لخّصلي

ولما بلغ ابن الدمينة شعر مزاحم ، أتي امرأته فقال لها : قد قال فيك هذا الرجل ماقال ، قالت : والله مارأي ذلك مني قط ، قال : فمن أين له العلامات ؟ قالت : وصفهن له النساء ، قال : هيهات والله أن يكون ذلك كذلك . فقال لها : والله لتن لم تمكنيني منه لأقتلنك ، فعلمت أنه سيفعل ذلك ، وقعدله ابن الدمينة وصاحب له ، فجاءها للوعـــــد فدخل فاهوي بيده ليضعها عليها ، فوضعها علي ابن الدمينة ، وقد جعل له حصي في ثوب فضرب بها كبده حتي قتله ، ولم يجدوا به أثر السلاح ، فعلمموا أن ابن الدمينة قتله (1) ثم أتي ابن الدمينة امرأته ، حتي قتلها ، فلما ماتت قال : إذا قعدت على عرنين جارية فوق القطيفة فادعولي بحفاد فبكت بنية له منها ، فضرب بها الأرض فقتلها ، وقال متمثلا : لا تتخذ من كلب سوء جروا (٢) بعد رحلة التطواف على قصائد ومقطوعات الغزل الكيدي في الشعر الأموي التي قام عليها هذا البحث ، يبقي أن يكشف في هذا الحيز أظهر خصائص الغزل الكيدي وأبرزها ومن هذه الخصائص : يمثل البداية الحقيقية لفن أ ـ كثير من الغزل الكيدي الذي جاء في مقدمات قصائد الهجاء والفخر النقائض في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي ، ومن ذلك ما جاء في قصتي قيس بن الخطيم وعبد الله بــــن رواحة ، وقد تقدم الحديث عنهما . والعاطفة لغة الغزل ، وصاحب الغزل الكيدي لا ينطبق عن عاطفة صادقة ، لأن هذا الشعر ليس ترجمانا عن همسات القلوب ، وأشجان النفوس وأحاديثها ، وإنما هو شعر يمتلأ بالغزل الفاضح ويفيض بالبعث بالخصوم ويتخذ الشاعر من هذا الشعر وسيلة إلي اللهو والسياسة ، وهذا مما أقربه الدكتور / طه حسين - في حديثه عن ابن قيس الرقيات وغزله الهجائي فيقول : " هذا الغزل الهجائي ، الذي يكاد ابن قيس الرقيات يكون مبتدعه ، خليق بالعناية ، فهو ولكنه شديد الخطر من جهة أخري ، لأنه يلبس عليك أمر الشاعر ويجعل حكمك علي عاطفته عسيرا جداً ، فانت لاتكاد تتبين أجاد هو في غزله أم لاعب ؟ أمادح هو صاحبته لأنه يحبها أم لأنه يكرهها ؟ وأنت مضطر إلي أن تنظر إلي هذا الغزل من حيث هو فن مجرد من النفسية الصادقة للشاعر ومن عواطفة الحقيقة (1) ومن ذلك شعر عبد بني الحسماس يصور نزوعه إلى المرأة واشتهاءه لها ومنه وبتنا وسادانا إلي علجانة وحقف تهاداه الرياح تهاديا. ويستهين بكل ما يلقاه في سبيل هذا القول مكابرة وهزء بأسياده لا يكف عنهم لسانه ج - الغزل الكيدي ضرب من الغزل التقليدي وليس لونا من الألوان الفنية الجديدة كما يقول الدكتور / طه حسين - وانما الجديد فيه مسماه فقط . ليس علي الشاعر فيه إلا أن يسبك الألفاظ ويغير علي المعاني أو يخترقها أختراقا فنيناً . لأنه لا أصل له في نفسه ، فلا تجد فيه نفســــا متـلمــــة تشكو حرمان طاغياً ولا أملاً ضائعاً ولا حزنا باكيا مثلما يجد في شعر العذريين وفيما تقدم ذكره من النماذج يكشف عن خلوها من هذه الخاصة - د - ضعف الصراع وخفوت حدته في الغزل الكيدي وهذه نتيجة طبيعية لأن قائله لم يصدره عن عاطفة صادقة وإنما صادر عن رغبة جامحة تنطلق من أعماقة كما تنطلق السوام ولأن الغرض منه التشهير والكيد بخلاف الغزل العذري الذي يبرز من قابلة الصراع العنيف الذي يملأ نفوس العذريين بالحيرة والقلق والأضطراب يقول قيس أبن الملوح مصورا هذا الصراع بين اليأس الذي يميته والأمل الذي يحييه : القصصي ومن تلك القصائد قصيدة ابن قيس الرقيات التي تعرضت له فيها أم البنيين وفيها يقول (۳) : أصحوت عن أم البنيين وذكرهـــــــــا وعنائهــــــــــا وهجرتها هجر أمريء لم يقل صفو صفائها - وأبن الرقيات لم يكتف بالغزل المألوف يذكر فيه المرأة التي يريد أن يهجو أهلها كما كان يفعل غيره من شعراء هذا الغزل وإنما يتخيل القصص وينسج الأخبار فيقصها في شعره مسرفا في تفاصيلها اسرافا شديدا كما في قصيدته التي ذكر فيها أم البنيين ذكرا مفصلاً تفصيلا من شأنه أن يؤذي ويسيء ولكنه إحطاط لنفسه ولأم البنييين فزعم أن هذه القصة الطويلة المفصلة أنما وقعت له في المنام فكرامة البنيين موفورة وهي خليقة أن تتيه بهذا الجمال الذي احدث في نفس الشاعر ما احدث حتى ملك عليه يومه ونومه وإذ فليس على الشاعر نفسه لوم إذا أغرق في الرقاد (1) والقصيدة التي ذكر فيها أم البنيين وجعلها مقدمه لمدح مصعب ابن الزبير يقترب الأسلوب وفيها من البناء الدرامي ، وتظهر فيها روح القصصي ، وقد بدأها الشاعر بقوله : (٢) ألا هزأت بنا قرشيته يهتز موكبها رات بي ثيبة في الرأس مني ما أغيبها. و – سهولة الألفاظ ورقتها ونأيها عن الغرابة ، مع قوة الأسر ، كذلك الأمر بالنسبة للجملة الشعرية ، لانعدم فيها جودة الصنعة وحسن السبك وجمال الأسلوب في الوقت الذي اقتربت فيه الجملة الشعرية من لغة الكلام العادية وهذا واضح في كثير من شعر ابن قيس الرقيات في أم البنين

