أن يمنع بناء ملكوت الله. وإن عمِلَ إبليس في العالم بعامل الحقد على الله وملكوته في يسوع المسيح، وإن كان لعمله أضرارٌ جسيمة- على المستوى الروحي أحياناً، وبطريقة غير مباشرة، على المستوى الطبيعي نفسه – لكل إنسان وللمجتمع، فهذا العمل تسمح به العناية الإلهية التي توجه تاريخ الإنسان والعالم بقوةٍ ولينٍ. والسماح الإلهي بهذا العمل الشيطاني سر عظيم، ولكننا «نعلم أن الله في كل شيء يسعى لخير الذين يُحبونه» (رو28:8).
8- الخطيئة الأصلية
الله خلق الإنسان على صورته وأقامه في صداقته. وإذ كان الإنسان خليقة روحانية، فهو لا يستطيع أن يعيش في هذه الصداقة إلا عن طريق الخضوع الحُر لله. وهذا ما يعبر عنه منع الإنسان من أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، «فإنك يوم تأكل منها تموت موتاً» (تك17:2). « شجرة معرفة الخير والشر»(تك17:2) توحي رمزياً بالحد الذي لا يمكن تجاوزه والذي يجب على الإنسان، في كونه مخلوقاً، أن يعترف به اختيارياً وأن يقف عنده بثقة. الإنسان متعلق بالخالق؛ وهو خاضع لنواميس الخليقة، وللنظم الأخلاقية التي تُنظم استعمال الحرّية.
الإنسان، عندما جربه الشيطان، قضى في قلبه على الثقة بخالقه. وعندما أساء استعمال حريته، عصى وصية الله. في هذا قامت خطيئة الإنسان الأولى. وكل خطيئة، في ما بعد، ستكون عصياناً لله، وعدم ثقة في صلاحه.
398- في هذه الخطيئة فضّل الإنسان نفسه على الله، وبذلك عينه حَقَرَ الله: اختار ذاته على الله، على مقتضيات كونه خليقة، ومن ثَمَّ على صالحه الخاص. وإذ كان الإنسان مخلوقاً في حالة قداسة، فقد كان مُعداً لأن «يُؤلهه» الله تأليهاً كاملاً في المجد. وبإغراء من إبليس أراد أن «يكون مثل الله»، ولكن «بدون الله، وليس بحسب الله».
الكتاب المقدس يبين عواقب هذه المعصية الأولى المأسوية. فقد فَقَدَ آدمُ وحواءُ حالاً حالة البرارة الأصلية. لقد خافا من هذا الإله الذي تصوراه على غير صورته، على صورة إلهٍ غيور على امتيازاته.
التناسق الذي كانا عليه، والذي أولتهما إياه حالة البرارة الأصلية، قد تهَّدم؛ وسيطرة قُوى النفس الروحانية على الجسد تحطمت؛ اتحاد الرجل والمرأة أصبح تحت تأثير المشادات؛ وعلاقاتهما ستكون موسومة بسمة الشهوة والسيطرة. التناسق مع الخليقة نُقض: الخليقة المنظورة أصبحت بالنسبة إلى الإنسان غربية ومُعادية، وبسبب الإنسان أخضعت الخليقة لعبودية الفساد. وأخيراً فإن العاقبة التي أُنبئ بها بصراحة لمعصية الإنسان ستتحقق:«سيعود الإنسان إلى الأرض التي منها أُخذ. وهكذا دخل الموت في تاريخ البشرية.
منذ هذه الخطيئة الأولى، غمر العالم «اجتياح» للخطيئة حقيقي: قتل قاين أخاه هابيل؛ الفساد الشامل في عَقِب الخطيئة؛ كذلك في تاريخ إسرائيل، فكثيراً ما تبرز الخطيئة كعصيانٍ خاصٍ لإله العهد، وكمخالفة لشريعة موسى؛ وبعد فداء المسيح أيضاً، تبرز الخطيئة بين المسيحيين على وجوه متعدد. والكتاب المقدس وتقليد الكنيسة لا يزالان يذكران بوجود الخطيئة وشمولها في تاريخ الإنسان:
«ما يكشفه لنا الوحي الإلهي يتفق ومعطيات خبرتنا. فإن تفحص الإنسان قلبه وجد أنه ميال إلى الشر أيضاً، وأنه غارقٌ في غمر من الشرور لا يمكن أن تصدر عن خالقه الصالح. فكثيراً ما يرفض الإنسان أن يرى في الله مبدأه، فينقض النظام الذي يتوجه به إلى غايته القصوى، وينقض في الوقت نفسه كل تناغم في ذاته أو بالنسبة إلى سائر البشر وإلى الخليقة كلها».
جميع البشر متورطون في خطيئة آدم. القديس بولس يُثبت ذلك:«جُعِلَ الكثيرون (أي جميع البشر) خطأةً بمعصية إنسان واحد» (رو19:5): «كما أنها بإنسانٍ واحد دخلت الخطيئة إلى العالم، وبالخطيئة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس لأن جميعهم قد خطئوا ...» (رو12:5). وقد قابل الرسول شمولية الخطيئة والموت بشمولية الخلاص بالمسيح:«كما أنه بزلة واحدٍ كان القضاء على جميع الناس، كذلك ببر واحدٍ (برّ المسيح) يكون لجميع الناس تبرير الحياة» (رو18:5).
لقد اتبعت الكنيسة القديس بولس، فعلمت دائماً أن الشقاء العارم الذي يهبظ البشر، وميلهم إلى الشر وإلى الموت لا يُفهمان بمعزل عن علاقتهم بخطيئة آدم، وبواقع أنه أورثنا خطيئة نُولد حاملين وزرها وهي «موت النفس». وانطلاقا من هذا اليقين العقائدي تمنح الكنيسة المعمودية لمغفرة الخطايا، حتى للأطفال الصغار الذين لم يرتكبوا خطيئة شخصية.
