لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (77%)

تهادى ماثيو كُتبيرت قائدًا فرسه البنية التي خبت بتؤدة على طول الأميال الثمانية المؤدية إلى بلدة برايت ريفر. يمتد تارة بين الأبنية الريفية الأنيقة، تتخلله بين فينة وأخرى أشجار التنوب العطرية، ويمتد تارة أخرى بين المنحدرات المتألقة ببراعم الخوخ البري الغضة. كان الهواء عليلًا يفوح بعبق بساتين التفاح، وكانت المروج تشق عباب المدى ماضية نحو ضباب الأفق بينما غردت العصافير الصغيرة كما لو أن النهار ما كان إلا النهار الصيفي الوحيد في
ذلك العام. استمتع ماثيو برحلته على طريقته الخاصة، إلا أثناء لحظات مصادفته للنساء في الطريق واضطراره إلى الإيماء لهن برأسه محييا، ففي جزيرة برنس إدوارد يُفترض منك إلقاء التحية على كل من تصادفه في طريقك دون استثناء سواء كنت على معرفة سابقة به أم لم تكن. كان ماثيو يفزع من جميع النساء عدا ماريلا والسيدة ريتشيل ؛ ولطالما ألح عليه شعور مزعج بأن تلك المخلوقات الغامضة كانت تهزأ منه في سرها، أخرق المظهر ، ذا شعر رمادي يصل إلى حدود كتفيه المنحنيين، كان في العشرين من العمر. وفي الحقيقة، لم يكن مظهر ماثيو وهو في العشرين من العمر يختلف كثيرا عما بدا عليه في الستين باستثناء افتقاره إلى القليل من الشيب. بلغ ماثيو محطة برايت ريفر لكنه لم يجد ما يدل على وصول أي قطار، فظن أنه وصل مبكرًا جدًّا ؛ لذا عقل فرسه في باحة فندق برايت ريفر المتواضع، واتجه نحو مبنى محطة القطار. كان رصيف المحطة الطويل شبه مقفر، لا تستبين العين فيه إلا مخلوقا وحيدًا يجلس على كومة من الحصى عند نهاية الرصيف، وعندما مر ماثيو بالقرب من ذلك المخلوق ولحظ أنه كان فتاة حثّ خطاه مبتعدا عنها بأقصى سرعته دون أن ينظر إليها، ولو نظر لما أعجزته الملاحظة عن رؤية الترقب المتوتر والأمل في مسلكها وتعابيرها. كانت تجلس هناك تنتظر حدثًا ما أو شخصا ما. وبما أن الجلوس والانتظار كانا جُل ما تستطيع القيام به في ذلك الوقت، جلست وانتظرت بكل ما لديها من طاقة احتمال. صادف ماثيو مسؤول المحطة وهو يغلق مكتب التذاكر تمهيدًا لعودته إلى البيت للعشاء، وسأله عما إذا كان قطار الساعة الخامسة
والنصف سيصل قريبًا. «وصل قطار الساعة الخامسة والنصف وغادر منذ نصف ساعة، » أجاب ذلك المأمور المستعجل. ولكن يوجد هنا مسافر يخصك تم إنزاله من القطار بنت صغيرة، ها هي تجلس هناك على الحصى، لقد طلبت منها الذهاب إلى غرفة انتظار السيدات، ولكنها أعلمتني برزانة أنها تفضل البقاء خارجًا. إنها بنت غريبة الأطوار حقا»
«أنا لا أتوقع حضور بنت » قال ماثيو بدهشة. « لقد جئت من أجل صبي، ويجب أن يكون هنا، فمن المتفق عليه أن تجلبه لي السيدة
أليكسندر سبنسر من نوفا سكوتيا. صفر مسؤول المحطة تعجبًا، وقال: «لا بد من وجود خطأ ما فالسيدة سبنسر نزلت من القطار بصحبة تلك الطفلة وسلمتها لي وقالت إنك وأختك ستأخذانها من ملجأ للأيتام، وإنك سوف تحضر لأخذها عما قريب، هذا كل ما أعرفه عن الموضوع وليس لدي في هذا الجوار أيتام آخرون أخفيهم عنك. «لست قادرًا على فهم شيء، قال ماثيو بنبرة يائسة، متمنيا وجود
«أرى أنه من الأفضل لك استجواب الطفلة ، ولعله ما عاد لدى أصحاب الملجأ نوع من الصبية
الذي تريده. غادر الموظف الجائع المكان بسرعة، وبقى ماثيو التعيس وحده
لينجزما هو أصعب بالنسبة إليه من تحدّي أسد في عرينه. السير قدما
فتاة غريبة. فتاة يتيمة. ومحاسبتها لأنها لم تكن صبيًا. كانت الطفلة تراقبه منذ مروره السابق من أمامها، وكانت تصوّب عينيها عليه بينما سلك طريقه نحوها. لكن ماثيو لم يكن ينظر إليها، ولو فعل لما استطاع أن يستبين شكلها، ومع ذلك فقد كان بإمكان أي
إنسان عادي أن يلاحظ التالي:
طفلة في حوالي الحادية عشرة من العمر، بالغ الضيق والقصر من القطن السميك ذي البياض المائل للصفرة، تعتمر قبعة بحارة ذات لون بني باهت، تتدلى تحتها على امتداد الظهر ضفيرتان سميكتان حمراوان كانت ذات وجه صغير، نحيل، أبيض ومنمش، وذات فم واسع وعينين نجلاوين تبدوان في بعض الأضواء والأمزجة خضرواين وتميلان في أضواء وأمزجة أخرى نحو اللون
الرمادي. أما إذا كان الناظر إليها ذا بصيرة أبعد من المراقب العادي فبإمكانه أن يرى أنها كانت ذات ذقن دقيقة واضحة التفاصيل، وأن عينيها النجلاوين مفعمتان بالطاقة والحيوية، وأن جبهتها عريضة وممتلئة ، وكان يمكن لهذا الناظر البصير الحاذق أن يستنتج بكل بساطة أنّ الروح التي تسكن جسم تلك الأنثى الصغيرة الشريدة لم تكن بالروح العادية؛ تلك الفتاة كان ماثيو الخجول خائفًا منها إلى حد مثير للسخرية. لحسن الحظ، نجا ماثيو من كارثة مباردتها بالكلام، لأن الطفلة
حتى وقفت قابضة بيد هزيلة
سمراء على مسكة خُرْج رثّ قديم الطراز ، بينما مدت يدها الأخرى إليه لتصافحه. وأخيرًا، وثق أني لن أشعر بذرة من الخوف. صافح ماثيو اليد الصغيرة الهزيلة بارتباك، وهناك في تلك اللحظة توصل إلى حل يرضيه فما دام لم يملك الجرأة على إخبار هذه الطفلة ذات العينين المتوهجتين بأن هناك خطأ ما ، وفي جميع الأحوال من المستحيل تركها في برايت ريفر، ومهما كانت فداحة الخطأ الذي حدث فإنه يمكن تأجيل جميع التساؤلات والاستفسارات إلى أن يرجع إلى المرتفعات الخضراء مصحوبا بالسلامة. «أنا متأسف لأني تأخرت عليك. فالحصان في الباحة هناك، »«أوه، » ردّت الطفلة بمرح. «إنه ليس ثقيلًا. لكنه ليس ثقيلًا. وإذا لم يُحمل بطريقة معينة فإن مسكته قد تنقطع، لذلك يُستحسن أن أحمله أنا لأني أعرف كيفية التعامل معه. أوه، يسعدني قدومك حقًا ، رغم أنه كان من الرائع أن أنام بين أغصان شجرة کرز بري . أظننا سنستقل العربة لمسافة طويلة ، أليس كذلك ؟ علمت من السيدة سبنسر أنها ثمانية أميال، وهذا يسرني لأني أحب السفر، أوه من الرائع أن أنتمي إليكم وأعيش معكم، فأنا لم يسبق لي الانتماء إلى أحد انتماءً حقيقيًا، ولكن الملجأ كان أسوأ مكان ذهبت إليه. رغم أنه لم يمض على وجودي فيه سوى أربعة أشهر، إلا أن هذه المدة تكفيني. طبعا لا أظن أنك كنت يوما يتيمًا في ملجأ، ولذلك من الصعب عليك معرفة ما أعنيه. إنه أسوأ من أي شيء يمكنك تخيله. ألا تظن أنه من السهل على المرء أن يكون سيئًا دون أن يشعر بذلك ؟ أنا في الحقيقة لا أعني أصحاب الملجأ لأنهم كانوا أناسًا طيبين، ولكن الملجأ نفسه لا يوجد فيه أي مجال يسمح للخيال بالانطلاق، وكل ما كنت أستطيع فعله هو تخيل أشياء تتعلق بالأيتام الآخرين، وكان من الممتع فعلا تخيل الكثير من الأمور عنهم؛ وأنها قد اختطفت من أهلها في طفولتها على يد ممرضة قاسية ماتت قبل أن تعترف. لقد اعتدت على البقاء مستيقظة في الليل لأتخيل أشياء كهذه لأني ما كنت أملك متسعا من الوقت في النهار. وأعتقد أني نحيلة لهذا السبب بل أظنني هزيلة جدًّا ، ألست كذلك ؟ فعظامي لا يكسوها أي
لحم أبدا. هنا توقفت رفيقة ماثيو عن الكلام لأن نَفَسَها كان قد انقطع، ولأنهما كانا قد وصلا إلى العربة، ولم تنبس ببنت شفة إلى أن غادرا القرية وانحدرا من تلة عالية صغيرة نحو الطريق المشقوق بعمق في التربة الناعمة، والذي انحنت على جانبيه براعم أشجار الكرز البري والبتولا
البيضاء الغضة، متدلية على مسافة بضعة أقدام من رأسيهما. مدت الطفلة يدها وكسرت غصنًا من أغصان شجر البرقوق البري التي احتكت بحافة العربة. ثم سألته: «أليس هذا المنظر جميلا ؟ تُرى بم توحي لك تلك الشجرة ذات البراعم البيضاء المنحنية على ضفة
الطريق ؟»
«هه، لا أعرف حقا، أجاب ماثيو. «عجبا! عروس طبعًا. عروس ترفل بثوب أبيض وتتشح بوشاح
ورغم أني لم أرعروسًا من قبل ، أستطيع تخيل ما يمكن
أن تكون عليه العروس. أنا أعشق الملابس الجميلة رغم أني
على ما أذكر ، لم أحصل في حياتي على أي ثوب جميل، لكن ألا تظن أن
متى شئت تخيل نفسي بثياب فائقة الروعة، البغيض، فما رأيك أنت؟ وعندما استقلينا القطار شعرت وكأن جميع الناس كانوا ينظرون إلي بإشفاق ولكني حلّقت مع خيالي ورأيتني أرتدي ثوبًا من الحرير الأزرق الفاتح لا يضاهي جماله شيء. هذا لأنك عندما تتخيل شيئًا، يجب أن تتخيل كما يستحق التخيل. كما رأيتني أعتمر قبعة عريضة تكللها الأزهار والريش المتطاير ، وأضع ساعة ذهبية وقفازات وجزمة يليقان بالأطفال، وسرعان ما شعرت بالابتهاج مما جعلني أستمتع برحلتي إلى الجزيرة استمتاعا كاملًا، وعندما استقلينا المركب لم أصب بالدوار، وكذلك السيدة سبنسر رغم أنها عادة تصاب بدوار البحر، وقالت لي إنها لم تجد متسعًا من الوقت لتصاب بالدوار وهي تراقبني خشية أن أقع في الماء، لكن إذا كان تنقلي في أرجاء المركب قد منعها من أن تصاب بالدوار أفلم يكن ذلك لصالحها ؟ لقد أردت رؤية كل شيء يمكن للمرء أن يراه على متن ذلك المركب لأني لا أعرف إذا كانت ستسنح لي فرصة أخرى لذلك. أوه، انظر، هناك المزيد من براعم شجر الكرز. إن هذه الجزرة تتفوق على جميع الأمكنة الأخرى بما فيها من البراعم وأنا أحبها منذ الآن، وكم أشعر بالسعادة لأني سأعيش هنا، وكثيرا ما حلمت بالعيش فيها، لكني لم أتوقع أبدًا تحقق هذا الحلم. عندما وصل بنا القطار إلى مدينة تشارولت تاون وبدأت تلك الطرقات الحمراء تومض خلفنا أثناء تجاوزنا لها، إني قد سألتها حتى تلك اللحظة آلاف الأسئلة. في الحقيقة أظنني فعلت ذلك، ولكن كيف لك أن تعرف ما تريد معرفته عن الأشياء إذا لم تطرح أسئلة حولها ؟ والآن، ما الذي يجعل الطرقات حمراء ؟
«هه، لا أعرف حقا، هذا واحد من الأمور التي سأحاول معرفتها يوما ما، من الرائع أن يفكر المرء بكل تلك الأشياء التي يريد استكشاف كنهها ؟ بل إن هذا يجعلني أشعر بالسرور لأنني على قيد الحياة، فهذا العالم هو عالم مثير للاهتمام حقًا، ولو كنا نعرف كل شيء عن كل شيء فإن أهميته ستتضاءل إلى نصف ما هي عليه الآن، ولكن أتراني أثرثر كثيرًا ؟ إن الناس يقولون لي ذلك دائما، سأتوقف عن الكلام حالا، كان ماثيو مندهشا من نفسه لاستمتاعه بهذه الرفقة، كان مثل
معظم الأشخاص الانطوائيين يحب صحبة الناس الثرثارين عندما يتبرعون بالكلام دون أن يستمتع بصحبة بنت صغيرة. ولكنه كان يعتبر الفتيات الصغيرات أسوأ من النساء، ولطالما مقت الطريقة الخجولة التي يتجاوزنه بها في الطريق، شعر أنه يستسيغ ثرثرتها، «آه، لا ، يمكنك التكلم قدر ما تشائين، أنا لا أمانع . «أوه، إنّه من المريح أن يتكلم المرء عندما يرغب، وأن لا يُقال له إن الأطفال يجب أن يراهم الناس دون أن يسمعوهم، هذا ما كان يُقال لي ملايين المرات إن حدث وتكلمت ذات مرة، عبارات كبيرة ؟»
«نعم، «قالت السيدة سبنسر: إن لساني معلّق من وسطه، ولكنه ليس
إنه مثبت بإحكام عند نهاية حلقي ، كما قالت: إن منطقة
أملاكك تدعى المرتفعات الخضراء، وقد سألتها عن كل شيء يتعلق
بها. فأنا أحب الأشجار، لم يكن في الملجأ أشجار تستحق الذكر
إلا بضع شجيرات ضئيلات ذابلات عند مدخل الملجأ من الخارج
وكانت تبدو وكأنها هي أيضا يتيمة، وكان النظر إليها يحفّز عندي الرغبة بالبكاء، ويؤنسك جدول قريب وتغني العصافير على أغصانك، ولكنك هنا لا تستطيعين النمو، ألا ترى معي أن الانسان يصبح مولعًا كثيرًا بمثل هذه
الأشياء ؟ ترى أيوجد أي جدول بالقرب من المرتفعات الخضراء ؟
نعم هنالك جدول يجري تحت الدارة تماما. «يا للروعة ، كان السكن قرب جدول واحدًا من أحلامي، فالأحلام لا تتحقق دائما، والآن فقط أشعر أن سعادتي أصبحت شبه مكتملة. شبه مكتملة لأني. هزت الطفلة رأسها نافضة عن كتفها النحيل واحدة من جديلتيها