ولما بلغ ابن الدمينة شعر مزاحم ، أتي امرأته فقال لها : قد قال فيك هذا الرجل ماقال ، وقد بلغك ، قالت : والله مارأي ذلك مني قط ، قال : فمن أين له العلامات ؟ قالت : وصفهن له النساء ، قال : هيهات والله أن يكون ذلك كذلك ... ثم أعاد عليها القول : ، وأعادت عليه الحلف ، أن ذلك مما وصفه له النساء ، فقال لها : والله لتن لم تمكنيني منه لأقتلنك ، فعلمت أنه سيفعل ذلك ، فبعثت إليه وواعدته ليلا ، وقعدله ابن الدمينة وصاحب له ، فجاءها للوعـــــد فدخل فاهوي بيده ليضعها عليها ، فوضعها علي ابن الدمينة ، فوثب عليه هو وصاحبه ، وقد جعل له حصي في ثوب فضرب بها كبده حتي قتله ، وأخرجه فطرحه ميتا ، فجاء أهله فاحتملوه ، ولم

يجدوا به أثر السلاح ، فعلمموا أن ابن الدمينة قتله (1) ثم أتي ابن الدمينة امرأته ، فطرح علي وجهها قطيفة ، ثم جلس عليها ، حتي قتلها ، فلما

ماتت قال :

إذا قعدت على عرنين جارية فوق القطيفة فادعولي بحفاد فبكت بنية له منها ، فضرب بها الأرض فقتلها ، وقال متمثلا : لا تتخذ من كلب سوء جروا (٢)

خامسا : السمات الفنية للغزل الكيدي :

بعد رحلة التطواف على قصائد ومقطوعات الغزل الكيدي في الشعر الأموي التي قام

عليها هذا البحث ، يبقي أن يكشف في هذا الحيز أظهر خصائص الغزل الكيدي وأبرزها ومن هذه الخصائص : يمثل البداية الحقيقية لفن