كيف أصبحت خطيئة آدم خطيئة ذريَّته كلها؟ الجنس البشري كله في آدم «كأنه الجسد الواحد لإنسان واحد. وبسبب «وحدة الجنس البشري هذه» جميع البشر داخلون في خطيئة آدم، كما أنهم داخلون جميعاً في تبرير المسيح. ومع ذلك فإن انتقال الخطيئة الأصلية سرٌّ لا نستطيع إدراكه إدراكاً تاماً. إلا أننا نعلم عن طريق الوحي أن آدم نال القداسة والبرارة الأصليتين، لا له وحده، بل للطبيعة البشرية كلها: وبانقياد آدم وحواء للمجرب، ارتكبا خطيئة شخصية، ولكن هذه الخطيئة انتقل أثرها إلى الطبيعة البشرية التي سينقلانها وهما في حالة سقوط] إنها ستنتقل إلى جميع البشر عن طريق التفشي، أي بنقل طبيعة بشرية مجردة من القداسة والبرارة الأصليتين. ولهذا فالخطيئة الأصلية مدعوة «خطيئة» على سبيل المشابهة: إنها خطيئة «موروثة» لا «مُرتكبة»، حالة لا فعل.
وإن كان كل إنسان مخصوصاً بالخطيئة الأصلية، فإنها ليست ذات طابع شخصي عند أيٍ من أبناء آدم. إنها حرمان من القداسة والبرارة الأصليتين، ولكن الطبيعة البشرية ليست مُنفسِدة إنفساداً كاملاً: لقد جُرحت في قواها الطبيعية الخاصة، وأخضعِت للجهل والألم وسلطان الموت، ومالت إلى الخطيئة الأصلية (وهذا الميل إلى الشر يُسمى «شهوة»). والمعمودية بمنحها حياة نعمة المسيح، تمحو الخطيئة الأصلية وتردُّ الإنسان إلى الله، ولكن العواقب في الطبيعة المُضعفة والميالة إلى الشر، تبقى في الإنسان وتدعوه إلى الجهاد الروحي.
إن عقيدة الكنيسة في موضوع انتقال الخطيئة الأصلية اكتسبت دقّةً خصوصاً في القرن الخامس، ولا سيّما مع القديس أوغسطينوس في دفق تأمُلاته ضد البلاجية، وفي القرن السادس عشر في مناهضة البروتستانتية. كان بلاجيوس يعتقد أن الإنسان يستطيع، بقوة إرادته الطبيعية الحرّة، بدون معونة نعمة الله الضرورية، أن يسلك سلوكاً صالحاً أدبياً؛ كان بذلك يحول تأثير خطيئة آدم إلى تأثير مثال سيء. وبعكس ذلك دعاة الإصلاح البروتستانتي الأولون يُعلمون أن الإنسان قد أصبح في عمقه فاسداً وأن حريته أصبحت، بخطيئة الأولين، مُعطلة. كانوا يوجدون ما بين الخطيئة التي ورثها كل إنسان والميل إلى الشر (الشهوة) الذي لا يمكن التغلب عليه. وقد أثبتت الكنيسة موقفها في معنى الوحي المتعلق بالخطيئة الأصلية في مجمع أورانج الثاني، سنة 529، وفي المجمع التريدنتيني، سنة1546.
عقيدة الخطيئة الأصلية- مقرونة بعقيدة فداء المسيح – تُخول نظرة تمييز واضح في شأن موقع الإنسان وعمله في العالم. بخطيئة الأبوين الأولين اكتسب الشيطان شبه سيطرة على الإنسان، وإن لبث هذا حُراً. الخطيئة الأصلية تجرُّ «العبودية تحت سلطان ذاك الذي كان بيده سلطان الموت، أعني إبليس. تجاهل كون الإنسان ذا طبيعة مجروحة، ميالة إلى الشر، يُفسح المجال لأضاليل جسيمة في موضوع التربية، والسياسة، والعمل الإجتماعي، والأخلاق.
عواقب الخطيئة الأصلية، وجميع خطايا البشر الشخصية، تصِمُ العالم، في مجمله، بوصمة الخطيئة، التي يمكن أن يُطلق عليها تعبير القديس يوحنا:«خطيئة العالم» (يو29:1). بهذا التعبير يُشار أيضاً إلى التأثير السلبي الذي تُلحقه بالأشخاص الأحوال المجتمعية، والبُنى الاجتماعية، التي هي ثمرة آثام البشر.
الحالة المأسوية هذه التي يقيم فيها العالم «كله تحت سُلطان الشرير» (1يو19:5) تجعل حياة الإنسان صراعاً:
«يتخلل تاريخ البشر العام صراع عنيف به قوى الظلمة، وقد بدأ مع وجود العالم وسيبقى على حد قول الرب، إلى اليوم الآخر. فعلى الإنسان وقد أُدخِل المعركة، أن يُناضل أبداً لكي يلزم الخير، وهو لن يستطيع تحقيق وحدته الذاتية إلا بعد جهودٍ شديدة، وبمؤازرة النعمة الإلهية».
الله لم يتخلَّ عن الإنسان بعد سقوطه. فهو، بعكس ذلك، يدعوه ويبشره، بطريقة سرية، بالتغلب على الشر وبإقالته من عثرته. هذا المقطع من سفر التكوين سُميّ «مقدمة الإنجيل» لأنه البشرى الأولى بالمسيح الفادي، البشرى بصراعٍ بين الحية والمرأة، وبالانتصار النهائي لنسل هذه المرأة.
التقليد المسيحي يرى في هذا المقطع البشرى بـ «آدم الجديد» الذي، «بطاعته حتى الموت موت الصليب» (في8:2) يُعوض تعويضاً لا يُقاس عن معصية آدم. وإلى ذلك فإن كثيرين من آباء الكنيسة وملافنتها يرون في المرأة التي ورد ذكرها في «مقدمة الإنجيل» أمَّ المسيح، مريم، على أنها «حواء الجديدة». إنها تلك التي كانت الأولى، وبطريقة فريدة، استفادةً من الانتصار على الخطيئة الذي حققه المسيح: لقد صِينت من دنس الخطيئة الأصلية كله، وعلى مدى حياتها الأرضية كها لم ترتكب أيّ نوع من الخطيئة، وذلك بنعمةٍ خاصة من الله.
ولكن لماذا لم يمنع الله الإنسان الأول أن يخطأ؟ يجيب عن ذلك القديس لاون الكبير: «نعمة المسيح التي لا توصف وهبتنا خيراتٍ أعظم من تلك التي كان حسدُ إبليس قد انتزعها منا». والقديس توما الأكويني يقول:«لا شيء يمنع من أن تكون الطبيعة البشرية قد أُعدت لغايةٍ أرفع من الخطيئة. فإن الله يسمح بأن تحصل الشرور لكي يستخرج منها خيراً أعظم. من هنا قول القديس بولس:«حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة» (رو20:5). ومن هنا يقال في بركة شمعة الفصح:«يا للخطيئة السعيدة التي استحقت هكذا فادياً وبمثل هذه العظمة».