الطويلتين اللامعتين، وأمسكتها رافعة إياها باتجاه عيني ماثيو ، لم يكن
«إنه أحمر، أليس كذلك؟» قال. أفلتت الفتاة الجديلة من يدها وزفرت زفرة بدت وكأنها صادرة من أعمق أعماقها، وأنها قد أطلقت معها أحزان العصور كلها. «نعم إنه أحمر، » قالت باستسلام. ها أنت تعرف الآن لماذا لا يمكن أن تكتمل سعادتي، ولا أحد لديه شعر أحمر يمكن أن يكون كذلك. إن عيوبي الأخرى لا تهمني كثيرًا، أعني النمش والعينين الخضراوين والهزال، أستطيع بكل سهولة تصوّر نفسي ببشرة وردية نقية وعينين بنفسجيتين حالمتين، ولكني لا أستطيع تصوّر هذا الشعر الأحمر على غير ما هو عليه، ومع أني أبذل جهدي وأحاول إقناع نفسي بقولي: إن شعري الآن فاحم السواد. أسود مثل جناح غراب، أعرف دائمًا أنه أحمر، وهذا يحطم قلبي، لقد قرأت ذات مرة في إحدى الروايات عن فتاة كان لديها حزن أبدي، ولكنه لم يكن بسبب الشعر الأحمر. أتعرف ما هو الجبين المرمري، لم أستطع أبدًا أن أعرف ما هو أيمكن أن تخبرني
عن معناه؟»
أخشى أني لا أستطيع، أجاب ماثيو الذي بدأ
سبق له أن شعر بمثله ذات مرة في ريعان الطفولة
الطائشة عندما أغواه صبي آخر على ركوب أرجوحة دوامة الخيل في
أسبق لك أن تخيّلت كيف يمكن أن يشعر المرء
إذا كان بديع الجمال ؟»في الحقيقة، » اعترف ماثيو ببراءة. ولا أنا أيضا، ولا يمكنني أن أقرّر أبدًا ، ولكن هذا لا يشكل فارقًا مهما ، لأني على ما يبدو لن أتحلى بأية صفة من هذه الصفات، ومن المؤكد أني لن أكون ملائكية الخصال، تقول السيدة سبنسر. أوه يا
سيد كتبيرت ، بل كانا بكل بساطة قد وصلا إلى منعطف طريق، ووجدا نفسيهما أمام
طريق أفينيو المشجر. كان الطريق المشجر، الذي يطلق عليه أهل قرية نيوبريدج اسم
أفينيو، تكلله قناطر من أشجار
التفاح الضخمة التي يكتظ بها المكان، والتي زرعها منذ زمن مزراع
غريب الأطوار، وقد تضرج الجو تحتها
بظلال الشفق الأرجوانية، بينما شعت السماء عند نهاية الطريق
موشاة بألوان الغروب، وكأنها نافذة مستديرة مخرمة لمبنى ما، تقع
عند نهاية الممر أصاب جمال هذا المشهد الطفلة بالخرس، فتراجعت مستندة على مقعد العربة، وقد تشابكت يداها النحيلتان أمامها، وانتصب وجهها بانتشاء متطلعا إلى الأعلى نحو ذلك السناء الأبيض. لم تتحرك أو تتكلم حتى بعد أن تجاوزا المكان، واتجها نزولا على طول المنحدر نحو نيوبريد، وبقيت مستغرقة في سكينتها تحملق باتجاه الغروب بعينين شهدتا للتوّرؤى احتشدت بروعة في ذلك المكان الباهر، القرية الصغيرة الصاخبة التي نبحت فيها الكلاب عليهما، وصاح الصبية، واسترقت الوجوه الفضولية النظر إليهما عبر النوافذ، وظلت الطفلة صامتة حتى بعد مضيهما قدمًا على طول ما يقارب ثلاثة أميال، كان يمكنها أن تلتزم الصمت، كان هذا واضحًا، بل كان يمكنها أن تصمت
استفاقت الطفلة من أحلام يقظتها، «أوه يا سيد كتبيرت» ، همست. «ذلك المكان الذي كنا فيه. «ها، لا بد وأنك تقصدين الطريق المشجّر أفينيو» ، إنه مكان لطيف نوعا ما. «لطيف ؟ أوه، لا تبدو كلمة لطيف الكلمة المناسبة هنا، كلمة جميل لا تفي بالغرض. رائع. إنه الشيء الوحيد الذي رأيته، والذي لا يمكن أن يضيف عليه الخيال أي شيء. ووضعت يدًا على قلبها. غريب عجيب ولكنه كان وجعًا محببًا. أسبق لك أن شعرت بمثل هذا النوع من الوجع يا سيد كتبيرت؟»
في الواقع، وذلك كلما رأيت شيئًا ملكي الجمال
كان يجب أن يسموه. دعني أفكر. نعم، درب البهجة الأبيض، أليس هذا بالاسم الخيالي الجميل ؟ عندما
لا يعجبني اسم مكان أو شخص أخترع له اسمًا جديدًا، وأتخيله دائمًا
بالاسم الذي اخترعته له. ولكني تخيلتها دائمًا باسم روزالينا دو فير، يمكن للناس أن يطلقوا
فصاعدًا: درب البهجة الأبيض، أحقًا لم يبق بيننا وبين الوصول إلى
البيت سوى ميل آخر ؟ أنا سعيدة وحزينة في نفس الوقت. قد تأتي في المستقبل أشياء أكثر إمتاعا منها، ولكنك لا يمكنك أبدًا أن تكون متأكدًا من ذلك، بل غالبًا ما يكون الآتي أقل إمتاعًا. هذا، على كل حال ما عرفته من تجاربي. فأنا على ما أذكر لم يكن لي بيت حقيقي من قبل، ومجرد التفكير بأني سأعيش في بيت حقيقي يسبب لي ذلك الوجع المحبب مرة أخرى، أليس هذا لطيفا ؟»
وصلت العربة إلى قمة تلة، يقطعها عند منتصفها جسر ممتدّ فوقها، ومن بدايتها إلى طرفها الأقصى الذي يفصله عن الخليج الداكن الزرقة حزام من تلال الرمل الكهرماني اللون، سطع الماء فيها هالةً من الظلال الوجدانية المضرجة بالصفرة الغامقة والحمرة الوردية والخضرة الأثيرية، والمتداخلة مع ألوان أخرى من تلك المحيّرة التي لم يتم العثور على أسماء لها أبدًا. ومن على ضفّة البركة انحنت بين مكان وآخر أشجار البرقوق، كل شجرة كأنها صبية ترفل برداء أبيض، كانت البركة تمتد بعد الجسر متغلغلة في الأحراش المحفوفة بأشجار التنوب والقيقب؛ لتهجع بخفاء تحت ظلال الأغصان المتمايلة، وإلى الوراء عند المرتفع انبثق بستان تفاح يطل عليه منزل رمادي صغير، لم أحب هذا الاسم أيضًا، سأدعوها . سأدعوها بحيرة المياه البراقة. هذا هو الاسم المناسب لها، أنا أعرف بسبب الرعشة التي أشعر بها، فعندما أُوفق في العثور على اسم مناسب للشيء الذي أريد تسميته أصاب بهذه الرعشة، حاول ماثيو اجترار أفكاره. «نعم، أعتقد ذلك، أنا عادة أشعر بالارتعاش عندما أرى تلك
اليرقانات البيضاء في غرسة القثاء، وأنا في الحقيقة أكره رؤيتها. «أوه، لا أعتقد أن هذا هو نفس النوع من الارتعاش الذي أعنيه، أليس كذلك؟ ولكن لماذا
«أظن لأن السيد باري يعيش هناك في ذلك المنزل، واسم منطقته
منحدر البستان، ولولا تلك الأجمة الكبيرة خلفه لكان بإمكانك رؤية
المرتفعات الخضراء من هنا، ولكن علينا أن نقطع الجسر، وننعطف
مع الطريق، «أيوجد عند السيد باري بنات صغيرات ؟ لا أعني صغيرات جدا،