أ ـ كثير من الغزل الكيدي الذي جاء في مقدمات قصائد الهجاء والفخر النقائض في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي ، ففي هذه البيئة الحافلة بالعصبية القبلية والمعارك والأيام تنفست النقيضة أنفاسها الأولي. ومن ذلك ما جاء في قصتي قيس بن الخطيم وعبد الله بــــن

رواحة ، وقد تقدم الحديث عنهما . ب - خلو هذا الغزل من العاطفة ، والعاطفة لغة الغزل ، وصاحب الغزل الكيدي لا ينطبق عن عاطفة صادقة ، لأن هذا الشعر ليس ترجمانا عن همسات القلوب ، وأشجان النفوس وأحاديثها ،

وإنما هو شعر يمتلأ بالغزل الفاضح ويفيض بالبعث بالخصوم ويتخذ الشاعر من هذا الشعر وسيلة

إلي

اللهو والسياسة ، فيذكر نساء خصومه بما يحسن وبما لا يحسن

وهذا مما أقربه الدكتور / طه حسين - في حديثه عن ابن قيس الرقيات وغزله الهجائي فيقول : " هذا الغزل الهجائي ، الذي يكاد ابن قيس الرقيات يكون مبتدعه ، خليق بالعناية ، فهو

لون من الألوان الجديدة التي استحدثها الشعراء المسلمون ، ولكنه شديد الخطر من جهة أخري ، لأنه يلبس عليك أمر الشاعر ويجعل حكمك علي عاطفته عسيرا جداً ، فانت لاتكاد تتبين أجاد هو في غزله أم لاعب ؟ أمادح هو صاحبته لأنه يحبها أم لأنه يكرهها ؟ وأنت مضطر إلي أن تنظر إلي

هذا الغزل من حيث هو فن مجرد من النفسية الصادقة للشاعر ومن عواطفة الحقيقة (1)

ومن ذلك شعر عبد بني الحسماس يصور نزوعه إلى المرأة واشتهاءه لها ومنه وبتنا وسادانا إلي علجانة وحقف تهاداه الرياح تهاديا. وسحيم لا يقول ذلك الشعر إلا انتقاما من أسياده . ويستهين بكل ما يلقاه في سبيل هذا القول مكابرة وهزء بأسياده لا يكف عنهم لسانه

ج - الغزل الكيدي ضرب من الغزل التقليدي وليس لونا من الألوان الفنية الجديدة كما يقول الدكتور / طه حسين - وانما الجديد فيه مسماه فقط . ليس علي الشاعر فيه إلا أن يسبك الألفاظ ويغير علي المعاني أو يخترقها أختراقا فنيناً . لأنه لا أصل له في نفسه ، فلا تجد فيه نفســــا متـلمــــة تشكو حرمان طاغياً ولا أملاً ضائعاً ولا حزنا باكيا مثلما يجد في شعر العذريين وفيما تقدم ذكره

من النماذج يكشف عن خلوها من هذه الخاصة - د - ضعف الصراع وخفوت حدته في الغزل الكيدي وهذه نتيجة طبيعية لأن قائله لم يصدره عن عاطفة صادقة وإنما صادر عن رغبة جامحة تنطلق من أعماقة كما تنطلق السوام ولأن الغرض منه التشهير والكيد بخلاف الغزل العذري الذي يبرز من قابلة الصراع العنيف الذي يملأ نفوس

العذريين بالحيرة والقلق والأضطراب يقول قيس أبن الملوح مصورا هذا الصراع بين اليأس الذي يميته والأمل الذي يحييه :

ألقي من اليأس تارات فتقتلني وللرجاء بشاشات فتحييني هـ – بعض قصائد الغزل الكيدي تقترب في أسلوب من البناء الدرامي وتبدو فيها روح الشاعر

القصصي ومن تلك القصائد قصيدة ابن قيس الرقيات التي تعرضت له فيها أم البنيين وفيها يقول (۳) :

أصحوت عن أم البنيين وذكرهـــــــــا وعنائهــــــــــا وهجرتها هجر أمريء لم يقل صفو صفائها -