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

تأسست مجموعة ال...

تأسست مجموعة الريادة المصرية كمجموعة شركات استثمارية رائدة في التطوير العقاري والمقاوالت والتوريدات...

تعد الأسرة الرك...

تعد الأسرة الركيزة الأساسية التي يتم عليها بناء المجتمع، ويضع عليها أكبر حمله؛ فهي المسؤولة عن اعداد...

شرح مجمع الأصول...

شرح مجمع الأصول الدرس الاول: بسم الله الرحمن الرحيم يسر الادارة العامة للتوجيه والارشاد بالمسجد ال...

هو قانون اعلنه ...

هو قانون اعلنه محمد باي في 9 سبتمبر 1888. اقتداء بالتنظيمات العثمانيه وتحت الضغط الدول الاوروبي وقد ...

موقف الإسلام من...

موقف الإسلام من العولمة وواجب المسلمين في مقاومتها. العولمة ليست أكثر من دعاية مزيفة. القوى العظمى ...

The power sourc...

The power source for the model's electrically analogous cardiovascular system is changing elastance....

الحكم الذاتي ال...

الحكم الذاتي الداخلي (1954-1956) مفاوضات الحكم الذاتي 1954: بعد تصاعد المقاومة المسلحة وضغوط الحركات...

تعد الاستقلالية...

تعد الاستقلالية أحد العناصر الأساسية المميزة للسلطة الوطنية المستقلة لضبط السمعي البصري، عن غيرها م...

1.Develop advan...

1.Develop advanced drone hardware: - Design and build a drone with high-resolution cameras and sp...

يعتبر العمران م...

يعتبر العمران من المسائل المسلم بها في كافة المجتمعات المتحضرة، كما يبين مدى تطورها ومستوى الحضارة ...

ميرا، المتقدمة ...

ميرا، المتقدمة لوظيفة مدرس في مدرسة، قدمت مقابلة تستعرض فيها خلفيتها العملية والتعليمية. تحدثت عن خب...

إن لموضوع الدرا...

إن لموضوع الدراسة أهمية كبيرة ، فهو من المواضيع التي تهدف إلى تسيير المدينة وتنظيم الممارسات العمران...