النص الأصلي

تهادى ماثيو كُتبيرت قائدًا فرسه البنية التي خبت بتؤدة على طول الأميال الثمانية المؤدية إلى بلدة برايت ريفر. كان الطريق جميلا ، يمتد تارة بين الأبنية الريفية الأنيقة، تتخلله بين فينة وأخرى أشجار التنوب العطرية، ويمتد تارة أخرى بين المنحدرات المتألقة ببراعم الخوخ البري الغضة. كان الهواء عليلًا يفوح بعبق بساتين التفاح، وكانت المروج تشق عباب المدى ماضية نحو ضباب الأفق بينما غردت العصافير الصغيرة كما لو أن النهار ما كان إلا النهار الصيفي الوحيد في


ذلك العام.


استمتع ماثيو برحلته على طريقته الخاصة، إلا أثناء لحظات مصادفته للنساء في الطريق واضطراره إلى الإيماء لهن برأسه محييا، ففي جزيرة برنس إدوارد يُفترض منك إلقاء التحية على كل من تصادفه في طريقك دون استثناء سواء كنت على معرفة سابقة به أم لم تكن.


كان ماثيو يفزع من جميع النساء عدا ماريلا والسيدة ريتشيل ؛ ولطالما ألح عليه شعور مزعج بأن تلك المخلوقات الغامضة كانت تهزأ منه في سرها، ومن المحتمل كثيرًا أن يكون شعوره هذا صحيحًا لأنه كان مخلوقا غريب الأطوار ، أخرق المظهر ، ذا شعر رمادي يصل إلى حدود كتفيه المنحنيين، ولحية كثة ذات لون بني فاتح التحاها منذ أن


كان في العشرين من العمر. وفي الحقيقة، لم يكن مظهر ماثيو وهو في العشرين من العمر يختلف كثيرا عما بدا عليه في الستين باستثناء افتقاره إلى القليل من الشيب.


بلغ ماثيو محطة برايت ريفر لكنه لم يجد ما يدل على وصول أي قطار، فظن أنه وصل مبكرًا جدًّا ؛ لذا عقل فرسه في باحة فندق برايت ريفر المتواضع، واتجه نحو مبنى محطة القطار. كان رصيف المحطة الطويل شبه مقفر، لا تستبين العين فيه إلا مخلوقا وحيدًا يجلس على كومة من الحصى عند نهاية الرصيف، وعندما مر ماثيو بالقرب من ذلك المخلوق ولحظ أنه كان فتاة حثّ خطاه مبتعدا عنها بأقصى سرعته دون أن ينظر إليها، ولو نظر لما أعجزته الملاحظة عن رؤية الترقب المتوتر والأمل في مسلكها وتعابيرها. كانت تجلس هناك تنتظر حدثًا ما أو شخصا ما. وبما أن الجلوس والانتظار كانا جُل ما تستطيع القيام به في ذلك الوقت، جلست وانتظرت بكل ما لديها من طاقة احتمال.


صادف ماثيو مسؤول المحطة وهو يغلق مكتب التذاكر تمهيدًا لعودته إلى البيت للعشاء، وسأله عما إذا كان قطار الساعة الخامسة


والنصف سيصل قريبًا.


«وصل قطار الساعة الخامسة والنصف وغادر منذ نصف ساعة،» أجاب ذلك المأمور المستعجل. ولكن يوجد هنا مسافر يخصك تم إنزاله من القطار بنت صغيرة، ها هي تجلس هناك على الحصى، لقد طلبت منها الذهاب إلى غرفة انتظار السيدات، ولكنها أعلمتني برزانة أنها تفضل البقاء خارجًا. قالت لي: هناك مجال أوسع للخيال، إنها بنت غريبة الأطوار حقا»


«أنا لا أتوقع حضور بنت » قال ماثيو بدهشة. « لقد جئت من أجل صبي، ويجب أن يكون هنا، فمن المتفق عليه أن تجلبه لي السيدة


أليكسندر سبنسر من نوفا سكوتيا.»


صفر مسؤول المحطة تعجبًا، وقال: «لا بد من وجود خطأ ما فالسيدة سبنسر نزلت من القطار بصحبة تلك الطفلة وسلمتها لي وقالت إنك وأختك ستأخذانها من ملجأ للأيتام، وإنك سوف تحضر لأخذها عما قريب، هذا كل ما أعرفه عن الموضوع وليس لدي في هذا الجوار أيتام آخرون أخفيهم عنك.»


«لست قادرًا على فهم شيء، قال ماثيو بنبرة يائسة، متمنيا وجود


ماريلا معه لتعالج المشكلة.


«أرى أنه من الأفضل لك استجواب الطفلة ، » قال مسؤول المحطة


بلا مبالاة. إني واثق من قدرتها على توضيح هذا الالتباس، فهي ليست بكماء بكل تأكيد، ولعله ما عاد لدى أصحاب الملجأ نوع من الصبية


الذي تريده.»


غادر الموظف الجائع المكان بسرعة، وبقى ماثيو التعيس وحده


لينجزما هو أصعب بالنسبة إليه من تحدّي أسد في عرينه.. السير قدما


نحو فتاة.. فتاة غريبة.. فتاة يتيمة.. ومحاسبتها لأنها لم تكن صبيًا. أنَّتْ


روح ماثيو عندما استدار وجرّ قدميه ببطء على طول الرصيف نحوها. كانت الطفلة تراقبه منذ مروره السابق من أمامها، وكانت تصوّب عينيها عليه بينما سلك طريقه نحوها. لكن ماثيو لم يكن ينظر إليها، ولو فعل لما استطاع أن يستبين شكلها، ومع ذلك فقد كان بإمكان أي


إنسان عادي أن يلاحظ التالي:


طفلة في حوالي الحادية عشرة من العمر، ترتدي فستانا قبيحا، بالغ الضيق والقصر من القطن السميك ذي البياض المائل للصفرة، تعتمر قبعة بحارة ذات لون بني باهت، تتدلى تحتها على امتداد الظهر ضفيرتان سميكتان حمراوان كانت ذات وجه صغير، نحيل، أبيض ومنمش، وذات فم واسع وعينين نجلاوين تبدوان في بعض الأضواء والأمزجة خضرواين وتميلان في أضواء وأمزجة أخرى نحو اللون


الرمادي.


أما إذا كان الناظر إليها ذا بصيرة أبعد من المراقب العادي فبإمكانه أن يرى أنها كانت ذات ذقن دقيقة واضحة التفاصيل، وأن عينيها النجلاوين مفعمتان بالطاقة والحيوية، وأن فمها محدد بشفتين رقيقتين معبّرتين ، وأن جبهتها عريضة وممتلئة ، وكان يمكن لهذا الناظر البصير الحاذق أن يستنتج بكل بساطة أنّ الروح التي تسكن جسم تلك الأنثى الصغيرة الشريدة لم تكن بالروح العادية؛ تلك الفتاة كان ماثيو الخجول خائفًا منها إلى حد مثير للسخرية.


لحسن الحظ، نجا ماثيو من كارثة مباردتها بالكلام، لأن الطفلة


ما إن تأكدت أنّه كان متوجها نحوها، حتى وقفت قابضة بيد هزيلة


سمراء على مسكة خُرْج رثّ قديم الطراز ، بينما مدت يدها الأخرى إليه لتصافحه.


أظن أنك السيد ماثيو كُتبيرت من المرتفعات الخضراء،» قالت بصوت لطيف واضح النبرات. «أنا سعيدة جدا بلقائك، لأني بدأت أشعر بالخوف من عدم حضورك لأخذي، وشرع خيالي يستعرض جميع العوائق التي قد تكون منعتك من المجيء. وأخيرًا، قررت في حال عدم مجيئك الليلة أن أقصد شجرة الكرز البري تلك عند منعطف الطريق ثم أتسلقها لأقضي ليلتي عليها، وثق أني لن أشعر بذرة من الخوف. ألا ترى معي أنه سيكون من الرائع أن أنام تحت ضوء القمر بين أحضان أغصان شجرة كرز بري متشحة بالبراعم البيضاء؟ ألا يمكنك حينها أن تتخيل أنك تعيش في قصر من الرخام ؟ على كل حال كنت متأكدة من


حضورك في صباح الغد إذا لم تحضر الليلة.»


صافح ماثيو اليد الصغيرة الهزيلة بارتباك، وهناك في تلك اللحظة توصل إلى حل يرضيه فما دام لم يملك الجرأة على إخبار هذه الطفلة ذات العينين المتوهجتين بأن هناك خطأ ما ، لذلك يستحسن أن ياخذها معه إلى البيت لتتولى ماريلا الأمر، وفي جميع الأحوال من المستحيل تركها في برايت ريفر، ومهما كانت فداحة الخطأ الذي حدث فإنه يمكن تأجيل جميع التساؤلات والاستفسارات إلى أن يرجع إلى المرتفعات الخضراء مصحوبا بالسلامة.