وأبن الرقيات لم يكتف بالغزل المألوف يذكر فيه المرأة التي يريد أن يهجو أهلها كما كان يفعل غيره من شعراء هذا الغزل وإنما يتخيل القصص وينسج الأخبار فيقصها في شعره مسرفا في تفاصيلها اسرافا شديدا كما في قصيدته التي ذكر فيها أم البنيين ذكرا مفصلاً تفصيلا من شأنه أن يؤذي ويسيء ولكنه إحطاط لنفسه ولأم البنييين فزعم أن هذه القصة الطويلة المفصلة أنما وقعت له في المنام فكرامة البنيين موفورة وهي خليقة أن تتيه بهذا الجمال الذي احدث في نفس الشاعر ما احدث حتى ملك عليه يومه ونومه وإذ فليس على الشاعر نفسه لوم إذا أغرق في الرقاد (1)

والقصيدة التي ذكر فيها أم البنيين وجعلها مقدمه لمدح مصعب ابن الزبير يقترب الأسلوب وفيها من البناء الدرامي ، وتظهر فيها روح القصصي ، وقد بدأها الشاعر بقوله : (٢) ألا هزأت بنا قرشيته يهتز موكبها رات بي ثيبة في الرأس مني ما أغيبها. و – سهولة الألفاظ ورقتها ونأيها عن الغرابة ، مع قوة الأسر ، كذلك الأمر بالنسبة للجملة الشعرية ، لانعدم فيها جودة الصنعة وحسن السبك وجمال الأسلوب في الوقت الذي اقتربت فيه الجملة الشعرية من لغة الكلام العادية وهذا واضح في كثير من شعر ابن قيس الرقيات في أم البنين

كقوله (۱) :

وحلا في اللحم مئزره عبقا بالطيب مختلفا قد تمنينا زيارته لو أتانا الزور منسرقا

ويشيد الدكتور / طه حسين بغزل ابن قيس الرقيات فيقول : (٢) " ماذا تريد أن أقول لك في هذا الشعر ؟ وهل تعرف أعذب منه لفظا وأجود منه معني وأخف منه روحاً

ز – قلة المحسنات البديعية ، لم يأبه الشاعر في هذا الضرب من الغزل كثيراً بشيء مــــن هــذه المحسنات ، ولم يتكأ عليها طويلا في تزيين أسلوبه ، أو تحسين إيقاع ألفاظه ، لأنه شعر منطلق ، لم يعول قائله علي الموسيقي الداخلية ، باستثناء تشابه التقفية بحيث تكون محطات صوتيه تصنع في الكلام نوعا من التوازن الموسيقي ، وهو كثير لوروده في الغزل الكيدي وقل أن تخلو منه قصيدة وقد يلجأ بعض شعرائه أحيانا إلي الجناس الاشتقاقي لتوكيد المعني وتقوية الموسيقي كما في قول ابن قيس الرقيات (۳) :

وهجرتها هجر امريء لم يقل صفو صفائها.

وقول العرجي :

في الحج إن حجت وماذا مني واهله إن هي لم تحجج أما الموسيقي الخارجية التي عمادها عروض الخليل بن أحمد وبحور الشعر العربي ، اعتمد الشعراء في كثير علي البحور ذات الأوزان المجزوءة وخاصة ابن قيس الرقيات ، وكان يعمد أحيانا إلي التدوير في بعض قصائده ، للتوزيع الموسيقي وتخفيف رتابه الأشطر وأخيرا : ينم الغزل الكيدي الذي تناوله هذا البحث عن نفسيه قائله الذي يستبطن خصومه لدودة ، أو حرمانا حارقا ، وقد جسدهما الشعراء في الرؤي أو أحلام اليقظة صوراً متكاملة ، تشع قبسا كشافا لمكنونات النفس في تعبير فطري واستمداد الشاعر مادة شعره من الحديث عن المرأة في هذا الضرب من الغزل ، ليسثير حفاظ الرجال ، وعلا نفوسهم حنقا وغيظا ، ولإدراكه لمكانه المرأة عند العرب ، وشدة الغيرة

عليها في ذلك الوقت . ولذا كان الغزل الكيدي على صلة مباشرة بأحداث العصر التي تقع في محيط ، . ويقوي أثر هذا الدافع بمقدار تحسس الحاكم والمجتمع به ، وتقل أهميته في البيئات المنطلقة ، ومن ثم نري أثره لا يجاوز مطلع العصر العباسي ، وهو أقوي في البوادي والقبائل منه مجتمعات المدن

المتفدقة