«أنا متأسف لأني تأخرت عليك.» قال ماثيو بحياء، «تعالي اتبعيني،


فالحصان في الباحة هناك، وأعطيني خُرجك لأحمله.»«أوه، أستطيع حمله وحدي، » ردّت الطفلة بمرح. «إنه ليس ثقيلًا. طبعا أنا أحمل داخله كل ما أملكه في هذا العالم، لكنه ليس ثقيلًا. إنه خرج بالغ القدم، وإذا لم يُحمل بطريقة معينة فإن مسكته قد تنقطع، لذلك يُستحسن أن أحمله أنا لأني أعرف كيفية التعامل معه. أوه، يسعدني قدومك حقًا ، رغم أنه كان من الرائع أن أنام بين أغصان شجرة کرز بري . أظننا سنستقل العربة لمسافة طويلة ، أليس كذلك ؟ علمت من السيدة سبنسر أنها ثمانية أميال، وهذا يسرني لأني أحب السفر، أوه من الرائع أن أنتمي إليكم وأعيش معكم، فأنا لم يسبق لي الانتماء إلى أحد انتماءً حقيقيًا، ولكن الملجأ كان أسوأ مكان ذهبت إليه. رغم أنه لم يمض على وجودي فيه سوى أربعة أشهر، إلا أن هذه المدة تكفيني. طبعا لا أظن أنك كنت يوما يتيمًا في ملجأ، ولذلك من الصعب عليك معرفة ما أعنيه. إنه أسوأ من أي شيء يمكنك تخيله. قالت لي السيدة سبنسر إن كلامي هذا مشين، لكني ما قصدت أن أكون سيئة. ألا تظن أنه من السهل على المرء أن يكون سيئًا دون أن يشعر بذلك ؟ أنا في الحقيقة لا أعني أصحاب الملجأ لأنهم كانوا أناسًا طيبين، ولكن الملجأ نفسه لا يوجد فيه أي مجال يسمح للخيال بالانطلاق، وكل ما كنت أستطيع فعله هو تخيل أشياء تتعلق بالأيتام الآخرين، وكان من الممتع فعلا تخيل الكثير من الأمور عنهم؛ ما رأيك مثلا إذا تخيلت أنّ الفتاة التي تجلس إلى جانبك هي في الحقيقة ابنة نبيل مهم، وأنها قد اختطفت من أهلها في طفولتها على يد ممرضة قاسية ماتت قبل أن تعترف. لقد اعتدت على البقاء مستيقظة في الليل لأتخيل أشياء كهذه لأني ما كنت أملك متسعا من الوقت في النهار. وأعتقد أني نحيلة لهذا السبب بل أظنني هزيلة جدًّا ، ألست كذلك ؟ فعظامي لا يكسوها أي


لحم أبدا.»


هنا توقفت رفيقة ماثيو عن الكلام لأن نَفَسَها كان قد انقطع، ولأنهما كانا قد وصلا إلى العربة، ولم تنبس ببنت شفة إلى أن غادرا القرية وانحدرا من تلة عالية صغيرة نحو الطريق المشقوق بعمق في التربة الناعمة، والذي انحنت على جانبيه براعم أشجار الكرز البري والبتولا


البيضاء الغضة، متدلية على مسافة بضعة أقدام من رأسيهما.


مدت الطفلة يدها وكسرت غصنًا من أغصان شجر البرقوق البري التي احتكت بحافة العربة. ثم سألته: «أليس هذا المنظر جميلا ؟ تُرى بم توحي لك تلك الشجرة ذات البراعم البيضاء المنحنية على ضفة


الطريق ؟»


«هه، لا أعرف حقا، أجاب ماثيو.


«عجبا! عروس طبعًا. عروس ترفل بثوب أبيض وتتشح بوشاح


سديمي جميل، ورغم أني لم أرعروسًا من قبل ، أستطيع تخيل ما يمكن


أن تكون عليه العروس. طبعًا ، أنا أعشق الملابس الجميلة رغم أني


على ما أذكر ، لم أحصل في حياتي على أي ثوب جميل، لكن ألا تظن أن


هذا شيء آخر من الأشياء التي يمكن أن أحلم بتحقيقها ؟ كما أنه بوسعي


متى شئت تخيل نفسي بثياب فائقة الروعة، عندما غادرت الملجأ هذا


الصباح شعرت بالخزي لاضطراري إلى ارتداء هذا الفستان القطني


البغيض، ولكن جميع الأيتام في الملجأ مضطرون إلى ارتدائه، يُقال إن تاجرًا في مدينة هو بتاون تبرع للملجأ في الشتاء الماضي بثلاثمائة متر من هذا القماش، ويقول البعض إنّه فعل ذلك لأنه لم يتمكن من بيعه، أما أنا فأفضل الاعتقاد بأن هذا العمل كان نابعًا من قلبه الشفوق، فما رأيك أنت؟ وعندما استقلينا القطار شعرت وكأن جميع الناس كانوا ينظرون إلي بإشفاق ولكني حلّقت مع خيالي ورأيتني أرتدي ثوبًا من الحرير الأزرق الفاتح لا يضاهي جماله شيء.. هذا لأنك عندما تتخيل شيئًا، يجب أن تتخيل كما يستحق التخيل.. كما رأيتني أعتمر قبعة عريضة تكللها الأزهار والريش المتطاير ، وأضع ساعة ذهبية وقفازات وجزمة يليقان بالأطفال، وسرعان ما شعرت بالابتهاج مما جعلني أستمتع برحلتي إلى الجزيرة استمتاعا كاملًا، وعندما استقلينا المركب لم أصب بالدوار، وكذلك السيدة سبنسر رغم أنها عادة تصاب بدوار البحر، وقالت لي إنها لم تجد متسعًا من الوقت لتصاب بالدوار وهي تراقبني خشية أن أقع في الماء، وقالت أيضًا إنها لم تر أحدا يضاهيني في كثرة الحركة. لكن إذا كان تنقلي في أرجاء المركب قد منعها من أن تصاب بالدوار أفلم يكن ذلك لصالحها ؟ لقد أردت رؤية كل شيء يمكن للمرء أن يراه على متن ذلك المركب لأني لا أعرف إذا كانت ستسنح لي فرصة أخرى لذلك. أوه، انظر، هناك المزيد من براعم شجر الكرز. إن هذه الجزرة تتفوق على جميع الأمكنة الأخرى بما فيها من البراعم وأنا أحبها منذ الآن، وكم أشعر بالسعادة لأني سأعيش هنا، وكثيرا ما حلمت بالعيش فيها، لكني لم أتوقع أبدًا تحقق هذا الحلم. ألا تظن أنه من الرائع أن تتحقق أحلامك ؟ مع ذلك أنا أرى أن هذه الطرقات الحمراء مضحكة للغاية. عندما وصل بنا القطار إلى مدينة تشارولت تاون وبدأت تلك الطرقات الحمراء تومض خلفنا أثناء تجاوزنا لها، سألت السيدة سبنسر عمّا يجعلها حمراء ؟ فقالت إنها لا تعرف، وأنه علي ، أن أكف عن طرح المزيد من الأسئلة عليها، إني قد سألتها حتى تلك اللحظة آلاف الأسئلة. في الحقيقة أظنني فعلت ذلك، ولكن كيف لك أن تعرف ما تريد معرفته عن الأشياء إذا لم تطرح أسئلة حولها ؟ والآن، ما الذي يجعل الطرقات حمراء ؟


«هه، لا أعرف حقا، أجاب ماثيو.


« لا بأس، هذا واحد من الأمور التي سأحاول معرفتها يوما ما، أليس


من الرائع أن يفكر المرء بكل تلك الأشياء التي يريد استكشاف كنهها ؟ بل إن هذا يجعلني أشعر بالسرور لأنني على قيد الحياة، فهذا العالم هو عالم مثير للاهتمام حقًا، ولو كنا نعرف كل شيء عن كل شيء فإن أهميته ستتضاءل إلى نصف ما هي عليه الآن، ألا تعتقد ذلك؟ كما أنه لن يكون فيه مجال للخيال، ولكن أتراني أثرثر كثيرًا ؟ إن الناس يقولون لي ذلك دائما، أتفضّل أن أصمت ؟ إذا شئت هذا، سأتوقف عن الكلام حالا، فأنا أستطيع التزام الصمت إذا عقدت نيتي، رغم صعوبة ذلك.»


كان ماثيو مندهشا من نفسه لاستمتاعه بهذه الرفقة، كان مثل


معظم الأشخاص الانطوائيين يحب صحبة الناس الثرثارين عندما يتبرعون بالكلام دون أن يستمتع بصحبة بنت صغيرة. كان يرى أن النساء سيئات بكل معنى الكلمة، ولكنه كان يعتبر الفتيات الصغيرات أسوأ من النساء، ولطالما مقت الطريقة الخجولة التي يتجاوزنه بها في الطريق، لكن هذه الطفلة كانت مخلوقًا مختلفًا ورغم أنه وجد شيئًا من الصعوبة في متابعة تدفقات فكرها الحيوي بفكره الأبطأ، شعر أنه يستسيغ ثرثرتها، ولذلك قال بحيائه المعتاد:


«آه، لا ، يمكنك التكلم قدر ما تشائين، أنا لا أمانع .


«أوه، كم يسعدني ذلك، أعرف أننا سنكون أنت وأنا على أتم وفاق مع بعضنا، إنّه من المريح أن يتكلم المرء عندما يرغب، وأن لا يُقال له إن الأطفال يجب أن يراهم الناس دون أن يسمعوهم، هذا ما كان يُقال لي ملايين المرات إن حدث وتكلمت ذات مرة، بالإضافة إلى أن الناس اعتادوا على السخرية مني لاستعمالي عبارات كبيرة في حديثي، ولكن ألا ترى أنه إذا كانت لديك أفكار كبيرة فمن المفترض أن تستعمل لها


عبارات كبيرة ؟»


«نعم، يبدوهذا معقولا،» أجاب ماثيو.


«قالت السيدة سبنسر: إن لساني معلّق من وسطه، ولكنه ليس


كذلك، إنه مثبت بإحكام عند نهاية حلقي ، كما قالت: إن منطقة


أملاكك تدعى المرتفعات الخضراء، وقد سألتها عن كل شيء يتعلق


بها. أخبرتني أنها محاطة بالأشجار، وكم شعرت بالسعادة عندما علمت


ذلك، فأنا أحب الأشجار، لم يكن في الملجأ أشجار تستحق الذكر


إلا بضع شجيرات ضئيلات ذابلات عند مدخل الملجأ من الخارج


تسوّرها قضبان باهتة البياض، وكانت تبدو وكأنها هي أيضا يتيمة،


لقد كانت كذلك حقًا، وكان النظر إليها يحفّز عندي الرغبة بالبكاء،


واعتدت أن اقول لها : أه أيتها الأشجار الهزيلة المسكينة كان يمكنك أن تكبري لو كنت في غابة شاسعة كبيرة تحيط بك الأشجار الأخرى وتنمو حول جذورك الطحالب وأزهار حزيران، ويؤنسك جدول قريب وتغني العصافير على أغصانك، ولكنك هنا لا تستطيعين النمو، أليس كذلك ؟ وعندما غادرت الملجأ هذا الصباح شعرت بالحزن لأني سأتركها وحدها، ألا ترى معي أن الانسان يصبح مولعًا كثيرًا بمثل هذه


الأشياء ؟ ترى أيوجد أي جدول بالقرب من المرتفعات الخضراء ؟


نسيت أن أسأل السيدة سبنسر هذا السؤال.»


ها، نعم هنالك جدول يجري تحت الدارة تماما.»


«يا للروعة ، كان السكن قرب جدول واحدًا من أحلامي، رغم أني لم


أتوقع تحقق هذا الحلم، فالأحلام لا تتحقق دائما، أليس كذلك؟ أما كان من اللطيف لو أنها كانت دائمة التحقق ؟ الآن.. والآن فقط أشعر أن سعادتي أصبحت شبه مكتملة.. شبه مكتملة لأني.. حسنا، أخبرني


ما هو اللون الذي يمكن أن تطلقه على هذا ؟»


هزت الطفلة رأسها نافضة عن كتفها النحيل واحدة من جديلتيها


الطويلتين اللامعتين، وأمسكتها رافعة إياها باتجاه عيني ماثيو ، لم يكن


ماثيو معتادًا على الحكم على ألوان ضفائر النساء ولكن في هذه الحالة


لم يكن هنالك مجال كبير للشك.


«إنه أحمر، أليس كذلك؟» قال.


أفلتت الفتاة الجديلة من يدها وزفرت زفرة بدت وكأنها صادرة من أعمق أعماقها، وأنها قد أطلقت معها أحزان العصور كلها. «نعم إنه أحمر،» قالت باستسلام. ها أنت تعرف الآن لماذا لا يمكن أن تكتمل سعادتي، ولا أحد لديه شعر أحمر يمكن أن يكون كذلك. إن عيوبي الأخرى لا تهمني كثيرًا، أعني النمش والعينين الخضراوين والهزال، إذ يمكنني أن أتخيل نفسي من دونها. أستطيع بكل سهولة تصوّر نفسي ببشرة وردية نقية وعينين بنفسجيتين حالمتين، ولكني لا أستطيع تصوّر هذا الشعر الأحمر على غير ما هو عليه، ومع أني أبذل جهدي وأحاول إقناع نفسي بقولي: إن شعري الآن فاحم السواد. أسود مثل جناح غراب، أعرف دائمًا أنه أحمر، وهذا يحطم قلبي، وسيبقى باستمرار حزني الأبدي. لقد قرأت ذات مرة في إحدى الروايات عن فتاة كان لديها حزن أبدي، ولكنه لم يكن بسبب الشعر الأحمر. كان شعرها ذهبيًا خالصًا، يتموّج فوق جبينها المرمري. أتعرف ما هو الجبين المرمري، لم أستطع أبدًا أن أعرف ما هو أيمكن أن تخبرني


عن معناه؟»


أخشى أني لا أستطيع، لأني لا أعرف، أجاب ماثيو الذي بدأ


يشعر بدوار لطيف، سبق له أن شعر بمثله ذات مرة في ريعان الطفولة


الطائشة عندما أغواه صبي آخر على ركوب أرجوحة دوامة الخيل في


إحدى النزهات.


«لا بأس، مهما يكن معناه لا بد وأنه شيء لطيف لأن تلك الفتاة


كانت بديعة الجمال، أسبق لك أن تخيّلت كيف يمكن أن يشعر المرء


إذا كان بديع الجمال ؟»في الحقيقة، لا ، لم أفعل،» اعترف ماثيو ببراءة.


«أنا أفعل ذلك غالبًا ، تُرى هل تفضّل فيما إذ كان لديك حق الخيار


أن تكون بديع الجمال أو مفرط الذكاء أو ملائكي الخصال؟»


«أنا.. أنا لا أعرف بالضبط أيهم أحسن.»


ولا أنا أيضا، ولا يمكنني أن أقرّر أبدًا ، ولكن هذا لا يشكل فارقًا مهما ، لأني على ما يبدو لن أتحلى بأية صفة من هذه الصفات، ومن المؤكد أني لن أكون ملائكية الخصال، تقول السيدة سبنسر.. أوه يا


سيد كتبيرت ، يا سيد كتبيرت، يا سيد كتبيرت !!!»


لم يكن هذا ما قالته السيدة سبنسر، كما أن الطفلة لم تكن على وشك الوقوع من العربة، وكذلك لم يقم ماثيو بأي عمل مثير للدهشة، بل كانا بكل بساطة قد وصلا إلى منعطف طريق، ووجدا نفسيهما أمام


طريق أفينيو المشجر.


كان الطريق المشجر، الذي يطلق عليه أهل قرية نيوبريدج اسم


أفينيو، يمتد على طول أربع أو خمسمائة متر، تكلله قناطر من أشجار


التفاح الضخمة التي يكتظ بها المكان، والتي زرعها منذ زمن مزراع


غريب الأطوار، وكانت أغصان الأشجار العالية المكتسية بالبراعم


العبقة تتشابك منحنية ومتراصة كقبة ثلجية، وقد تضرج الجو تحتها


بظلال الشفق الأرجوانية، بينما شعت السماء عند نهاية الطريق


موشاة بألوان الغروب، وكأنها نافذة مستديرة مخرمة لمبنى ما، تقع


عند نهاية الممر أصاب جمال هذا المشهد الطفلة بالخرس، فتراجعت مستندة على مقعد العربة، وقد تشابكت يداها النحيلتان أمامها، وانتصب وجهها بانتشاء متطلعا إلى الأعلى نحو ذلك السناء الأبيض. لم تتحرك أو تتكلم حتى بعد أن تجاوزا المكان، واتجها نزولا على طول المنحدر نحو نيوبريد، وبقيت مستغرقة في سكينتها تحملق باتجاه الغروب بعينين شهدتا للتوّرؤى احتشدت بروعة في ذلك المكان الباهر، وتابع المسافران طريقهما بصمت أيضًا عندما مرا في نيوبريدج، القرية الصغيرة الصاخبة التي نبحت فيها الكلاب عليهما، وصاح الصبية، واسترقت الوجوه الفضولية النظر إليهما عبر النوافذ، وظلت الطفلة صامتة حتى بعد مضيهما قدمًا على طول ما يقارب ثلاثة أميال، كان يمكنها أن تلتزم الصمت، كان هذا واضحًا، بل كان يمكنها أن تصمت


بنفس الطاقة التي تستطيع أن تتكلم بها.


«أعتقد أنك تشعرين بالإرهاق والجوع، قال ماثيو مجازفًا في النهاية، مفسرا سبب استغراقها في الصمت بالشيء الوحيد الذي خطر على باله «ولكن لم يتبق لنا مسافة طويلة لنقطعها الآن، ميل آخر فقط.»


استفاقت الطفلة من أحلام يقظتها، وهي تتنهد بعمق، ونظرت إليه نظرة روح حالمة كانت تتجول بعيدا برعاية النجوم.


«أوه يا سيد كتبيرت» ، همست. «ذلك المكان الذي كنا فيه.. ذلك المكان الأبيض.. ماهو ؟»


«ها، لا بد وأنك تقصدين الطريق المشجّر أفينيو» ، أجاب ماثيو بعد عدة لحظات من التفكير العميق. إنه مكان لطيف نوعا ما.»


«لطيف ؟ أوه، لا تبدو كلمة لطيف الكلمة المناسبة هنا، ولا حتى


كلمة جميل لا تفي بالغرض. ربّاه، إنه رائع.. رائع. إنه الشيء الوحيد الذي رأيته، والذي لا يمكن أن يضيف عليه الخيال أي شيء. لقد أشعرني بالاكتفاء هنا ، ووضعت يدًا على قلبها. «لقد أصابني بوجع


غريب عجيب ولكنه كان وجعًا محببًا.


أسبق لك أن شعرت بمثل هذا النوع من الوجع يا سيد كتبيرت؟»


في الواقع، لا أذكر أنه قد سبق لي الإحساس بذلك.»


«أما أنا فإني أشعر به كثيرًا، وذلك كلما رأيت شيئًا ملكي الجمال


ولكن ما كان يجدر بهم أن يطلقوا على ذلك المكان مثل هذا الاسم،


ليس هناك أي معنى لهذا الاسم، كان يجب أن يسموه.. دعني أفكر...


نعم، درب البهجة الأبيض، أليس هذا بالاسم الخيالي الجميل ؟ عندما


لا يعجبني اسم مكان أو شخص أخترع له اسمًا جديدًا، وأتخيله دائمًا


بالاسم الذي اخترعته له. كان لدينا في الملجأ فتاة تدعى هيبزيبا جينكز


ولكني تخيلتها دائمًا باسم روزالينا دو فير، يمكن للناس أن يطلقوا


على ذلك المكان اسم الطريق المشجر ، أما أنا فسأسميه من الآن


فصاعدًا: درب البهجة الأبيض، أحقًا لم يبق بيننا وبين الوصول إلى


البيت سوى ميل آخر ؟ أنا سعيدة وحزينة في نفس الوقت. أنا حزينة؛


لأن هذه الرحلة كانت ممتعة جدا ، وعادة يصيبني الحزن عندما تنتهي


الأشياء الممتعة، قد تأتي في المستقبل أشياء أكثر إمتاعا منها، ولكنك لا يمكنك أبدًا أن تكون متأكدًا من ذلك، بل غالبًا ما يكون الآتي أقل إمتاعًا. هذا، على كل حال ما عرفته من تجاربي. ولكني سعيدة لأننا سنصل إلى البيت، فأنا على ما أذكر لم يكن لي بيت حقيقي من قبل، ومجرد التفكير بأني سأعيش في بيت حقيقي يسبب لي ذلك الوجع المحبب مرة أخرى، أليس هذا لطيفا ؟»


وصلت العربة إلى قمة تلة، فأشرفا على بركة بدت أشبه بنهر طويل ملتو، يقطعها عند منتصفها جسر ممتدّ فوقها، ومن بدايتها إلى طرفها الأقصى الذي يفصله عن الخليج الداكن الزرقة حزام من تلال الرمل الكهرماني اللون، سطع الماء فيها هالةً من الظلال الوجدانية المضرجة بالصفرة الغامقة والحمرة الوردية والخضرة الأثيرية، والمتداخلة مع ألوان أخرى من تلك المحيّرة التي لم يتم العثور على أسماء لها أبدًا.


ومن على ضفّة البركة انحنت بين مكان وآخر أشجار البرقوق، كل شجرة كأنها صبية ترفل برداء أبيض، وتقف على رؤوس أصابعها؛ لتتأمل انعكاس صورتها في الماء، كانت البركة تمتد بعد الجسر متغلغلة في الأحراش المحفوفة بأشجار التنوب والقيقب؛ لتهجع بخفاء تحت ظلال الأغصان المتمايلة، ومن المستنقع الواقع عند رأسها تعالى نشيد جوقة الضفادع صادحًا برخامة حزينة ، وإلى الوراء عند المرتفع انبثق بستان تفاح يطل عليه منزل رمادي صغير، ورغم أن العتم لم يكن قد حلّ بعد، كان هناك ضوء يسطع من إحدى نوافذه.


قال ماثيو «تلك بركة باري.»«آه ، لم أحب هذا الاسم أيضًا، سأدعوها .. حسنا، دعني أفكر... سأدعوها بحيرة المياه البراقة. نعم، هذا هو الاسم المناسب لها، أنا أعرف بسبب الرعشة التي أشعر بها، فعندما أُوفق في العثور على اسم مناسب للشيء الذي أريد تسميته أصاب بهذه الرعشة، هل تسبب لك


الأشياء أي شعور بالارتعاش ؟»


حاول ماثيو اجترار أفكاره.


«نعم، أعتقد ذلك، أنا عادة أشعر بالارتعاش عندما أرى تلك


اليرقانات البيضاء في غرسة القثاء، وأنا في الحقيقة أكره رؤيتها.»


«أوه، لا أعتقد أن هذا هو نفس النوع من الارتعاش الذي أعنيه،


أتعتقد أنه يمكن أن يكون كذلك ؟ لا يبدو أن هنالك علاقة كبيرة بين اليرقانات وبين البحيرات ذات المياه البراقة، أليس كذلك؟ ولكن لماذا


يسميها الناس بركة باري؟»


«أظن لأن السيد باري يعيش هناك في ذلك المنزل، واسم منطقته


منحدر البستان، ولولا تلك الأجمة الكبيرة خلفه لكان بإمكانك رؤية


المرتفعات الخضراء من هنا، ولكن علينا أن نقطع الجسر، وننعطف


مع الطريق، وهذا يعني ما يقارب مسيرة نصف ميل بعد.»


«أيوجد عند السيد باري بنات صغيرات ؟ لا أعني صغيرات جدا، بل


بحجمي تقريبا ؟»


لديه ابنة في حوالي الحادية عشرة من العمر، اسمها ديانا.»أخذت الطفلة نفسًا طويلًا وهتفت: «ياله من اسم بديع الجمال»


«هه، لا أعرف حقًا ، يبدولي أن هناك شيئًا غريبا غير محبب فيه، أنا أفضل اسم جين أو ماري أو أي اسم آخر معقول، ولكنه صدف أنه عندما ولدت ديانا كان يقيم عندهم أستاذ مدرسة، وطلبوا منه


تسميتها، فاختار لها اسم ديانا.»


«أتمنى لو كان هناك أستاذ مدرسة عندما ولدت أوه، ها نحن


قد وصلنا إلى الجسر، سوف أغمض عيني بقوة، فأنا أخاف عبور الجسر دائما، ولا أستطيع منع نفسي من تخيل أنها ربما عندما أصل إلى منتصفها ستتقوض مبتلعة كل شيء كأنها مطواة في طريقها إلى الانغلاق؛ لذلك أغمض عيني، لكني دائما أفتحهما على وسعهما عندما أعتقد أني بلغت منتصفه؛ لأنه إذا حدث وانهار الجسر أرغب فعلا في


رؤيته أثناء تقوّضه.


يا للقعقعة المرحة التي تصدر عنه، لطالما أحببت هذا الجزء من


عملية عبور الجسور، أليس من الرائع أن تكون هناك أشياء كثيرة


نحبها في هذا العالم ؟ ها نحن قد تجاوزناه أخيرًا ، الآن سأنظر إلى الوراء،


تصبحين على خير يا بحيرة المياه البراقة الغالية. أنا دائما ألقي تحية


المساء على الأشياء التي أحبها، كما أفعل مع الناس تمامًا، أظن أن هذه


الأشياء تحب ذلك، تلك المياه بدت وكأنها تبتسم لي عندما حييتها.»


عندما وصلت بهما العربة إلى التلة الأخيرة وانعطف بهما الطريق،


قال ماثيو: «أصبحنا قريبين جدا الآن، تلك هي المرتفعات الخضراء عن.....


«أوه، لا.. لا تخبرني شيئًا ، » قاطعته متسارعة الأنفاس، ممسكة ذراعه التي هم برفعها مشيرًا ، ومغلقة عينيها حتى لا ترى إشارته، «دعني أخمن أنا متأكدة أني سأعرفها وحدي.»


فتحت عينيها ونظرت حولها ، كانا على قمة تلّة، وكانت الشمس قد غربت منذ بعض الوقت، ولكن الطبيعة احتفظت بمعالمها واضحة في كنف سماء الغروب اللطيف. رأت في أسفل التلة واديا صغيرا يمتد بعده طريق منعطف طويل طفيف الارتفاع تبعثرت على امتداده الأبنية الريفية الأنيسة، تنقلت عينا الطفلة من مسكن لآخر بلهفة وتوق، وأخيرًا، وعلى ضوء الشفق المتغلغل في الأحراج، وبعيدا عن الطريق المأهولة باتجاه اليسار، حطّت عيناها على منزل ناء عن الطريق، ظللته الأشجار المزهرة ببياض مبهم ، ولمعت فوقه عند سماء الجنوب الغربي الصافية، نجمة عظيمة لامعة كالزجاج، كأنها مصباح


هداية وبشارة.


«ذاك هو ، أليس كذلك ؟ قالت مشيرة بيدها.


ساط ماثيو ظهر فرسه البنية بابتهاج.


«حسنًا لقد حزرت، ولكني أظن أن السيدة سبنسر وصفته لك،


ولذلك تمكنت من معرفته.»


«لا ، لم تفعل، صدقًا لم تفعل، كل ما قالته يتعلق تقريبا بجميع تلك الأماكن التي مررنا بها ، لم تكن لدي أدنى فكرة عما هي عليه المرتفعات


الخضراء ولكني ما إن رأيتها شعرت أن هذا هو البيت.


يبدولي وكأني في حلم، أتعرف، لا شكّ أنّ ذراعي أصبح الآن كالح الزرقة ابتداءً من المرفق إلى الساعد، لأني اليوم قرصت نفسي مرات لا تحصى؛ إذ كان ينتابني بين فينة وأخرى إحساس مفزع مروّع بأن ما يجري ليس إلا مجرد حلم، إلى أن خطر لي فجأة أني حتى لو افترضت أنه مجرد حلم فمن الأفضل لي الاستمتاع به قدر المستطاع، لذلك كففت عن قرص ذراعي، لكن هذا ليس حلمًا، إنّه حقيقة أكيدة، ونحن على


وشك الوصول إلى البيت.»


تنهدت الطفلة بجذل وأخلدت إلى الصمت، لكن ماثيو شعر بقلق مربك، وحاول طمأنة نفسه بأنّ ماريلا هي من سيخبر هذه الطفلة بأن


البيت الذي تتوق إليه لن يكون في النهاية بيتها.


تجاوزا غور ليند الذي كان قد عمه الظلام، ولكن ليس إلى ذلك الحد من الظلام الذي لا يسمح للسيدة ريتشيل أن تراهما من خلال نافذتها، اتجها بعد ذلك نحو التلة ثم سلكا درب المرتفعات الخضراء الطويل، وفي الوقت الذي وصلا فيه إلى الدارة كان قلب ماثيو مثقلا بشعور غريب لم يستطع فهمه ، ومنقبضًا من المواجهة المنتظرة، لم يكن يفكر بماريلا أو بنفسه أو بالمشكلة التي سيسببها لهما هذا الخطأ، بل بخيبة أمل تلك الطفلة، وعندما فكر بذلك البريق النشوان في عينيها الذي سيتم إخماده، سيطر عليه الشعور بأنه كان على وشك المشاركة في ارتكاب جريمة.. شعور يماثل الشعور الذي يهيمن عليه عندما يضطر إلى نحر حمل أو عجل أو أي مخلوق آخر صغير وبريء. كان الفناء غارقا في العتمة عندما دخلاه، وكانت أوراق شجر الحور


تهمهم فيه بلطف.


«أنصت إلى الأشجار وهي تحكي أثناء نومها ، همست الطفلة لماثيو


عندما حملها من العربة إلى الأرض، يا للأحلام الجميلة التي تحلم بها.»


ثم تبعته إلى البيت، قابضة بإحكام على مسكة الخرج الذي يحتوي


كل ما تملكه في هذا العالم.


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

يظهر البحث الحا...

يظهر البحث الحالي أن مستخدمي الإنترنت في الأردن يتزايد على المستوى المعلوماتي للحكومة الإلكترونية. و...

جرائم معالجنحي ...

جرائم معالجنحي التلبسي عدد ،73831/85 على أساس الفصل 521 من ق.ج المتعلق بالاختلاس العمدي لقوى كهربائ...

يكمن هدف التدري...

يكمن هدف التدريس في تحقيق النموّ في الجانب المعرفيّ، والجانب النفسيّ، والحركي، والوجدانيّ للفرد، وتم...

نشاط : مشاركة ا...

نشاط : مشاركة المرأة في الاحزاب السياسية. اختر أحد الأحزاب السياسية التي ترغب في الانضمام إليها أو ...

in their state ...

in their state of language acquisition. If they use the plural marker and answer “wugs”, which is pr...

ثانياً: الدولة ...

ثانياً: الدولة والمجتمع المدني: علاقات التكامل: لاشك أن فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني على أ...

Caitlin Clark G...

Caitlin Clark Gets New Nickname From Stephen A. Smith Amid WNBA Hype.Numbers don't lie, which is why...

- دعت باكستان ط...

- دعت باكستان طاجيكستان لاستخدام ميناء كراتشي لتجارة الترانزيت حيث اتفق البلدان على تعزيز التعاون، و...

كانت العلاقة بي...

كانت العلاقة بين الإمبراطورية العثمانية وبريطانيا العظمى جيدة في القرن التاسع عشر، ولكن في أوائل الق...

سبق وأن قام وال...

سبق وأن قام والدي المؤرخ المرحوم (عبدالرحمن بن سليمان الرويشد) بتكليف من الأمير المرحوم فهد بن محمد ...

في علم النفس كا...

في علم النفس كان هناك صراع بين التحليل النفسي و العلاج السلوكي، حيث ركز كلاهما على البؤس والصراع، مع...

وأعظم الأسباب ل...

وأعظم الأسباب لذلك وأصلها وأسها هو الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى : مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَ...